أدى زوال النظام السوري إلى كشف جماعي للأقنعة في أنحاء البلاد وفي أوساط الشتات الواسع.
في صباح الثامن من ديسمبر (26 جمادى الأولى 1446هـ)، أقدم سهيل الغازي على ما كان يعتبره أمرًا لا يمكن تصوره: تحدث مع أسرته في سوريا بصراحة، ودون خوف.
كان الغازي قد فرّ من سوريا عام 1434هـ (2013م) بعد مشاركته في الاحتجاجات الأولى ضد نظام بشار الأسد ونجا من فترتين مرعبتين وقاسيتين في السجن. يقيم حاليًا في أوروبا، وقد أمضى العقد الماضي في دعم الثوار عبر نشر التحليلات والمقالات، وحافظ على حضور قوي على منصة إكس، التي كانت تعرف سابقًا بتويتر.
ورغم الأمان النسبي في المنفى، ظل محافظًا على هويته مخفية، إذ أن أفرادًا كُثر من عائلته الممتدة ما زالوا يعيشون في دمشق ومحيطها، وكان يخشى أن يؤدي نشاطه — أو حتى مجرد الحديث معهم في موضوع يشبه السياسة — إلى تعريضهم للخطر.
فالأسرة الحاكمة في سوريا فرضت سيطرتها لعقود امتدت لثلاثة وخمسين عامًا عبر شبكة تتكون من سبع عشرة وكالة استخباراتية، زرعت الرعب داخل البلاد وتجاوزت حدودها أحيانًا لإسكات المنتقدين في الخارج. في السنوات الأخيرة، وُجهت اتهامات لأجهزة الأمن السورية بشن هجمات على معارضين سوريين في ألمانيا، كما استدرجت أحد المعارضين البارزين للعودة إلى سوريا بوعود زائفة بالمصالحة، ليُلقى به في السجن فور وصوله. (وُجدت جثته الهزيلة بعد التحرير). وكثيرًا ما أُجبرت عائلات الناشطين أو المقاتلين على التبرؤ من أحبائهم أو مواجهة الاعتقال.
بالنسبة للعديد من الناشطين، سواء داخل البلاد أو خارجها، كانت السرية ضرورة لا غنى عنها، كما قال صهيب زينو، المؤسس المشارك للمجلة الإلكترونية “حرية”.
وأوضح زينو، الذي تحدث لأول مرة باسمه الكامل لمنصة “ذا إنترسبت”: “إن نظام الأسد لا يستهدف الأشخاص داخل البلاد فحسب، بل يمكنه أيضًا إيذاء من هم في الخارج عبر الإضرار بذويهم داخل سوريا”.
حرصًا على حماية أحبائه، لم يتحدث الغازي يومًا عن السياسة مع عائلته في الداخل. حتى في الأيام والساعات التي سبقت انهيار النظام، ومع اقتراب قوات الثورة من العاصمة، كان الخوف قد ترسخ في النفوس لدرجة أنهم واصلوا فرض رقابة ذاتية على أنفسهم، مكتفين بالحديث بعموميات خلال محادثاتهم عبر تطبيق واتساب.
فبعد سنوات من التغريد بشكل مجهول تحت الحساب @putintintin1، بدأ الغازي في عام 1441هـ (2020م) باستخدام نسخة مختصرة من اسمه الحقيقي، اعتقادًا منه أنها شائعة بما يكفي لعدم ربطها بعائلته. لكنه لم يكشف عن هويته أو صورته عبر الإنترنت.
إلا أنه مع فرار الأسد إلى موسكو صباح الأحد، أزاح الغازي وعائلته غطاء الرقابة الذاتية الذي طال عمره، وبدأوا الحديث بحرية عن تلك الأحداث الاستثنائية.
يقول الغازي لمنصة “ذا إنترسبت”: “تحدثنا عن رحيل الأسد، وعن سعادتنا الغامرة بإمكانية الحديث دون خوف، وعن ارتياحنا من أن أجهزته الأمنية لم يعد بوسعها تهديدنا، وتذكرنا كيف حول هو ووالده سوريا إلى جحيم لفترة طويلة”.
وهو يستشعر دفء الحرية التي نالتها عائلته أخيرًا، قرر الغازي الخروج من الظل في الفضاء الرقمي. على منصة إكس، نشر الناشط المستقل صورة له وهو يجلس في مقهى، مبتسمًا وتغمره أشعة الشمس.
وكتب قائلاً: “بعد الاعتقال والتعذيب على يد النظام السوري، وعقد كامل من المنفى القسري، سقط الأسد، وسوريا أخيرًا حرة. صفحة جديدة. #صورة_حساب_جديدة”.
![سقوط الأسد يحرر النشطاء ليعبروا عن أنفسهم بصراحة 2 GeSStvuXYAAh Iv](https://wasl.news/wp-content/uploads/2024/12/GeSStvuXYAAh_Iv.jpeg)
انكشاف جماعي
سرعان ما تلاشت الفرحة التي شعر بها ملايين السوريين أمام الصور التي بدأت بالظهور من السجون التي أُفرغت حديثًا، حيث عذّب النظام وأعدم آلافًا لا حصر لهم من الضحايا. وفيما كانت فرق الإنقاذ ومقاتلو المعارضة يعملون في مرفق صيدنايا سيئ السمعة للتعذيب والإعدام، الواقع على أطراف دمشق، اكتشفوا زنازين تحت الأرض، وأكوامًا من الجثث، وأدلة مروعة أخرى أكدت إلى حد كبير تفاصيل التقرير الصادر عن منظمة العفو الدولية عام 1438هـ (2017م)، الذي وصف السجن بـ”المسلخ البشري”.
في ظل هذه الأحداث، يخيم الغموض الثقيل بشأن استقرار البلاد، إذ استغلت كل من “إسرائيل” وتركيا الفوضى للتحرك بقوة نحو تحقيق مصالحهما في سوريا، بينما نفذت الولايات المتحدة ضربات جوية استهدفت، حسب مزاعمها، مقاتلين من تنظيم داعش ما زالوا ينشطون في المناطق الصحراوية المعزولة.
لكن بعد ثلاثة عشر عامًا من الحرب ونصف قرن من الحكم الوراثي الاستبدادي الذي أجبر السوريين على فرض رقابة ذاتية حتى مع عائلاتهم، جاء سقوط النظام ليطلق حالة فرح جماعي غير مسبوق في مدن سوريا. فقد خرجت الحشود إلى الشوارع احتفالًا، وهدمت تماثيل النظام القديم، وأعلنت عن مشاعرها الحقيقية لأول مرة في حياتها.
ومع رحيل الأسد، خرج العديد من الناشطين الذين عملوا تحت أسماء مستعارة لسنوات إلى العلن—وإلى عائلاتهم داخل الوطن.
وكتب أسامة، الطبيب البالغ من العمر 31 عامًا والمقيم في باريس، والذي كان يغرد منذ عام 1433هـ (2012م) تحت اسم “OSilent4”: “وطننا حُرّ، ولم يعد هناك داعٍ للاختباء بعد الآن”.
وُلِد أسامة لأبوين سوريين في المنفى بفرنسا، ومع ذلك لا يزال يفضل استخدام اسمه الأول فقط. وفي مقابلة مع “ذا إنترسبت”، قال أسامة إنه، شأنه شأن معظم السوريين، ليس ساذجًا حيال التحديات المقبلة.
أثناء حديثه مع أقاربه في مدينة حمص للمرة الأولى منذ سقوط الأسد، لم يستطع أن يشعر سوى بالفرح وهو يستمع إلى عمته وهي تصف مشاهد الابتهاج التي شهدتها على مدى الأيام الماضية. أخبرته أنها لا تزال تسمع أصوات الناس في الشوارع يرددون شعارات طالما حُظر رفعها ضد النظام.
“لقد كانت متأثرة للغاية،” قال وهو يتنهد. “لم أرهم يبتسمون بهذا الشكل منذ سنوات طويلة.”
وتابع قائلاً عن الحرب: “نحن في الغرب، كنا نشاهدها فقط على شاشات التلفاز وفي الكتب، لكنهم عاشوا القصف والاحتجاجات وكل شيء يومًا بيوم، ولم يستطيعوا التحدث علنًا.”
ثم أضاف بلهجة يغمرها الأمل: “الآن… كل شيء تغيّر.”
“لم أكن أعلم”
ظلّت سوريا لسنوات مقسّمة إلى مناطق نفوذ خاضعة لسيطرة قوى مختلفة داخلية وخارجية؛ شمال البلاد يخضع في معظمه لجماعات تطلق على نفسها اسم “الجيش الوطني السوري”، بينما يسيطر على شمالها الشرقي تحالف “قوات سوريا الديمقراطية” بقيادة كردية وبدعم أميركي. أما غالبية الأراضي السورية، اعتبارًا من هذا الأسبوع، فقد أصبحت خاضعة بشكل اسمي للحكومة الانتقالية في دمشق، وهي ائتلاف معارض متماسك يقوده تنظيم “هيئة تحرير الشام”، الفصيل الإسلامي الذي كان يقاتل تحت لواء تنظيم القاعدة حتى عام 1437هـ (2016م)، والمتهم بارتكاب انتهاكات واسعة لحقوق الإنسان في المناطق الشمالية الغربية التي خضعت لسيطرته.
ذا إنترست.
اترك تعليقاً