سيطرت قوات الدعم السريع التي يقودها حميدتي مؤخرا على مدينة الفولة عاصمة ولاية غرب كردفان، عقب مواجهات عنيفة مع الجيش السوداني الذي يقوده البرهان، وسط اشتباك مفتوح وميادين مشتعلة واستمرار التصعيد الميداني في مناطق سيطرة القوى على الأرض.
وإن كانت الأنظار قد تحولت إلى منطقة الفولة التي تؤوي عشرات الآلاف من النازحين، فإن الحذر يخيم على الفاشر عاصمة ولاية شمال دارفور غربي البلاد. حيث يتوقع أن تحدد هذه المعركة، مستقبل إقليم دارفور.
والفاشر هي المدينة الوحيدة التي لا تزال تحت سيطرة الجيش في منطقة دارفور غرب السودان.
لكن مشهد القتال في السودان ليس بتلك البساطة فهو ليس مجرد جنرالين يتقاتلان على السلطة في البلاد تحسمه معركة في الإقليم الذي سيطر على أكبر مساحة فيه ميليشيات حميدتي، بل خلفه تدخلات دولية جشعة هي التي تؤجج الصراع وتدفع إلى سفك الدماء السودانية وتسطير الجرائم بدون رحمة، ومن كلا الطرفين بحسب ما وثقت التقارير، وإن كانت وحشية قوات الدعم السريع هي الأبرز والأكثر فتكا في المشهد.
الدور الروسي البراغماتي: مشهد من بشاعة الواقع
قد أدركت الدول التي تتدخل في السودان طبيعة الصراع بين جنرالين كانا الذراع اليمنى للرئيس السوداني المخلوع عمر البشير الذي يبدو أنه كان كبش الفداء لصعود البرهان وحميدتي وحكم العسكر في البلاد بعد انتفاضة الشعب المغدور، وانتهت فترة المصالح المشتركة مع ارتفاع أطماع كل جنرال منهما لصالح طموحات كل منهما القيادية، واستفادت الدول المتدخلة في السوادن من ذلك بشدة، ومثال عن ذلك، روسيا، حيث خضع البرهان مؤخرا لمطالب موسكو واتفق الطرفان على إنشاء قاعدة بحرية روسية بالقرب من بورتسودان على البحر الأحمر طال انتظارها. وهي تعد هدفا استراتيجيا للروس لدعم سيساتهم وتحركاتهم في قارة إفريقيا.
وفي هذا الصدد أعلن مساعد القائد العام للجيش السوداني ياسر العطا في أواخر أيار/مايو، أن السودان وروسيا سيوقعان عددا من الاتفاقيات العسكرية والاقتصادية خلال الأسابيع المقبلة.
لكن الدور الروسي لم يظهر حديثا فقط مع اتفاقية القاعدة البحرية، فقد دعم الكرملين في البداية قوات الدعم السريع، التي تعمل مع مجموعة فاغنر – مرتزقة الروس في المنطقة- في الهيمنة على حقوق التعدين لرواسب الذهب السودانية وقدمت بذلك كل من فاغنر وميليشيات حميدتي، مصدرا ثابتا للعملة الأجنبية لروسيا، وبفضل هذا التحالف السام وفرت فاغنر لموسكو دعما قويا في ظل العقوبات الغربية المفروضة في أعقاب غزوها الشامل لأوكرانيا عام 2022.
وفي الوقت الذي ترتبط فيه فاغنر بروابط ذهبية مع قوات الدعم السريع بقيادة حميدتي تتعهد روسيا بدعم قوات البرهان التي تقاتل ميليشيات حميدتي. في تلخيص لسياسة موسكو البراغماتية والتي من الواضح أنها تستفيد من استمرار الصراع في السودان لتحقيق مصالحها من خلال الطرفين المتحاربين.
وقد وعد نائب وزير الخارجية الروسي ميخائيل بوغدانوف القوات المسلحة السودانية “بمساعدات عسكرية نوعية غير مقيدة”، وفقا لمعهد دراسة الحرب. ولكن لم تصدر تفاصيل عن نوعية الأسلحة التي عرضتها روسيا على السودان مقابل القاعدة البحرية بحسب المراقبين. ولكن هذه التفاصيل تؤكد حاجة الجيش السوداني للأسلحة وإدراك موسكو لذلك.
ومع استمرر الحرب لا تقف حاجة الجيش السوداني على مطلب الأسلحة فقط بل أيضا تزداد الحاجة إلى وقود الديزل، الذي كان يعاني منذ فترة طويلة من نقص في المعروض، وبحسب التقارير فقد تم ولفترة طويلة، استيراد هذا الوقود من قبل مرتزقة فاغنر عبر تشاد المجاورة.
ويظهر لنا من خلال الدور المعقد والمزدوج الذي تلعبه موسكو كيف يستخدم الروس قوتهم لاستغلال الفوضى في السودان باللعب مع أطراف الصراع بتناقض يكشف حاجة الطرفين معا للروس.
عوامل رئيسية تؤجج الصراع لمصالح تستنزف السودان
ولتلخيص حقيقة التعقيد التي يعرفها الصراع في السودان والعوامل التي تؤججه وتستنزف البلاد، يكفي النظر إلى ساحة الطائرات المسيرة التي تسيطر على مشهد الحرب بين الطرفين المتحاربين.
فالطائرات المسيرة أجنبية الصنع صارت اللاعب الأبرز في الحرب السودانية بين الجيش وقوات الدعم السريع. وهي تأتي من أطراف خارجية مختلفة.
وبحسب تحقيق لبي بي سي نيوز البريطانية يمتلك الجيش السوداني نوعين على الأقل من المسيرات الإيرانية، فضلا عن مسيرات انتحارية، استخدمها خلال الحرب.
وفي المقابل، حصلت قوات الدعم السريع على مسيرات تجارية معدلة لتتمكن من إلقاء القذائف. واتهمت دولة الإمارات بإمداد الدعم السريع بهده المسيرات عبر جسر جوي مخصص لنقل السلاح.
وتعكس المسيرات وجها واحدا من سباق التسلح الذي يعيشه برهان وحميدتي في السودان لكسر إرادة الآخر. وتعكس أيضا حرص الدول الداعمة على كسب موطئ قدم لها في السودان لخططها في توسيع نفوذها.
فكل الدول التي تدعم الحرب تسعى لمصالحها الشخصية وليس لمصلحة الطرف الذي تزوده بالسلاح. فهو دعم من النوع الطفيلي، يحاول جني الأرباح دون دفع ثمن مباشر بحسب خلاصة لبعض المراقبين.
وبحسب مات شرودر الباحث المتخصص بالمضادات الجوية المحمولة على الكتف بمؤسسة Small Arms يعد التنوع الكبير في الأسلحة “غير معتاد” في السودان، حتى بالنسبة لأفضل الجماعات تسليحا. ويقول:”لذا نشعر بقلق بالغ عندما نرى هذه المنظومات خارج سيطرة الحكومات. السيناريو الأسوأ هو استخدام جماعات إرهابية لتلك المنظومات ضد الطائرات التجارية “. على حد تعبيره.
فشل الديمقراطية وإهمال الغرب المتعمد
طوال فترة الحرب، دفع المدنيون في السودان وفي العاصمة الخرطوم وإقليم دارفور ثمنا غاليا جدا للصراع. بينما يغلب على واقع مآسي البلاد لا مبالاة الغرب بما يجري على الأرض وهو أمر واضح جدا من خلال تغطية إعلامية مخذلة ومهمشة للسودان. ثم تقاعس في توفير الإغاثة والمساعدات الضرورية للسودانيين المنكبوين والمحاصرين في الحرب رغم الصور والتقارير المروعة التي تمكنت من الوصول لمواقع التواصل لتنقل صيحات الاستغاثة من السودانيين.
وفي هذه الأثناء يتضح لنا فشل الدعوة للديمقراطية في السودان فقد أدخلت السياسات الغربية البلاد إلى نفق مظلم وباتت تتجه إلى مصير مجهول مع قوتين تناديان بالديمقراطية وتتعاظمان وتتنافسان بدعم دولي وانحطاط أخلاقي لا يعرف حقا لإنسان في الحرب.
وحق لنا أن نتساءل لماذا لا تبدي واشنطن وحلفائها اهتماما وحشدا للقوات في السودان كما تفعل عادة في كل مسرح للأحداث يهدد بتفكك الدولة وانهيار هيمنتها؟
خريطة الطريق
والإجابة عن هذا السؤال كفيلة بوصف قتامة المشهد السوداني وحقيقة أنه ضحية السياسات الغربية والتدخلات الدولية وتضليل الشعب عن هويته ومصدر قوته واستنزاف مقدراته وثرواته وفرصه في الصعود لصالح دعم المشروع الصهيوني في المنطقة، فالحلف الغربي لا يهمه من ينتصر في هذه الحرب سواء أكان البرهان أو حميدتي لأن كلاهما قد وقعا على اتفاقية التطبيع مع الاحتلال اليهودي وقدما الاتفاقيات الأمنية وحققا الإملاءات الغربية لضمان بقاء السودان متخلفا ومقيدا بل وداعما لأركان المشروع التوسعي الإسرائيلي في المنطقة.
لذلك لا يهم من ينتصر في حسابات الغرب، فالجنرالان المتنافسان كلاهما يخدمان مصالح الهيمنة وقد أعلنا فروض الطاعة والولاء بكل صفاقة.
لكن لو نظرنا في المشهد بطريقة أكثر اتساقا مع ساحات الصراع الأخرى، هل كان هذا الموقف الغربي سيكون نفسه لو أن قوة إسلامية وقفت في السودان تدافع عن المدنيين وتطالب بحكم إسلامي عادل ومستقل واعد؟
في الواقع حجم التجارب وسجل السياسات الأمريكية خلال الصراعات في العالم الإسلامي التي كانت صريحة لحد يكفينا مؤونة الشرح، يؤكد بما لا يدعو للشك أن الغرب لن يلتفت للسودان إلا في حال وجود قوة إسلامية صاعدة تهدد باستقلال البلاد من أغلال هيمنته.
خياران أم ثلاث؟
من يتأمل في واقع السودان ورصيده من أهل العلم والمؤسسات الإسلامية ومشاركاته في الأحداث الإسلامية وحضوره الفعال في كل ما يتعلق بقضايا الأمة حتى اشتهرت السودان باللاءات الثلاث في قضية فلسطين، لا صلح ولا اعتراف ولا تفاوض مع العدو الصهيوني قبل أن يعود الحق لأصحابه. ثم تحول السودان بشكل جذري وصادم إلى تطبيع معلن ووقح مع هذا الاحتلال الصهيوني، ليدل على مدى فساد قيادته العسكرية التي لا تزال لم تحقق أي وعد من وعودها التي تمني الشعب بها من خلال توقيع اتفاقية التطبيع المخزية بل على العكس وكأن اللعنة حلت على السودان منذ توقيع هذه الاتفاقية المشينة ولا تزال البلاد تنحدر وتترنح وتتقهقر، ليصبح حالها أسوأ من ذي قبل، أيام الانتفاضة على البشير، فلم تكن مصافحة اليهود المجرمين الذين تقطر أيديهم بدماء أهل فلسطين لتجلب البركة ولا لتحسن معيشة السودانيين لمن يتفرس في الحقائق. بل لتجلب لهم النكبات وتسقط أقنعة المرتزقة.
ومع ذلك يصر الغرب على أن أمام السودانيين خيارين لا غير، البرهان أو حميدتي، وكلاهما خيارين خائنين لدينهما وأمتهما وعبيد مصالح جشعة وسلطان قد يكون سبب مهلكهما.
وإن كان مصاب السودانيين من ميليشيات حميدتي أكبر إلا أن التعويل على البرهان وجيشه مغامرة لا يقع فيها لبيب، فلا يحمل البرهان لأهل السودان سوى التبعية والاستنزاف ومزيد تسلط للغرب وتدخل أجنبي وبقاء تحت الهيمنة وتطبيع هو العار. فليس بين يدي البرهان مشروع واعد للسودانيين ولا ينطلق من القوة والأمانة التي يحتاج إليها السودان أشد ما يكون.
لذلك آن الأون – بالنظر لتصدع الساحة السودانية واختلال موازينها وانفتاح الأنفاق للإمدادت العسكرية وارتفاع روح القتال في النفوس، ثم توفر قيادات علمية نخبة بمطالب الشريعة، أن يفكر السودانيون خارج الصندوق قليلا.
ولرسم خريطة طريق حقيقية للخروج من النفق نلخص فيما يلي كيف يمكن لأهل السودان تحويل واقعهم المأساوي إلى واقع مبشر وأمل للأمة كلها بقلب جميع حسابات الغرب وقوى الهيمنة والتبعية.
- يجب انتخاب قيادات أمينة، الإسلام هو أسمى أمانيها ومقاصدها ومنهجها وولاؤها الوحيد، تحكم بين الناس بالعدل وتوجه الجهود محروسة بشريعة الله تعالى.
- يجب توفير محاكم شرعية محلية، تقوم على تنظيم المجتمعات وتحقيق العدالة فيها والحكم بشريعة الله في جميع القضايا. وتحقيق فعالية لها وترسيخ وجودها بتوفير قوة لحمايتها وإنفاذ أحكامها الشرعية.
- يجب توفير معسكرات تدريب لإنشاء لجان شعبية مقاتلة أكثر احترافية وقدرة على مواجهة ميليشيات الدعم السريع والقوى المعتدية. وتنظيم ذلك بشكل كتائب متلاحمة ومتخصصة في كل العلوم التي يحتاجها الثبات والانتصار في الصراع، لتعمل بشكل متوازٍ وفق خطط عسكرية مدروسة لا تركع إلا لله تعالى ولا تعترف بمنهج أو دستور غير القرآن والسنة.
- يجب التركيز على نقاط القوة والتكتيكات التي تحقق أكبر قدر من الجمع والتمويل، لتحصيل أكبر قدر من الأسلحة والذخائر وما يضخم الغنائم وفي الحديث (جعل رزقي تحت ظل رمحي) ويعني ذلك استهداف مفاصل العدو والعمل على إضعافه قدر المستطاع والوصول إلى الغنائم التي عادة تأتيه من دول خارجية.
- إعداد حكومة تحكم البلاد مبكرا بوزارات مصغرة ودواوين بحكم إسلامي تقي وخطط جاهزة لحكم البلاد. لأن أي لحظة فراغ وانفلات ستكون لها عواقب وخيمة. واستمرار الخدمات وتشغيل المؤسسات يضمن التفاف الشعب حول قيادته الإسلامية.
- التركيز على المناطق التي عرفت الانفلات الأمني لتحكمها الشريعة وبذلك تتسع المساحة مع الوقت وهنا نتوقع بلا شك تدخل التحالف الدولي الذي سيسقط دموع التماسيح على الشعب السوداني المنكوب، ولكنه سيتقدم لدعم هذا الشعب الذي شاهد نزيف دمائه لأكثر من سنة ولم يتحرك، بقوات تفرض الديمقراطية الغربية التي كانت سبب ما آل له السودان بقوة السلاح.
- الاستعداد لكل تطورات المشهد السوداني ووحدة المطلب والسعي والصف بالتقوى والتربية الإيمانية وتعهد القلوب بالتوحيد والسنة وإعظام التوكل على الله تعالى ومد جسور التعاون والدعم مع خبرات وطاقات المسلمين في العالم الإسلامي لحفظ أهداف المقاومة السودانية الإسلامية.
- الحذر من شراء الذمم وحرف مسار العمل على إقامة حكم إسلامي مستقل في السودان إلى تحقيق مصالح الهيمنة والديمقراطية والعلمانية المدمرة. وإبعاد المرجفين والمرتابين والمنتكسين من دوائر العمل والتأثير.
- الصبر على تحقيق الأهداف والتحقق من سلامة القيادات ومحاربة بؤر الفساد والخونة على طول المسيرة.
هذه في الواقع خطة طريقة مختصرة جدا لكنها فعالة كما يشهد لها التاريخ، فالحقوق لا تستجدى بل تنتزع والعالم يتجه نحو مزيد من التصعيد والتفكك والاصطفاف وهو على صفيح من نار ولن تبقى هناك قبضة متماسكة لتحكم كل السودان المسلم مع اشتداد التدافع، فلابد من الإعداد مبكرا لإمساك زمام الأمور بشريعة الله تعالى الموجبة للعدل والحرية والسيادة.
تحديات تتلاشى بمعية الله تعالى
هذه خريطة الطريق للسودان التي لن يوقع عليها مجلس الأمن الدولي ولن تصفق لها أمم متحدة .. بل سيعلنون العداء لها والقلق وكل مكيدة مكر، ولكنها أمل الأمة للخروج من حقبة الحكم الجبري المذلة ومن كان الله مولاه فلا يخشى من كيد ومكر تحالف كافر.
وتبقى هذه الخريطة بحاجة لمزيد إثراء وتفصيل والأهم من ذلك أنها تنتظر من يقوم على تحقيقها بصدق وفطنة وقوة وأمانة لمستقبل للسودان هو الأفضل.
اترك تعليقاً