من آن لآخر، يأتي حدث يأسر انتباه كافة وسائل الإعلام، بل والعالم بأسره.
يفترض عامة الناس أن وقوع إبادة جماعية في مكان ما، هو من الأحداث التي تستلزم هذا اللفت الحاد للانتباه الإعلامي -والزخم بالتبعية- وإجراءات دولية عاجلة وحاسمة لمعالجة الوضع.
ويشهد الواقع بعكس ذلك.
إن مجرد وصف حالة ما بأنها إبادة جماعية، أو حالة إبادة جماعية محتملة، لا يضمن اتخاذ إجراء دولي لوقفها.
شواهد من الواقع
منذ ربيع الثاني 1445هـ (أكتوبر 2023م)، حذرت أليس ويريمو نديريتو، مستشارة الأمم المتحدة الخاصة لمنع الإبادة الجماعية، من احتمال وقوع إبادة جماعية في الصراعات الدائرة في إثيوبيا والسودان.
كما وصف ستة وثلاثون خبيرًا مستقلاً في الأمم المتحدة تصرفات “إسرائيل” في الأراضي الفلسطينية المحتلة بأنها “إبادة جماعية في طور التكوين”.
ومع ذلك، لم يتم سوى القليل من العمل الدولي المنسق لمنع التصعيد. وباستثناء قصف غزة، لم يتم إيلاء سوى قدر ضئيل نسبياً من الاهتمام الإعلامي الدولي للتحذيرات أو الصراعات المذكورة.
دروس من تاريخ العمل الإعلامي
إن سجل الصحافة العالمية في تغطية جرائم الإبادة الجماعية أثناء وقوعها ليس مشرفاً.
على سبيل المثال، تعرضت التغطية الإعلامية الغربية لانتقادات شديدة بسبب فشلها في وصف الفظائع في رواندا والبوسنة بدقة على النحو الذي من شأنه تعبئة وتحريك الرأي العام العالمي.
هناك العديد من الدروس التي يمكن تعلمها من رواندا على وجه الخصوص؛ يحوي كتاب (الإعلام والإبادة الجماعية في رواندا) The Media and The Rwandan Genocide الذي كتبه مجموعة من الصحفيين والأكاديميين على كثير منها.
أحد هذه الدروس هو ضرورة الإلمام المراسلين الجيد بتاريخ وسياق الصراع، والعمل على نقل هذه الثقافة للجمهور.
في رواندا عندما بدأ العنف، كان عدد المراسلين الدوليين على الأرض قليل.
واحتاج هؤلاء القليل وقتاً طويلاً حتى تمكنوا من التعرف على حقيقة ما يجري,، واستيعاب الأحداث والتفكر فيها.
تقول ليندا ميلفيرن، وهي صحفية استقصائية ومؤلفة كتابين عن الإبادة الجماعية في رواندا، إن الصحافة الغربية في البداية أخطأت في توصيفها لما يحدث على أنه “أحقاد قبلية قديمة… وحشية قبلية لا يمكن السيطرة عليها، ولا يمكن فعل أي شيء حيالها”.
مزية الخبرة المحلية وضرورة الاستفادة منها تشابه تغطية الإبادة الجماعية في القارة الأفريقية التغطية الغربية من جهة اتسامها إلى حد كبير اللامبالاة.
ومع ذلك، فإن المقارنة بين تغطية الصحافة الغربية وتغطية صحيفتين أفريقيتين كبار، واحدة كينية والأخرى نيجيرية، كشفت عن فارق رئيس بينهما.
فقد وجد د. إيمانويل سي. ألوزي، أستاذ الاتصالات الإعلامية في جامعة جفرنرز ستيت في إلينوي، أن “التقارير الواردة في كلا الصحيفتين حاولت استكشاف خلفية الأزمة وتداعياتها”.
وهو ملحظ مهم، خاصة عند الأخذ في الاعتبار أن الصحافة العالمية كثيراً ما تُتهم بالفشل في القيام بذلك.
تخطي حواجز الآلة الإعلامية الغربية
تسبب ظهور الإنترنت في تغيرات جذرية في المشهد الإعلامي خلال الثلاثين سنة الماضية، إلا أن هذه الدروس تظل ذات صلة فيما يتعلق بتغطية جرائم الإبادة الجماعية اليوم.
فقد واجهت الصحافة الدولية انتقادات في تقاريرها عن القصف الوحشي على غزة مماثلة باستخدام تعبيرات تجرد أهل غزة من إنسانيتهم، وتتجاهل السياق التاريخي للأحداث، وتصور قتل الفلسطينيين على أنه أمر مأساوي ولكن مقبول.
لكن على عكس رواندا، هذه المرة، حدث تغيير في قواعد اللعبة: استطاع الصحفيون والنشطاء الفلسطينيون أن يتخطوا حواجز البوابات الإعلامية، والوصول مباشرة إلى الجماهير على الإنترنت بالصور والشهادات التي تنقل الواقع المرعب على الأرض دون “رتوش”.
وإلى جانب القدرة المتزايدة لجمهور الإنترنت على ممارسة الضغط على وسائل الإعلام، فإن العمل الشجاع الذي يقوم به الصحفيون الفلسطينيون، والذين يتعرضون للقتل بالعشرات، أدى إلى تغييرات محدودة ولكن ملموسة في لهجة التغطية الغربية.
فأصبح هناك، على سبيل المثال، إصرار أقل على أن يقوم الفلسطينيون ومؤيدوهم “بإدانة حماس” قبل أن يتسنى لهم التحدث.
كما أصبح هناك استعداداً أكبر للتشكيك في رواية المسؤولين الإسرائيليين.
وظهر هذا في انتقاد صحفيي الـ بي بي سي “الكيل بمعايير مزدوجة في كيفية رؤية المدنيين”، وتوقع ما يقرب من 300 صحفي أسترالي على خطاب يحثون فيه “قادة غرف الأخبار على أن يكونوا واضحين في تغطيتهم”.
ويُذكر هذا بمناشدات مارك دويل، مراسل بي بي سي الذي قضى وقتًا أطول في رواندا أثناء الإبادة الجماعية من أي صحفي أجنبي آخر، لمحرريه بأن “وصف عمليات القتل ببساطة بأنها “مذبحة للمدنيين” أو “عمليات قتل جماعي” دون توضيح من يقتل من كان تحريفاً خطيراً للغاية”.
الإخبار وحده لا يكفي
إن مسؤولية الصحفي أكبر من مجرد الإخبار بأن هناك إبادة جماعية تحدث.
تقول أستاذة الدراسات الإعلامية لورين كوجين أن “عرض القصة بطريقة تجعل الجمهور يتجاهل الضحية البعيدة” هو ممارسة صحفية ضارة.
وتقول كوجين أن التقارير الإعلامية يجب أن “تشجع المشاهد على رؤية الذي يتألم في مكان بعيد على أنه يستحق المساعدة”، والتأكيد على أن تقديم المساعدة في إنهاء المعاناة هو أمر مُلزِم.
وعندما يكون سياق التغطية الإعلامية هو طور اكتشاف أن ثمة إبادة جماعية تحدث، فلا مجال للاختباء وراء حجاب زائف من “الموضوعية”.
ولا بد من محاربة التوجه الإعلامي الذي يصور عمليات القتل على أنها غير مفهومة، أو ضرورية، أو لا مفر منها.
كما يجب تعمد سرد القصص التي تشجع الجماهير على التعاطف مع الضحايا، وتحث على اتخاذ إجراءات لوقف الفظائع.
معالم على طريق التحرر الإعلامي
يُمكن تعريف صبغة الاحتلال للتغطية الإعلامية من خلال المحددات التالية:
الانطلاق من النظرة الغربية للأحداث وتغطيها بالشكل الذي يهم المتابع الغربي لا المجتمعات المتأثرة بالأحداث، وتبنى القيم المهنية للصحافة الغربية.
بضدها تتميز الأشياء
عملياَ، يمكن تعريف التغطية المتحررة من صبغة الاحتلال بالتي تحرص على أن تكون التقارير والأخبار المنشورة ذات نفع للقضايا التي يتم تغطيتها، وتعطي الفرصة لأصحاب هذه القضايا للمساهمة في التغطية.
كما أن التغطية الحرة لا تقدس الحياد كقيمة عليا مجردة كما تفعل المدرسة الغربية -على الصعيد النظري على الأقل- لذا فهي لا تغبش الحقائق بدعوى الموضوعية، بل تسمى الأمور بأسمائها.
الخاتمة
إن الإعلام المهتم بقضايا المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها هو الأولى بالتحرر من قبضة الهيمنة الغربية، وكسره لتلك القيود المعنوية لهو خير عظيم لمستضعفي الأمة.
والتهاون في سد هذا الثغر جدا خطير، ومؤداه أن تذبح قضايانا وتفرغ من مضامينها الإسلامية تحت مسمى مناصرتها على غفلة منا.
اترك تعليقاً