في 1423 هـ (2002)، وقع الرئيس جورج دبليو بوش على مشروع قانون يمنح الرئيس الأمريكي سلطة غزو هولندا – أو أي مكان آخر على وجه الأرض – من أجل تحرير مواطن أمريكي أو مواطن حليف للولايات المتحدة محتجز بتهمة ارتكاب جرائم حرب في المحكمة الجنائية الدولية، ومقرها في مدينة لاهاي الهولندية.
وعلى الرغم من عدم قيام أي رئيس بتنفيذ هذا التهديد إلى اليوم، فإنه يشكل اختصارًا لعلاقة الولايات المتحدة بالمحكمة. (عارض الرئيس جو بايدن، الذي كان آنذاك عضوا في مجلس الشيوخ، التعديل الذي يجيز غزو لاهاي قبل أن يصوت في النهاية لصالح مشروع القانون).
وكان الهدف من القانون درء شبح محاكمة القوات الأميركية على الفظائع التي ارتكبت خلال “الحرب على الإرهاب” الوليدة، لكن مقاربة الرعب الأمريكي فيما يتعلق بلاهاي لها جذورها في سياسة الدعم غير المشروط لإسرائيل، والتي تنتهجها الولايات المتحدة منذ فترة طويلة.
وفي العام نفسه، سحب بوش ونظيره الإسرائيلي، أرييل شارون، توقيعي الولايات المتحدة وإسرائيل من نظام روما الأساسي، المعاهدة التي أسست المحكمة الجنائية الدولية.
ومنذ ذلك الحين، ظلت المعارضة الأميركية والإسرائيلية لأي محاولة من جانب المحكمة لمحاسبة إسرائيل على انتهاكاتها المحتملة للقانون الدولي، قوية.
أصدرت المحكمة الجنائية الدولية يوم الخميس مذكرات اعتقال بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، ووزير الدفاع السابق، يوآف غالانت، متهمة القادة بتعمد منع المساعدات من دخول غزة بهدف استهداف المدنيين الفلسطينيين، وباستهداف المدنيين بضربات عسكرية على غزة.
كما أصدرت مذكرة اعتقال بحق القيادي في حماس، محمد ضيف، بينما ألغت مذكرات اعتقال بحق إسماعيل هنية ويحيى السنوار، وهما من قادة حماس الذين قتلتهم إسرائيل.
وتتطلب أوامر الاعتقال التي أصدرتها لجنة من ثلاثة قضاة من الدول الأعضاء في نظام روما – البالغ عددها 124 دولة – اعتقال نتنياهو وجالانت، وتسليمهما إلى مسؤولي لاهاي للمحاكمة، في اللحظة التي تطأ فيها أقدام أي من الرجلين المطلوبين أراضيها.
وتضم قائمة الدول الأعضاء العديد من حلفاء الولايات المتحدة، مثل ألمانيا وفرنسا، والمملكة المتحدة، وكندا، إلى جانب معظم دول العالم الأخرى.
ورغم أن إدارة بايدن لم تعلق بعد على مذكرات الاعتقال، إلا أن الرئيس وصف الفكرة بأنها “مثيرة للسخرية” عندما تقدم المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية، كريم خان، بطلب إصدار مذكرات اعتقال في 10 ذو القعدة 1445 هـ (20 مايو 2024).
وتابع بايدن خلال فعالية في البيت الأبيض للاحتفال بشهر التراث اليهودي: “مهما كان ما قد يقصده هذا المدعي العام، فلا يوجد أي تكافؤ بين إسرائيل وحماس. سنقف دائمًا إلى جانب إسرائيل ضد التهديدات لأمنها”.
لقد أوفى بايدن بوعده في الأشهر التي تلت ذلك، واستمر في إرسال الأسلحة إلى إسرائيل والتصويت ضد جميع التدابير الدولية التي تنتقد السلوك الإسرائيلي – أو حتى تدعو إلى وقف إطلاق النار – في الأمم المتحدة.
في ربيع أول 1446 هـ (18 سبتمبر 2024)، صوتت الولايات المتحدة ضد قرار الأمم المتحدة الذي دعا إلى إنهاء احتلال إسرائيل للأراضي الفلسطينية في الضفة الغربية والقدس الشرقية وغزة، حيث صوتت 124 دولة من أصل 181 دولة في الجمعية العامة للأمم المتحدة لصالح الإجراء.
وفي 19 جمادى الأولى 1446 هـ (21 نوفمبر 2024)، استخدمت إدارة بايدن حق النقض ضد قرار آخر لوقف إطلاق النار في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة – وهو القرار الرابع من نوعه الذي صوتت ضده.
وزعم السفير الأمريكي لدى الأمم المتحدة، روبرت وودز، أن القرار لم يتضمن دعوات للإفراج الفوري عن الأسرى الذين احتجزتهم حماس في عملية السابع من أكتوبر، على الرغم من أن الوثيقة دعت إلى الإفراج غير المشروط عن الرهائن.
ومن بين الدول الخمس عشرة في المجلس، كانت الولايات المتحدة هي الدولة الوحيدة التي صوتت ضد القرار.
إن مذكرات الاعتقال الصادرة عن المحكمة الجنائية الدولية تضع حلفاء الولايات المتحدة وإسرائيل في موقف محرج: إما الحفاظ على الشراكة مع الولايات المتحدة، أو احترام التزاماتها تجاه محكمة لاهاي.
وحتى الآن، قال رئيس الوزراء الكندي جاستن ترودو إن حكومته “ستدافع عن القانون الدولي،” و”تلتزم بجميع اللوائح والأحكام الصادرة عن المحاكم الدولية”.
وقد أعربت فرنسا والمملكة المتحدة عن دعم مماثل، لكن ألمانيا، التي تقدم أيضًا مساعدات عسكرية لإسرائيل، لم تصدر بعد أي بيان رسمي حول خططها للرد.
ولقد اضطر الرئيس الروسي فلاديمير بوتن، الذي يواجه هو الآخر مذكرة اعتقال صادرة عن المحكمة الجنائية الدولية، إلى تغيير خطط سفره لتجنب الاعتقال.
ولكن في 29 صفر 1446 هـ (3 سبتمبر 2024)، تمكن من السفر من وإلى منغوليا، الدولة الموقعة على نظام روما الأساسي، دون وقوع أي حوادث عدا تظاهرات محدودة ،تم منع المشاركين فيها من الاقتراب من الرئيس الروسي الذي حظى باستقبال رسمي باذخ.
وبالإضافة إلى مذكرات الاعتقال الصادرة عن المحكمة الجنائية الدولية، فإن شهر ربيع أول 1447 هـ (سبتمبر 2025) هو موعد انتهاء المهلة التي حددتها الأمم المتحدة لإسرائيل، لإنهاء احتلالها للضفة الغربية والقدس الشرقية.
كما تواصل أعلى محكمة تابعة للأمم المتحدة، محكمة العدل الدولية، الإشراف على محاكمة الإبادة الجماعية التي رفعتها جنوب أفريقيا ضد إسرائيل، ولكن هذه العملية من المرجح أن تستغرق عدة سنوات أخرى.
وقال مايكل لينك، خبير القانون الدولي الذي شغل منصب المقرر الخاص للأمم المتحدة المعني بحالة حقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة أن من بين الأسباب التي دفعت الولايات المتحدة إلى معارضة نظام روما وتشكيل المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي، القلق من أن قوانين المحكمة تجرم المستوطنات الإسرائيلية على الأراضي الفلسطينية في الضفة الغربية.
كما استشهدت إسرائيل بالنظام الأساسي، الذي يحظر النقل القسري للسكان المدنيين من قبل قوة عسكرية محتلة، من بين أسباب معارضتها للمعاهدة.
ومنذ ذلك الحين، عارضت الولايات المتحدة تحقيقات أخرى في الفظائع الإسرائيلية المزعومة، فضلاً عن محاولات المحكمة محاسبة أفراد الجيش الأمريكي على جرائم الحرب المزعومة في أفغانستان.
كما فرضت إدارة ترامب عقوبات علخى مسؤولي المحكمة الجنائية الدولية المتورطين في تحقيقات سابقة في السلوك الإسرائيلي، وتجميد أصولهم ومنعهم من السفر إلى الولايات المتحدة.
ألغى بايدن الإجراء لكنه استمر في التعبير عن دعمه لإسرائيل في مواجهة المزيد من ضغوط المحكمة الجنائية الدولية.
في 27 ذو القعدة 1446 هـ (4 يونيو 2024)، دعا مشروع قانون يقوده الجمهوريون في مجلس النواب، بدعم من 42 ديمقراطيًا، إلى جولة جديدة من العقوبات على المحكمة الجنائية الدولية.
وفي حين أدانت الولايات المتحدة الإجراءات القانونية التي تتبعها المحكمة عندما طبقتها على إسرائيل، فقد رحبت ببعض الإجراءات الأخرى التي اتخذتها المحكمة، بما في ذلك إصدار المحكمة الجنائية الدولية أوامر اعتقال بحق مسؤولين روس، بما في ذلك الرئيس الروسي فلاديمير بوتن، بسبب بعض أفعال روسيا في حربها على أوكرانيا.
وقالت جينيفر تراهان، أستاذة القانون الدولي وحقوق الإنسان بجامعة نيويورك: “في البداية، وصف بايدن هذه المذكرات بأنها” شنيعة “- لكنها نفس المؤسسة التي أصدرت مذكرات اعتقال ضد روس وحظيت بالثناء على قيامها بذلك.”
كما أشارت إلى دعم الولايات المتحدة لتحقيقات أخرى للمحكمة الجنائية الدولية، مثل قضية عام 1433 هـ (2012) ضد زعيم المتمردين الأوغنديين جوزيف كوني، مؤسس ما يُسمى بجيش الرب للمقاومة.
في عام 1443 هـ (2021)، أعلنت وزارة خارجية بايدن عن مكافأة قدرها 5 ملايين دولار مقابل معلومات تؤدي إلى العثور على كوني، الذي لا يزال هاربًا.
كما دعمت إدارة أوباما قضية المحكمة الجنائية الدولية ضد عمر البشير، والذي كان أول رئيس دولة توجه إليه المحكمة اتهامات أثناء تواجده في السلطة.
وقال لينك “ضعوا في اعتباركم أن هذه هي المرة الأولى التي تصدر فيها المحكمة الجنائية الدولية أوامر اعتقال ضد أي حليف للغرب – وقد كانت هذه الأوامر [تصدر لأجل] أفريقيا بشكل حصري تقريبًا”.
وبينما أشادت جماعات حقوقية بمذكرات المحكمة الجنائية الدولية، تساءل البعض عما إذا كان بايدن نفسه سيُحاسب على التواطؤ في الحرب الإبادة الجماعية التي شنتها إسرائيل في غزة.
لقد قدمت إدارة بايدن أكثر من 20 مليار دولار كمساعدات عسكرية لإسرائيل، مما أدى إلى تأجيج عدوانها العسكري في غزة، حيث قُتل أكثر من 44000 فلسطيني، أكثر من نصفهم من النساء والأطفال، وأكثر من 3500 في لبنان.
وقالت وزارة الخارجية الأسبوع الماضي، أنها ستواصل تسليح إسرائيل، حتى بعد فشل البلاد في تلبية معظم مطالب الإدارة لتحسين تدفق المساعدات الإنسانية إلى غزة.
وهناك سابقة قانونية لقضايا مماثلة ضد موردي الأسلحة، مثل قضية فرانس فان أنرات، رجل الأعمال الهولندي الذي أدانته محكمة لاهاي في عام 1426 هـ (2005) بتهمة التواطؤ في جرائم حرب بسبب دوره في بيع مواد إلى حكومة صدام حسين، والتي استخدمت في صنع الأسلحة الكيميائية.
وقال لينك إن محكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية تتمتعان بالوضع القانوني لمتابعة قضية ضد المسؤولين الأميركيين لمساعدتهم في الفظائع التي ترتكبها إسرائيل، ولكن بسبب الموارد القضائية المحدودة، فإن توجيه مثل هذه الاتهامات غير مرجحة.
ذا إنترسبت
اترك تعليقاً