القذائف المدفعية تقتحم مخيمات النازحين، وتقصف المنازل السكنية.
الإمدادات الغذائية والطبية تنفد بسرعة، والناس يفرون دون أن يتمكنوا حتى من دفن جثث أحبائهم.
هذا هو الوضع الحالي في الفاشر، إحدى أكبر مدن دارفور وأحدث بؤرة للحرب المستمرة منذ عام بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع شبه العسكرية؛ وهي الحرب التي أدت بالفعل إلى نزوح نحو تسعة ملايين شخص وتركت أعدادًا كبيرة على شفا المجاعة.
ووسط التحذيرات الأممية من جرائم الإبادة الجماعية، ووصف مسؤولون أمميون بالوضع في الفاشر بـ “الجحيم على الأرض”، تأتي شهادات المراقبين والأفراد على الأرض لتؤكد أن هذا الوصف لا يعد مبالغة.
أحد سكان الفاشر، ويدعى جمال، قال عقب مقتل العشرات جراء القصف على حيه السكني أنه لم ير “أسوأ من حالة الأمهات والأطفال الأيتام الذين يبكون داخل المستشفيات من الألم”.
وبدأت المعركة من أجل السيطرة على الفاشر – التي يسكنها ما يصل إلى مليوني شخص – الشهر الماضي.
والمدينة هي آخر موطئ قدم للجيش في دارفور، وهي المكان الوحيد في المنطقة الغربية الذي لم تسيطر عليه قوات الدعم السريع خلال العام الفائت.
وللسيطرة على المدينة، ستحتاج قوات الدعم السريع – التي تتألف قواتها بشكل رئيسي من المجتمعات العربية في دارفور – لا فقط إلى هزيمة الجيش، بل إلى هزيمة العديد من الجماعات المتمردة التي يشكل غير العرب من الزغاوة – وهي إحدى المجموعات السكانية الرئيسية في الفاشر – السواد الأعظم من مقاتليها.
مخاوف من القتل على أساس العرق
ومع اشتداد القتال، يُخشى من حدوث استهدافات جماعية على أسس عرقية.
في الوقت الحالي، يتعرض معظم المدنيين للأذى نتيجة القصف المتبادل، وبسبب قيام قوات الدعم السريع بتطويق المدينة، وفرض حصار وحشي عليها.
ومع وجود عدد قليل من منظمات الإغاثة في الفاشر، وعدم قدرة قوافل الإغاثة على الدخول، لم يبق على الأرض سوى شبكة من مجموعات الشباب وغرف الاستجابة للطوارئ التي يخاطر أفرادها بحياتهم وأحيانًا يفقدونها بالفعل.
على مدى الأسابيع القليلة الماضية، قامت مجموعات المساعدة المتبادلة هذه – التي ظهرت في جميع أنحاء السودان – ببناء عيادة طبية للأطفال بعد أن أصيبت العيادة الرئيسية في المدينة بقذيفة، وأنشأت مطابخ لإطعام الأشخاص الذين فروا من هجمات قوات الدعم السريع.
الاشتباكات تعصف بهدوء الفاشر
وكانت الفاشر، عاصمة ولاية شمال دارفور، ملاذًا آمنًا للفارين من ويلات الحرب قبل القتال الأخير.
وفر مئات الآلاف من الأشخاص إلى هناك بعد أن ارتكب مقاتلو قوات الدعم السريع فظائع في أجزاء أخرى من دارفور ، وكذلك في مدن مثل الخرطوم.
ولكن هذا الهدوء لم يعد له أثر، حيث قُتل أكثر من 100 شخص وأصيب ما يقرب من 1000 آخرين في القتال الأخير.
ولم يتبق لدى المستشفى العامل الوحيد في المدينة من الإمدادات سوى ما يكفي لبضعة أيام، وفقًا للأمم المتحدة، كما تضررت شبكة المياه الخاصة بالمستشفى أيضًا.
وبسبب الاشتباكات في الفاشر اضطر الآلاف إلى النزوح، لكن الهروب من المدينة يتطلب المرور عبر نقاط تفتيش قوات الدعم السريع المحيطة بها.
ويقوم مقاتلوا الدعم السريع بتوجيه الاتهامات لمن يريدون الفرار، ومصادرة السيارات والممتلكات، واستجواب الناس بشأن انتماءاتهم للجيش والجماعات المتمردة.
مخيم “أبو شوك” الأكثر خطورة
ولعل الوضع الأكثر خطورة هو في مخيم النازحين المسمى ب “أبو شوك”،
والذي يقع على مشارف الفاشر وعلى مقربة من الخطوط الأمامية للصراع.
حيث يضم مخيم النازحين هذا ضحايا الصراع في دارفور في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، والذي شهد قيام الدولة السودانية – في عهد عمر البشير – بتسليح الميليشيات العربية المحلية المعروفة باسم “الجنجويد” (التي تحولت فيما بعد إلى قوات الدعم السريع) لسحق تمرد قامت به جماعات مسلحة معظمها من غير العرب.
وفي الأيام الأخيرة، سقطت قذائف قوات الدعم السريع على منازل المدنيين، ما أدى إلى مقتل العشرات وتسبب في حرائق هائلة، بحسب جمال، وهو من “أبو شوك”.
وقال جمال إنه رأى أشلاء متناثرة على الأرض، والجرحى يتجولون وقد اختلطت دموعهم بالدماء.
وقال إن الناس يموتون لأن عيادة المخيم غير مؤهلة لأن تُجرى بها عمليات جراحية، ولعدم وجود سيارة إسعاف لنقل الناس إلى المستشفى.
قال جمال: “لا نعرف لماذا تستهدف قوات الدعم السريع المدنيين وتهاجمهم بهذه المدفعية الثقيلة”.
وأضاف أن القصف المستمر يصنع شعورًا بالعجز لدى الناس.
الأمن عملة نادرة في الفاشر
”أبو شوك” ليس المكان الوحيد المتضرر في الفاشر؛ فبسبب شدة القتال لم يتبق سوى عدد قليل من الأماكن الآمنة في المدينة، والتي أشار إليها مراقبو الصراع في مختبر الأبحاث الإنسانية بجامعة ييل (Yale) الأمريكية باسم “صندوق القتل”.
وفي الوقت نفسه، يتأثر الجميع بالحصار. ورغم أنه لا يزال هناك مخزون من المواد الغذائية في المدينة ــ ومن الممكن أن يقوم بعض التجار بتهريب الإمدادات ــ فإن أسعار السلع الأساسية مثل اللحوم، والدقيق، والسكر، والمعكرونة، والصابون، ترتفع بمعدل يتجاوز إمكانيات الناس.
وإذا استمر الحصار، فلا شك أن العديد من المدنيين سيموتون، إما بسبب نقص الغذاء أو بسبب نقص الأدوية.
ويقول الناس أنهم بحاجة إلى إنهاء الحصار والقتال الآن، وليس غدًا ولا اليوم الذي يليه.
وقال محمد، أحد المتطوعين الذي يساعدون النازحين، أنه يتمنى أن يتمكن أعضاء الأطراف المتحاربة من رؤية وسماع القصص المؤلمة للمتضررين. وقال ما معناه أنه إذا رأوا ما رآه، فربما يلقوا أسلحتهم ويتوقفوا عن القتال.
عجز المجتمع الدولي عن حماية المدنيين
وقال أحمد جوجة، وهو صحفي ومراقب حقوقي مقيم بمدينة نيالا في دارفور، “يتعين علينا أن ندرك أن المجتمع الدولي لا يستطيع حماية المدنيين، وأنه لن يتمكن أحد من ضمان سلامتنا.”
وأضاف أنه “يمكن للأمم المتحدة والدول الأجنبية الإدلاء ببيانات كيفما تشاء، لكن كلماتها ليس لها أي معنى بالنسبة للمدنيين الذين يقتلون.”
اترك تعليقاً