في صباح يوم 15 رجب 1439هـ (1 أبريل/نيسان 2018م)، كانت لول ضاهر محمد في طريقها لزيارة شقيقها، قاسم ضاهر محمد، في منطقة جلجودود في وسط الصومال، ومقابلة أطفاله لأول مرة.
كان من المفترض أن يأتي شقيقها لاصطحابها، لكنهما لم يتمكنا من التواصل هاتفياً، فركبت لول سيارة بيك آب تويوتا هايلكس كستنائية اللون.
رأى قاسم الهايلكس قدراً على الطريق، ورأى لول وهي جالسة في مقعد الركاب وتحتضن ابنتها مريم البالغة من العمر أربع سنوات.
لوح قاسم وأطلق بوق سيارته، لكن الهايلكس استمرت في السير.
بعد قليل، سمع قاسم صوت انفجار، تلاه آخر، ثم الثالث والأخير بعد هنيهة من السكون.
انتشر الخبر بسرعة: شنت طائرة بدون طيار غارة، وأصابت شاحنة صغيرة.
هرع قاسم وشقيقه نحو موقع الاستهداف، وعندما عثروا على الشاحنة، كان سقفها قد تمزق، وتحطم مجلسها، واشتعلت النيران في حمولتها التي كانت عبارة عن مراتب ووسائد.
وجدوا جثث أربعة رجال بداخل الشاحنة، في حين ألقت قوة الانفجار بجثة الخامس في التراب على مقربة من الشاحنة.
وعلى بعد حوالي 200 قدم، وجد قاسم ما تبقى من لول.
كانت ساقها اليسرى مشوهة، والجزء العلوي من رأسها مفقوداً، وتوفيت وهي تمسك بابنتها مريم البالغة من العمر أربع سنوات، والتي ملئت الشظايا الصغيرة جسدها.
مزق قاسم رقعة من ردائه، وبدأ في جمع أشلاء أخته المتناثرة وهو في حالة من الحزن الممزوج بالذهول.
أمضى قاسم ساعات في البحث عن بقايا جسد لول على طول الطريق الترابي، وبعد أن جنح الظلام ظل يعمل على ضوء المصابيح الأمامية لسيارته.
وبعد جهد جهيد، استطاع قاسم أن يجمع رفات لول ومريم وأعادها إلى المنزل.
كان جسد لول مشوهاً لدرجة استحالت معه تغسيلها بشكل صحيح، فتم لفها بعناية في كفن، ودفنتا لول ومريم معاً في مقبرة القرية.
وفي اليوم التالي، دعا مجموعة من السكان المحليون -الذين يعيشون بالقرب من موقع الغارة- قاسم؛ كانوا قد وجدوا الجزء العلوي من جمجمة لول مكتملاً.
لم تكن لول تبلغ من العمر سوى 22 عاماً فقط عند مقتلها.
العنف الأمريكي الأعمى
منذ ما يقرب من قرن من الزمان في نيكاراغوا، كان بعض الرجال -من المدنيين- يقتلعون الأعشاب الضارة، ويقومون بقطع بعض الأشجار من الأسفل.
كان المشهد بريئاً واعتيادياً، ولكن أفراد المشاة البحرية الأمريكية (المارينز) الذين رأوا المشهد من طائرتهم الهليكوبتر، كانوا مقتنعين بأن هناك شيئاً غريباً يجري، فقاموا بإطلاق النار.
لم تكلف الولايات المتحدة نفسها عناء إحصاء الجرحى والقتلى.
ومنذ ذلك الحين، كان الدمار الذي تحدثه أمريكا من الجو، المجهول مدى أثره وغير الخاضع للمساءلة، من السمات المميزة للطريقة الأمريكية لشن الحروب، والتي استخدمتها أمريكا في كوريا وفيتنام وكمبوديا وأفغانستان والصومال والعراق وسوريا.
عندما استقلت لول ومريم السيارة البيك آب، كان الجيش الأمريكي يراقب السيارة من الجو، واشتبه في وجود العديد من مقاتلي (حركة الشباب المجاهدين) أو المتعاطفين معها على متن الشاحنة – كل ذلك بالطبع، لم تكن تعلم لول -أو ابنتها- عنه شيئاً.
وعلى بعد آلاف الكيلومترات، في مركز عمليات عسكرية مشتركة ترفض الحكومة الأمريكية الكشف عنه، كان أعضاء فرقة عمل عمليات خاصة يشاهدون لقطات حية -رفضوا أن يتم الإطلاع عليها- لكل من دخل الشاحنة.
قام الأمريكيون بتسجيل المشهد وفحص اللقطات، ورصد دخول وخروج كل “ADM” -وهو اختصار لـ “ذكر بالغ” (adult male)- وأين سار وماذا فعل.
وعلى الرغم من تسجيل الأمريكيين لكل هذه التفاصيل في مشهد يوحي بالدقة اللامتناهية، فإنهم في واقع الأمر لم يكونوا يفهمون ما الذي يرونه بالضبط.
كانوا مرتبكين وبعضهم كان قليل الخبرة وفقاً لتحقيق لوزارة الدفاع الأمريكية حصل عليه “ذا انترسبت” بموجب قانون حرية الحصول على المعلومات (Freedom of Information Act)، وهو أول وثيقة تُنشر من نوعها حول ضربة طائرة بدون طيار أمريكية في إفريقيا.
وكشف التقرير أنه بعد أشهر من “تطوير الأهداف”، وجد الأمريكيون أنفسهم في اندفاع جنوني لقتل أُناس لا يمثلون تهديداً للولايات المتحدة في حرب لم يعلن عنها الكونغرس بشكل رسمي.
كانت أبسط التفاصيل محل جدل وخلاف، وفي النهاية أخطأوا في كل شيء.
لم يستطع الأمريكيون التمييز بين رجل وامرأة، الأمر الذي يحتمل أنه قد أثر على قرارهم بالتنفيذ.
كما أنهم لم ينتبهوا لوجود الطفلة التي تبلغ من العمر أربع سنوات والتي كان من المفترض أن يتسبب وجودها في إيقاف عملية الاستهداف.
في مركز العمليات المشتركة، أدرك الأمريكيون بسرعة أن ضربتهم الأولية فشلت في قتل جميع الركاب وقرروا القضاء على ما يشير إليه ملف التحقيق على أنه “الناجي الوحيد الذي هرب من السيارة بعد الاستهداف الأول”.
“الناجي” المذكور كان في الواقع شخصين: لول ومريم؛ وبالفعل تم توجيه صاروخ آخر إليهم بعد ثوان.
في اليوم التالي لمقتل لول ومريم، أعلنت القيادة العسكرية الأمريكية في إفريقيا، أو أفريكوم (AFRICOM)، أنها قتلت “خمسة إرهابيين” ودمرت مركبة واحدة، وأنه “لم يقتل أي مدني في هذه الغارة الجوية”.
ولكن الصحافة الصومالية كذبت هذه الرواية على الفور.
وبحلول الشهر التالي، عينت فرقة العمل ضابط تحقيق. وسرعان ما قرر أن وحدته قتلت “امرأة وطفل” –
بالإضافة إلى أربعة رجال- لكنه أعرب عن شكوكه في إمكانية التأكد من هويات الضحايا.
ووفقًا للتحقيق السري، فقد تم الهجوم نتيجة لمعلومات استخباراتية خاطئة بالإضافة إلى استهداف متسرع وغير دقيق نفذته خلية عمليات خاصة هجومية يعتبر أعضاؤها أنفسهم قليلي الخبرة.
وعلى الرغم من ذلك، فقد برأ التحقيق الفريق المتورط، وكتب المحقق أن “الغارة تمت وفق قواعد الاشتباك الملائمة”.
وعندما اعترفت القيادة أخيرًا بعمليات القتل في عام 1440هـ (2019م)، قال قائد أفريكوم آنذاك، الجنرال توماس فالدهوزر، إنه “من المهم للغاية أن يفهم الناس أننا نلتزم بالمعايير الصارمة، وعندما نفشل، فإننا نعترف بأوجه القصور ونتخذ الإجراء المناسب”.
“يمكننا أن نفعر ما يحلو لنا”
أحد الطيارين المسؤولين عن تسيير الطائرات بدون طيار ممن خدموا في الصومال، قال لموقع “ذا انترسبت” أنه عندما ذهب إلى إفريقيا، “بدا الأمر وكأن لا أحد كان ينتبه [لما نقوم به]”.
“كان الأمر أشبه بـ “يمكننا أن نفعل ما يحلو لنا”؛ لم يكن هناك تقريباً أي ضوابط حاكمة لعملية التصديق على الغارات”.
“لم يتسنى لي معرفة على أي أساس نقصف أو نمتنع. كان الأمر عشوائياً، وكثيرً ما كنا نفتقد المعلومات التي ينبغي توفرها قبل شن غارة”.
“لم تكن الأسس التي ينبني عليها قرار التنفيذ من عدمه واضحة؛ في كثير من الأحيان لم يكن لدينا كل المعلومات التي كان ينبغي أن تتوفر لتنفيذ الاستهداف”.
وكان الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب قد خفف الضمانات الحالية بشأن الضربات الجوية عندما تولى منصبه في عام 1438هـ (2017م).
وقال والدهاوزر إن قواعد الاستهداف الأكثر مرونة تسمح للجيش “بمحاكمة الأهداف بطريقة أسرع”. وعلى الفور تقريباً، زاد عدد الهجمات في الصومال ثلاثة أضعاف.
وكذلك الخسائر عدد القتلى في مناطق الحرب الأمريكية بما في ذلك أفغانستان والعراق وسوريا واليمن. نفذت الولايات المتحدة 208 هجمات معلنة في الصومال خلال ولاية ترامب، بزيادة قدرها 460% عن فترة رئاسة أوباما.
وكان هناك عامل آخر محتمل ساهم في سقوط ضحايا من المدنيين.
خلال عامي 1438 و1439هـ (2017 و2018م)، تنافس أفراد فرقة العمل 111، الوحدة العسكرية المسؤولة عن هجمات الطائرات بدون طيار في الصومال وليبيا واليمن، أيهم يوقع أكبر عدد من الجثث.
وتقول منظمة Airwars، وهي منظمة رقابية غير ربحية بالمملكة المتحدة ترصد وتحقق في مزاعم الإضرار بالمدنيين في الدول التي تشهد صراعات، أن ما يصل إلى 161 مدنياً قتلوا في الضربات الأمريكية في الصومال؛ في حين أن الرقم الرسمي الذي أعلنت عنه وزارة الدفاع الأمريكية هو خمسة أفراد.
وعلى الرغم من تخصيص وزارة الدفاع ميزانية سنوية تبلغ قيمتها ثلاثة ملايين دولار لتعويض الناجين، فلا يوجد أي دليل على تسلم أي من الناجين أو عائلات الضحايا لتعويضات.
بطلان مزاعم الأخطاء العارضة
الاستهتار بحياة الأبرياء الذي أظهره الجيش الأمريكي على مدى القرن الماضي، والذي تمثل – لا على سبيل الحصر – في استهدافهم بشكل متكرر والفشل في التحقيق في مزاعم الإضرار بهم أو محاسبة الجنود المتورطين، تتناقض بشكل صارخ مع الحملات التي تشنها حكومة الولايات المتحدة لتسويق حروبها على أنها حروب “نظيفة”، وأن حملاتها الجوية تتسم بدقة شديدة بحيث لا يمكن أن تكون حالات استهداف المدنيين إلا حالات شاذة.
فقد شنت الولايات المتحدة خلال العشرين عاماً الأولى من “الحرب على الإرهاب” أكثر من 000 ،91 غارة جوية في أفغانستان، العراق، وليبيا، وباكستان، والصومال، وسوريا، واليمن – وبلغ عدد القتلى 48، 308 … طبقاً لموقع Airwars
إرث نمط الحروب الجوية الأمريكية
في الأسابيع الأخيرة، برر المسؤولون الإسرائيليون مراراً وتكراراً الهجمات على غزة من خلال الاستشهاد بالأساليب التي استخدمتها الولايات المتحدة وحلفاؤها ضد ألمانيا وقوى المحور الأخرى خلال الحرب العالمية الثانية.
وقد استخدمت إسرائيل “مناطق إطلاق النار الحر” ــ والتي استخدمتها الولايات المتحدة لفتح مساحات واسعة من فيتنام الجنوبية أمام هجمات غير مقيدة تقريباً، مما أسفر عن مقتل عدد لا يحصى من المدنيين.
“بالنسبة للأمريكيين لا يوجد فرق”
تحتفظ الحكومة الأمريكية بعدد لا يُحصى من صور لول في ملفات سرية والتي تم الحصول عليها خلال عملية رصد جميع تحركاتها رفقة ابنتها في لحظاتهم الأخيرة.
أما أسرة لول، فتراها في أختها التي تشبهها إلى حد شبه متطابق.
ولا تزال أسرة لول لم تستوعب وفاتها بعد.
قال شيلو ميوز علي، زوج لول، “كنت مذهولاً في البداية عندما قُتلت ابنتي وزوجتي. توقعت اعتذاراً وتعويضاً عن الخطأ الذي ارتكبه الأمريكيون، ولكننا لم نتلق شيئاً”.
وأضاف “لقد اعترفوا بوجود ضحايا من المدنيين، ولكن التحقيق أظهر أنهم لا يعرفون حتى هوية الأشخاص الذين قاموا قتلهم”.
في السنوات التي تلت مقتل لول، تحول ذهول زوجها مما حدث إلى غضب.
“نحن نريد من الحكومة الأمريكية أن تصارحنا بالحقيقة، ولكننا نعرفها بالفعل.
لقد أظهر هذا الهجوم أنه بالنسبة للأمريكيين لا يوجد فرق بين الأعداء [المسلحين] والمدنيين”.
هذا المقال ترجمة لمقال نشره موقع مايل أند غارديان mg.co.za بعنوان
The Americans who got away with murder in Somalia
اترك تعليقاً