التشدق بأهمية حماية الأقليات والتعبير عن القلق حيال أوضاعهم من التصريحات المُستهلكة للمجتمع الدولي، ولكن مآسي مثل محنة الإيغور في تركستان الشرقية والروهينجا في ميانمار ومنطقة دارفور في السودان وتيغراي في إثيوبيا والمأساة المزمنة لفلسطين تكشف عن الفشل الذريع للمجتمع الدولي في حماية الكثير من الأقليات المستضعفة حقاً، وإلى أي مدى يكون الدافع وراء مثل هذه التصريحات التلاعب بدول أو مجتمعات بعينها لهندسة الواقع الدولي بشكل يخدم مصالح اللاعبين الكبار على الساحة.
اضطهاد الإيغور في الصين
على الرغم من عدة إدانات صريحة لرؤساء ومسؤولين كبار في عدة دول غربية، إلا أن الصين-التي تستمر في المراوغة وإنكار وجود أي شكل من الاضطهاد في سياساتها تجاه الإيغور- لم تخضع لأي نوع من مساءلة جادة حول عملية التطهير العرقي والاضطهاد الممنهج الذي تُخضع له سكان إقليم تركستان الشرقية -أو شينغيانغ كما تسميه الصين- والذي يشكل المسلمون المنتمون لعرقية الإيغور النسبة الأكبر من سكانه.
وتتنوع وسائل الاضطهاد التي يتعرض لها المسلمين في تركستان الشرقية من الخضوع للمراقبة الجماعية المستمرة -فجميعهم من منظور الحكومة الصينية مشاريع تهديد للأمن القومي- والتعرض للجهود المستمرة لتحريف الإسلام ليتوافق مع عقيدة ورؤية الحزب الشيوعي الحاكم، والإكراه على العمل بالسُخرة في المصانع، إلى التضييق على عدد الأطفال المسموح لهم بإنجابهم، وطبعاً الاحتجاز في ما يُسمى بمعسكرات إعادة التأهيل وهي معتقلات يتعرضون فيها للتعذيب الشديد ولعمليات غسيل مخ كالإجبار على ترديد الشعارات المؤيدة للحزب الشيوعي.
سوريا
أكثر من 250 بعثة أممية زارت شمال غرب سوريا هذا العام، ولكن أوضاع النازحين ما زالت متدهورة. فقد بلغت نسبة تخفيض قيمة المساعدات الإنسانية التي يقدمها برنامج الغذاء العالمي (World Food Program) للشمال الغربي السوري هذا العام أكثر من 70%؛ فالمانحين لديهم قضايا أهم وعلى رأسها أوكرانيا.
كما شكل اتفاق الأمم المتحدة مع النظام السوري لإدخال المساعدات عبر معبر باب الهوى ضربة سياسية ومعنوية للثوار، حيث أن هذا الإجراء يضفي على النظام الشرعية التي طالما أصر على أحقيته بها منذ اندلاع الثورة.
وفي ظل سعي العديد من دول المنطقة لتبييض صورة النظام من خلال تطبيع العلاقات معه، قدم الإجراء الأممي المذكور تسهيلاً لأحلام نظام الأسد النصيري بإعادة تأهيله سياسياً.فماذا حقق النظام الدولي في سوريا إذاً؟
حقق كل ما يغيظ الصديق ويسر العدا من تفتيت جبهة الثوار بالدعم المشروط، وفزاعة التصنيف على قوائم الإرهاب، واتفاقيات تجميد الجبهات كاتفاقية خفض التصعيد، وتفريغ المعارضة من ثوريتها عن طريق إدخالها دهاليز جنيف وأستانا وسوتشي.
دارفور في السودان
أحد أسباب تعثر الاستجابة الدولية لأزمة دارفور هو أن استخدام القوة لسحق مجموعات إثنية أو عرقية معينة تهدد سلطان الحكومة القائمة ليس أمراً خاصاُ بالسودان.
فقد شنت دولاً أخرى بالفعل حروباً ضد شعوبها للتمكين لفئة بعينها، مثلما حدث في الشيشان حيث قامت روسيا بتفعيل سياسة الأرض المحروقة ضد الشيشانيين.
وهو ما دفع روسيا-وهي عضو دائم في مجلس الأمن وتمتلك حق الفيتو- إلى معارضة ممارسة الضغط الدبلوماسي أو فرض العقوبات على حكومة عمر البشير خشية أن يشكل ذلك سابقة قد ترتد في وجها فيما بعد؛ وعلى ضرب روسيا بالمبادئ عرض الحائط لحماية مصالحها فَقِس.
كما أن المخاوف الجيوسياسية للدول الأعضاء بمجلس الأمن تشكل عائقاً أمام أي عمل جاد.
فباعتبارها المستثمر الأجنبي الرئيسي في صناعة النفط في السودان، امتنعت الصين عن التصويت على القرارات التي تهدد بفرض عقوبات على السودان وخاصة ضد قطاع البترول، وهدت باستخدام حق الفيتو كذلك ضد القرارات التي تعتبرها أقوى من اللازم.
ولو نحينا الإشكاليات المتعلقة بمصالح الدول جانباً، فلا تزال توجد مشكلة غياب الأدوات والهياكل اللازمة لحلحلة الأزمات الداخلية. فالصليب الأحمر كثيراً ما يتم منع موظفيه من دخول مناطق الصراعات الداخلية، ولا توجد آلية دولية تتمتع بالجاهزية لحماية الأفراد المتضررين أو لتنفيذ الخطوات اللازمة لمنع الإبادة الجماعية والقتل على نطاق واسع. هذا بالإضافة إلى أن الحكومات الغربية، إلى حد كبير، لا ترى أنه من مصلحتها القومية أو الاستراتيجية التدخل في القارة الإفريقية لوقف القتل، وأنه لا يوجد ما يبرر التكلفة السياسية والاقتصادية والعسكرية الكبيرة لمثل هذا التدخل؛ فإفريقيا في نهاية المطاف، قارة ذات أهمية ثانوية.
الاحتلال اليهودي لفلسطين
إذا ما استحضرنا أن قرار تقسيم فلسطين عام 1367هـ (1947م) لم تصدره سوى الجمعية العامة التابعة لهيئة الأمم المتحدة، ينبغي -نظرياً- أن يكون هذا كفيلاً بقطع أي رجاء في أن تُحل مأساة فلسطين من خلال المسارات الأممية.
وعلى الرغم من أن الكثير من الساسة والمثقفين الداعمين للقضية يرفضون مجرد التفكير في الإياس من استجداء الحل من الأمم المتحدة -والنظام العالمي الذي ما أُنشئت إلا حفاظاً على استقراره- فقد كان لأحد كبار موظفيها رأي آخر.
في 8 ربيع ثاني 1445هـ (28 أكتوبر 2023م)، بعث مدير مكتب المفوضية السامية لحقوق الإنسان في نيويورك، كريج موخيبر، برسالته الأخيرة إلى المفوض السامي للأمم المتحدة في چنيف، فولكر ترك.
كانت الرسالة التي كُتبت في خضم القصف الإسرائيلي الوحشي على قطاع غزة مشحونة بخيبة أمل موخيبر في الأمم المتحدة، والتي صار العجز عن إيقاف المذابح والإبادات الجماعية ديدناً لها. كتب موخيبر أنه “مرة أخرى نشهد إبادة جماعية تتكشف أمام أعيننا، ويبدو أن المنظمة التي نعمل بها عاجزة عن وقفها.”
وقال إن الأمم المتحدة فشلت في منع عمليات الإبادة الجماعية السابقة ضد التوتسي في رواندا، والمسلمين في البوسنة، والروهينجا في ميانمار، و،قال: “أيها المفوض السامي، نحن نفشل مرة أخرى”.
“إن المذبحة الجماعية الحالية للشعب الفلسطيني، المتجذرة في أيديولوجية احتلال عرقية قومية، استمرارًا لعقود من الاضطهاد والتطهير المنهجي … لا تترك مجالًا للشك … هذه حالة نموذجية للإبادة الجماعية”.
وقال إن الولايات المتحدة والمملكة المتحدة ومعظم أوروبا “لا يرفضون الوفاء بالتزاماتهم” بموجب إتفاقية جنيف فحسب، ولكنهم يقومون كذلك بتسليح “إسرائيل” ويوفرون لها الغطاء السياسي والدبلوماسي.
وفي فقرة لخصت مدى جدوى الأمم المتحدة في حلحلة أزمات المستضعفين عامة، والفلسطينيين خاصة، كتب موخيبر “تخلّفنا عما يلزم وما يفرضه الواجب لتجنب فظائع جماعيّة، وعن واجبنا في حماية الأشخاص في وضعيّة هشّة، وإلى الواجب المرتّب عن ذلك في عرض من اقترفوا تلك الجرائم أن يكونوا محاسَبين على أفعالهم. استمرّ الأمر من خلال موجات متكرّرة من تقتيل الفلسطينيين واضطهادهم منذ أن وُجدت الأمم المتحدة.”
أزمة الروهينجا في ميانمار
مرت أكثر من ست سنوات على بداية الحملة العسكرية الشرسة التي شنها جيش ميانمار على سكان ولاية راخين الذين ينتمي أغلبهم للأقلية المسلمة في البلاد.
قُتل أكثر من عشرة آلاف من الرجال والنساء والأطفال والرضع، وتم إحراق أكثر من ثلاثمائة قرية، واضطر أكثر من سبعمائة ألف شخص إلى الفرار إلى بنغلاديش بحثاً عن الأمان حتى وصل عدد النازحين إلى مليون شخص.
إن كارثية أداء الأمم المتحدة فيما يخص الروهينجا ليست سراً.
عندما سافر ليام ماهوني، الباحث والخبير في حماية المدنيين ورئيس مؤسسة “فيلدفيو سولوشيونز” (Fieldview Solutions) للاستشارات، إلى ميانمار لتقديم المشورة للأمم المتحدة بشأن تعاملها مع أزمة الروهينجا، أجمع العشرات من عمال الإغاثة الذين تحدث إليهم تقريبًا على تقييمهم لنهج المنظمة. إحدى عاملات الإغاثة التي كانت يساعد في إدارة معسكرات الاعتقال في ولاية راخين الغربية – حيث توفر الأمم المتحدة وغيرها من المنظمات الغذائية وغيرها من الضروريات الأساسية لعشرات الآلاف من الروهينجا الذين تم نقلهم قسراً بعد أعمال الشغب في عام 1434هـ (2012م) – أخبرت ماهوني أنها تشعر “وكأنني أمضيت ستة أشهر كسجانة”.الأبحاث التي أجراها ماهوني في عامي 1437 و1439هـ (2015 و 2017م) قادته إلى استنتاج مفاده أن الأمم المتحدة وشركائها متواطئين فيما يعتبره نظام فصل عنصري.
وتواجه الأمم المتحدة منذ سنوات أسئلة غير مريحة حول نهجها تجاه الروهينجا .وقد اتُهم كبار المسؤولين بالتقليل من أهمية انتهاكات حقوق الإنسان وتجاهل علامات التحذير في الفترة التي سبقت عمليات القتل الجماعي التي قادها الجيش والتي بدأت في ذو الحجة 1438هـ (أغسطس 2017م).
ووفقاً لجماعة “ائتلاف تحرير الروهينجا” فقد كانت نية ميانمار لارتكاب جرائم على أشنع المستويات واضحة لدى الأمم المتحدة، لكن لم يتم اتخاذ أي إجراء. ورفض ناي سان لوين، الناشط في تحالف الروهينجا الأحرار، إلقاء اللوم على “السيستم” بشكل مجرد دون توجيه اللوم للأفراد الذين أخفقوا.
“لقد فشل النظام لأن الأفراد لم يفوا بالتزاماتهم”.
وإلى الآن يقاسي مئات الآلاف ويلات الاضطهاد في راخين، ويحاول الكثير منهم عبور البحر إلى بنغلاديش رغم خطورة الرحلة التي كثيراً ما تنتهي بمأساة وأما الذين يعبرون بالفعل فتبدأ معاناتهم في مخيمات اللجوء.
وأما عن جنزالات ميانمار فلا يزالون يتمتعون بالحصانة الفعلية التي أعطاها لهم المجتمع الدولي الذي يجعجع حول الانتهاكات والإبادات ولا يتبع ذلك بأي اجراءات تُذكر على الأرض.
تيغراي
نشرت مؤسسة “أومنا تيغراي” (Omna Tigray)، وهي مؤسسة دولية غير ربحية تنشط في الولايات المتحدة، وأوروبا، وكندا، وأستراليا، و تنادي بوقف الحرب في تيغراي، تقريراً بعنوان “موقف المجتمع الدولي من العنف في تيغراي”.
وبعد إيراد نقولات عديدة لمسؤولين في الحكومة الأمريكية والاتحاد الأوروبي وكندا ومؤسسات الأمم المتحدة، خلصت المؤسسة إلى أن المجتمع الدولي يعترف بفداحة الوضع في تيغراي، غير أنه يجب أن يقوم بالمزيد من مجرد الإدانة وإلا فتيغراي ستكون رواندا جديدة.
ويرجع هذا النهج من التعاطي البارد للمجتمع الدولي مع قضية تيغراي إلى أن اتخاذ اجراءات صارمة بهذا الشأن ليس لها في نظر الدول الكبرى كبير مردود إيجابي على مصالحهم، خاصة والسلبيات المحتملة ليست بالهينة بالنسبة لهم.
فانهيار الحكومة الفيدرالية في إثيوبيا من شأنه أن يؤدي إلى تدفق عدد كبير من اللاجئين خارج البلاد، وتوفير بيئة خصبة لنشأة الجماعات المقاتلة .
كما أن مساءلة رئيس الوزراء الإثيوبي، آبي أحمد، الذي حصل على جائزة نوبل للسلام قبل قرابة عام ونصف من المجازر في تيغراي، سيشكل مصدر إحراج للمجتمع الدولي؛ فقد أبانت الأحداث عن حقيقة رجل السلام الواعد، وأنه ليس إلا أمير حرب متأنق.
لذا اكتفى المجتمع الدولي بالإدانات الباهتة المعتادة والمطالبة بانسحاب القوات الإريترية وقوات الأمهرة المحلية من تيغراي، بالإضافة إلى قيام الاتحاد الأوروبي بحجب بعض حزم المساعدات لإثيوبيا.
ويبقى الوضع يزداد سوءاً عما هو عليه.
اترك تعليقاً