حظيت وفاة بابا فرنسيس بابا الفاتيكان، بتغطية لافتة للغاية في وسائل الإعلام الغربية، حتى تلك المعروفة بنقدها الحاد للكنيسة الكاثوليكية، مع خطاب حافل بالتقدير، والمشاعر، والاعتراف برمزية الرجل ومكانته.
هذا السلوك الإعلامي قد يبدو متناقضًا ظاهريًا: كيف تحتفي وسائل إعلام علمانية بشخص يمثل مؤسسة تعرضت ولا تزال لموجات من الانتقادات بسبب ممارساتها، وفضائحها، ومواقفها من قضايا حساسة؟
لفهم هذا التناقض الظاهري، لا بد من النظر إلى طبيعة العلاقة المعقدة التي تربط الغرب بالدين عمومًا، وبالكنيسة الكاثوليكية خصوصًا.
كما ينبغي التمييز بين البابا كشخص وكـ”رمز”، وبين الكنيسة كمؤسسة دينية بيروقراطية تملك تاريخًا متشابكًا من القداسة والسلطة، والجدل والانحرافات.
البابا: الشخصية، الرمز، واللحظة التاريخية
البابا، من الناحية الرمزية، ليس فقط زعيمًا دينيًا لمليار وثلاثمائة مليون كاثوليكي حول العالم، بل هو أيضًا قائد سياسي (بوصفه رئيس دولة الفاتيكان)، و (صوتٌ أخلاقي) غالبًا ما يُستدعى في القضايا الكبرى: السلام، العدالة الاجتماعية، الفقر، التغير المناخي، الهجرة، وغير ذلك.
هذه الرمزية تمنح البابا مكانة فريدة في الوعي الجمعي العالمي، تتجاوز بكثير حدود المعتقد أو الانتماء الديني.
وحين يموت البابا، فإن وسائل الإعلام ـ حتى المنتقدة منها ـ تدرك أنها بصدد حدث عالمي نادر، يمس التاريخ والسياسة والدين معًا، لذلك فإن التغطية الكثيفة لا تعني بالضرورة (تقديسًا) للرجل أو المؤسسة، بل هي في المقام الأول اعتراف بقيمة الحدث، واحترام لدور رمزي، ما زال يحتفظ بقدر من الجاذبية، حتى في عالم الغرب الذي أصبح أكثر انسلاخا من الدين.
التفرقة بين الشخص والمؤسسة
وسائل الإعلام الغربية، وإن بدت متناقضة في ظاهرها، إلا أنها في الحقيقة تمارس شكلاً من التوازن: فهي تنتقد الكنيسة حين تخطئ، وتسلط الضوء على فساد بعض رجال الدين، وتتحدث بصراحة عن قضايا التحرش والتستر.
لكنها في ذات الوقت لا ترى في البابا مجرد ممثل لهذه الأخطاء، بل أحيانًا ترى فيه جزءًا من الحل أو الإصلاح.
هذا يظهر بشكل خاص مع بابوات معاصرين كفرانسيس، الذي يُنظر إليه ـ حتى من قبل غير المؤمنين ـ بوصفه رجلًا إصلاحيًا، متواضعًا، يسعى لتحديث خطاب الكنيسة، والانفتاح على العالم، وهنا يُعامل البابا كشخصية عامة ذات أثر عالمي، لا كمجرد مسؤول ديني.
هل ما زال الغرب يحب دينه؟
لكن السؤال الأهم هو: هل يعني هذا الاحتفاء أن الغرب ما زال متمسكًا بدينه، أو محبًا له رغم غضبه من الكنيسة؟ الغرب لم يعد متمسكًا بالدين كمعتقد وممارسة، لكنه لم يتخلّ عن الدين كهوية ورمز ثقافي.
بمعنى آخر، الغرب لم يعد متدينًا، لكنه لم يصبح (ضدًّا كاملاً) للدين، بل هو في علاقة معقدة: نقدية، مترددة، حنينية أحيانًا، وغاضبة أحيانًا أخرى.
الكثير من الأوروبيين، مثلًا، لا يصلون، ولا يؤمنون بإله شخصي، لكنهم يشعرون أن الكنائس، والأعياد الدينية، وحتى شخصية البابا، هي جزء من “ثقافتهم”، من تراثهم الروحي، ومن شكل الحضارة التي ينتمون إليها، هذا الانتماء لا يعني الإيمان، لكنه يعني أن الدين لم يُطرد تمامًا من المشهد، بل تغيّرت وظيفته: من مرشد يومي، إلى رمز تاريخي، أو مرجعية أخلاقية صامتة.
الإعلام والحنين إلى الرموز الثابتة
الإعلام الغربي، الذي اعتاد على كشف التناقضات وطرح الأسئلة المحرجة، لا يمكنه تجاهل لحظة وفاة البابا، تمامًا كما لا يمكنه تجاهل وفاة ملك، أو زعيم عالمي، أو أي شخصية ذات تأثير عابر للحدود.
بل لعل وفاة البابا تمنح الإعلام فرصة أخرى لاستعراض هذا التوتر القائم في علاقة الغرب مع الدين: بين الحنين إلى المعنى، والخوف من الرجعية؛ بين الرغبة في الحداثة، والاحترام الفطري للرموز.
وهذا ما يفسر، في العمق، كيف يمكن أن تتعايش تغطيتان متناقضتان في نفس الوسيلة الإعلامية: نقد صارم لممارسات الكنيسة، واحتفاء دافئ بشخص البابا.
ليس غريبًا أن يحتفي الغرب برمز ديني، حتى وهو يفكك سلطته وينتقد تاريخه. في الغرب، البابا هو جزء من “السردية الكبرى” التي بُني عليها العقل الجمعي، سواء أحبها العقل المعاصر أم لا.
الاحتفاء لا يعني العودة إلى الإيمان، لكنه يكشف عن حقيقة أعمق: أن الرموز الدينية، حتى في عصر الإلحاد الواسع، لا تزال قادرة على استدعاء شيء من الاحترام، وربما شيء من الحنين.
نقلا عن الباحث حسن قطامش.
https://x.com/HasanQatamish/status/1914758740852842999?t=Lc8Kk7rNWOMzMTErK1P8og&s=19
اترك تعليقاً