كان انقلاب النيجر في 8 محرم 1445 هـ (26 يوليو 2023)، واحدًا من ستة انقلابات حدثت في غرب إفريقيا منذ عام 1442/1441 هـ (2020)؛ كما كان من أبرزها بالإضافة إلى انقلابات مالي وبوركينا فاسو.
ومع الاضطرابات في مالي وبوركينا فاسو، اغتنمت روسيا الفرصة لزيادة انتشار مجموعة فاغنر، الشركة العسكرية الخاصة التي تمولها موسكو.
بينما سعت تركيا إلى تعزيز العلاقات العسكرية من خلال برامج التدريب ومبيعات الأسلحة، بما في ذلك الطائرات المقاتلة بدون طيار.
وبالفعل ارتفعت المبيعات العسكرية التركية إلى إفريقيا من 83 مليون دولار في 1442/1441 هـ (2020) إلى 288 مليون دولار في عام 1443/1442 هـ (2021).
ووصل عدد زبائن تركيا في قارة إفريقيا في 1443/1442 هـ (2021) إلى 14 دولة: الجزائر، وبوركينا فاسو، وتشاد، وغانا، وكينيا، ومالي، وموريتانيا، والمغرب، والنيجر، ونيجيريا، ورواندا، والسنغال، والصومال، وأوغندا.
ولكن لنبتعد قليلاً عن غرب إفريقيا، ونذهب إلى الشمال السوري – المحرر والمحتل في آن واحد – حيث يعيش أحد مقاتلي المعارضة، أبو محمد (اسم مستعار)، 33 عامًا في خيمة لا توجد بها مياه جارية أو مرحاض أو كهرباء مع عائلته في شمال سوريا، بعد نزوحهم داخليًا.
بدا لأبي محمد – وهو اسم مستعار – بعد عشر سنوات من العيش في ظروف صعبة في خيمة بإدلب رفقة زوجته وأطفاله الأربعة، أن السفر إلى النيجر للعمل كمرتزق هو السبيل الأفضل لجني الأموال وإعالة أسرته.
الفصيل المدعوم تركيًا الذي ينتمي إليه أبو محمد، يدفع إليه أقل من خمسين دولار كراتب شهري؛ فلما عرض عليه المُجَنِّدين الأتراك راتب شهري يبلغ قرابة ال 1500 دولار مقابل القتال في النيجر كان العرض شديد الإغراء خاصة مع صعوبة الحصول على عمل.
وقال أن قادة الفصائل يساعدون في تيسير عملية الذهاب إلى النيجر، وأنه بعد خصم ضريبة التي سيقتطعها الفصيل والمُجَنِّدين من راتبه، سيتبقى لديه ثلثي المبلغ.
وأضاف: “وإذا قتلت هناك، تحصل أسرتي على تعويض 50,000$”.
أبو محمد ليس الوحيد الذي يرغب في الذهاب إلى النيجر.
علي (اسم مستعار)، الذي يعيش في خيمة في ريف إدلب، انضم إلى قوات المعارضة السورية قبل 10 سنوات، أي عندما كان عمره 15 عامًا.
قال علي إنه يتقاضى أقل من 50 دولارًا في الشهر أيضًا، وهو ما يكفيه لمدة خمسة أيام.
وقال: “أريد ترك المهنة العسكرية تمامًا وبدء عملي الخاص”.
وأما رائد (اسم مستعار)، وهو مقاتل معارض آخر يبلغ من العمر 22 عامًا، فإن الذهاب إلى النيجر يبدو له أنه السبيل الوحيد لجمع ما يكفي من المال “لتحقيق حلمي في الزواج وتأسيس أسرة”.
وقال رائد وعلي أن عائلاتهم لا تريدهم أن يقوموا بالذهاب إلى النيجر، لذا قد يتظاهرا بأنهما ذاهبان إلى تركيا للتدريب لبضعة أشهر.
كما أن عائلة أبو محمد لا ترحب بالفكرة كذلك.
وبحسب المرصد السوري لحقوق الإنسان الذي يتخذ من المملكة المتحدة مقراً له، والذي يرصد الصراع في سوريا من خلال شبكة من المصادر على الأرض، سافر أكثر من ألف مقاتل سوري إلى النيجر عبر تركيا منذ جمادى الأولى/جمادى الآخرة 1445 هـ (ديسمبر 2023).
ويميل المقاتلون غالبًا إلى التوقيع على عقد لمدة ستة أشهر، لكن بعضهم قام بتمديده لاحقًا لمدة عام.
“انتهى بهم الأمر تحت قيادة روسية”
قبل سفرهم، كان المُعلن هو أن هؤلاء الرجال سوف يقومون بحماية المشاريع والمصالح التجارية التركية في النيجر.
ووسعت تركيا نفوذها السياسي وعملياتها التجارية في المنطقة، حيث باعت معدات مثل الطائرات بدون طيار إلى النيجر لمساعدتها في التصدي للجماعات الجهادية.
كما تشارك تركيا في استخراج الموارد الطبيعية في البلاد، والتي تشمل الذهب واليورانيوم وخام الحديد.
لكن المجندين يدركون أنه على الرغم مما يقال لهم، فإن الواقع الذي سيقابلهم في النيجر قد يكون مختلفًا.
وأفادت ال”بي بي سي” أنه وفقًا للمرصد السوري لحقوق الإنسان وشهادات بعض أصدقاء المرتزقة الذين عملوا بالفعل في النيجر “، فإن المقاتلين السوريين انتهى بهم الأمر تحت قيادة روسية يقاتلون جماعات جهادية في المثلث الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو.
وقال ناثانيال باول، الباحث في شؤون منطقة الساحل في “أكسفورد أناليتيكا”، أن روسيا وفرت “بديلاً مناسبًا” للنيجر التي “بدأت في البحث عن حلفاء جدد” عقب قيام المجلس العسكري بقطع العلاقات مع الغرب.
“فالأسلحة الروسية أرخص من الأسلحة الغربية؛ كما تقدم روسيا الموارد العسكرية والتدريب، وتُظهر استعدادها للتكيف مع المتطلبات المحلية دون فرض شروط صارمة، على عكس نظيراتها الغربية”.
ويشكل احتمال القتال تحت القيادة الروسية معضلة بالنسبة للمقاتلين السوريين المعارضين للنظام السوري، نظرًا لتأييد روسيا لنظام الأسد.
وقال أبو محمد: “نحن مرتزقة هنا ومرتزقة هناك، ولكنني في مهمة تركية، ولن أقبل الأوامر من الروس”.
وقال رائد إنهم ما زالوا ينتظرون التوقيع على عقودهم، وهو ما سيفعلونه “قبل السفر أو أثناءه”.
وأوضح أن العملية سرية، وأنه يعرف رجلاً سُجن على يد فصيل معارض سوري “لتسريبه بعض المعلومات حول تفاصيل العملية في إفريقيا وآلية التسجيل”.
وقال بعض المُجندون أن قادة فصائلهم أبلغوهم أن شركة تركية تدعى “سادات” (SADAT) ستتولى رعايتهم بمجرد توقيع العقود، وستشارك في ترتيب سفرهم وترتيباتهم اللوجستية.
قبل حوالي خمس سنوات ذهب أبو محمد إلى ليبيا حيث عمل كمرتزق لمدة ستة أشهر، ويقول إن ذلك تم بالترتيب من قبل “سادات’ أيضاً.
وأفاد المرصد السوري لحقوق الإنسان، استنادًا إلى معلومات من مرتزقة آخرين ذهبوا إلى النيجر، أن مجموعة “سادات” متورطة في العملية.
وهو ما نفته الشركة بشدة حينما تواصلت معها البي بي سي للتأكد من مدى صحة هذه المزاعم، والتي وصفتها الشركة بأنها “لا علاقة لها بالحقيقة”؛ نحن لا نقوم بأي أنشطة في النيجر”.
كما قالت الشركة أنها لا تمارس أي أنشطة في ليبيا؛ باستثناء مشروع “رياضة عسكرية” قبل أكثر من عقد من الزمان، والذي اضطرت إلى الانسحاب منه بسبب الأزمة هناك.
وأضافت الشركة أنها “لم تقدم خدمات لجهات غير حكومية”، بل قدمت “خدمات استشارية وتدريبية ولوجستية للقوات المسلحة وقوات الأمن في مجال الدفاع والأمن وفقًا للقانون التجاري التركي”.
ولكن بحسب المرصد السوري لحقوق الإنسان، فإن أنقرة تستخدم شركات خاصة، لتجنيد وإرسال مرتزقة سوريين إلى النيجر.
ويتهم مدير المرصد، رامي عبد الرحمن، الدولة التركية باستغلال السوريين الذين لا يملكون المال ويواجهون ظروفًا اقتصادية قاتمة.
وقد طرحت الJ “بي بي سي” هذه الاتهامات على وزارة الخارجية التركية، إلا أنها لم تتلق رد.
وهذه ليست المرة الأولى التي تُتهم فيها الحكومة التركية بإرسال مقاتلين سوريين إلى الخارج.
فقد وثقت عدة تقارير، بما في ذلك تقرير صادر عن وزارة الدفاع الأميركية، وجود مقاتلين سوريين تدعمهم تركيا في ليبيا – وكانت تركيا قد اعترفت سابقًا بوجود مقاتلين سوريين هناك، لكنها لم تعترف بتجنيدهم.
كما أنكرت تجنيدها ونشر مرتزقة سوريين في منطقة ناغورنو كاراباخ المتنازع عليها في القوقاز.
الحياة في النيجر
وتعني الظروف في النيجر أن البقاء على اتصال مع عائلاتهم في سوريا قد يكون من الصعوبة بمكان.
فعندما يصل المجندون تتم مصادرة هواتفهم، وفقاً لمدير المرصد السوري لحقوق الإنسان.
وقال أبو محمد أن أصدقاءه في إفريقيا “يتمكنون من الاتصال بعائلاتهم مرة كل أسبوعين، وأحيانًا أقل”.
وأضاف أنهم لا يستطيعون التحدث إلى زوجاتهم أو والديهم بأنفسهم، وأن التواصل يجب أن يتم عبر رؤسائهم في النيجر “الذين يطمئنون عائلات المقاتلين بأنهم بخير”.
وي علي أن بعض أصدقائه الذين سافروا إلى النيجر أخبروه أنهم قضوا معظم وقتهم “داخل القواعد العسكرية، في انتظار الأوامر بالقتال”.
ولم يصل جميعهم إلى ديارهم، إذ لقي تسعة منهم مصرعهم في النيجر منذ جمادى الأولى/جمادى الآخرة 1445 هـ (ديسمبر 2023)، بحسب المرصد السوري لحقوق الإنسان، وأُعيدت جثث أربعة منهم إلى إدلب، لكن لم يتم التعرف على هوياتهم حتى الآن.
خاتمة
كثيرًا ما يبدو الحديث عن صراعات الدول ومصالحها الاستراتيجية حديثًا بعيدًا عن، ومنقطع الصلة بعموم الناس والشعوب المستضعفة، الذين لا يملكون زمام السلطة العسكرية والسياسية.
نعم، لا شك أن القدرة على التأثير العام تختلف؛ ولكن تصوير الفرد بأنه مسلوب الإرادة أبدًا، تتقاذفه هموم المعيشة ومخططات الساسة وطموحات القادة يتناقض مع خطاب الشرع، والذي يتوجه للفرد بقوله تعالى {وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا}.
وإن من أوجه خطورة الإطراد مع هذا التعاطي الجَبري الطابع، أن المرء قد يصل إلى مرحلة ينسلخ فيها من دينه أو يكاد وهو لا يشعر بدعوى الاضطرار!
فليحذر العاقل من أن يجد نفسه يوم القيامة من أهل هذه الآية: {وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِن شَيْء} [ابراهيم : 21].
وفي الوقت ذاته، فإنه لا يسعنا أن نغفل عن السياق الأكبر لهذه المهزلة.
لقد فتك الاحتلال الروسي بطائراته بأجساد السوريين، وحرفت تركيا بوصلة الفصائل التابعة لها؛ ولكن بينما كان الخطر الروسي واضحًا من البداية، فقد تمكنت تركيا من خلال التموضع الزائف كحليف للثورة أن تصيبها بالشلل.
وليست نازلة الارتزاق هذه إلا إحدي حلقات سلسلة طويلة من مكر الليل والنهار؛ ولكن عزاؤنا أن الله غالب على أمره، وأنه سبحانه تكفل بالشام وأهله.
اترك تعليقاً