بين (النازية) و(الترامبية)!!

Screenshot ٢٠٢٥٠٤٠٩ ٢٢٢٦٥٠ X

هل (أمريكا ترامب) هي (رايخ) جديد؟! عنوان مقال نشر مؤخرا في مجلة “بروسبيكت” البريطانية، يستعرض فيه المؤرخ البارز ريتشارد ج. إيفانز (1) فكرة مفزعة للعقلية الغربية: بأن ما شهدته ألمانيا في ثلاثينيات القرن الماضي من تحوّل ديمقراطي إلى ديكتاتورية نازية، لم يكن انحرافًا فجائيًا، بل سلسلة من التآكلات التدريجية داخل النظام السياسي نفسه، وأن بعض هذه التآكلات قد تكون جارية اليوم، في قلب أعتى الديمقراطيات الغربية، وبخاصة في الولايات المتحدة تحت ظاهرة “الترامبية”.

المقال قد لا يقارن “ترامب” بـ “هتلر” بشكل مباشر، لكنه يتساءل إن كانت الأنماط السياسية والاجتماعية التي مهّدت لصعود الرايخ الثالث قد بدأت بالتكرار في أمريكا المعاصرة، وإن كان التاريخ ينذر بعودة “استبداد آخر” يتسلل بملامح شعبوية عبر أبواب الديمقراطية ذاتها.

المقال يستند إلى أفكار وتحذيرات أطلقها الفيلسوف والقانوني الألماني اليهودي “فرانتس كاسنشتاين” أحد أبرز مفكري مدرسة فرانكفورت، الذي هرب من ألمانيا بعد صعود النازية، ليصبح لاحقًا من أوائل من درسوا طبيعة “الدولة الشمولية” وشرّحوا المنطق الذي تنهار به الديمقراطيات، واعتقد بأن الخطر لا يكمن فقط في الاستبداد، بل في تآكل الديمقراطية من داخلها، عبر أدواتها ذاتها، وأن الخطر لا يكمن في القادة وحدهم، بل في تحوّل الجماهير إلى جمهور مطيع، منساق، غاضب، يبحث عن زعيم يعفيه من المسؤولية.

لقد حذر “كاسنشتاين” من أن التحولات اللغوية والرمزية التي تشهدها المجتمعات، من “الدولة الديمقراطية” إلى “الدولة القومية القوية” ليست مجرد شعارات، بل مؤشرات على تحول جوهري في البنية السياسية والاجتماعية.

Screenshot ٢٠٢٥٠٤٠٩ ٢٢٢٠١٨ X

الصفحة الأولى من المقال

يحذر المقال من أن الديمقراطيات لا تنهار بالضرورة من خلال الانقلابات العسكرية أو الحروب، بل قد تتفكك من الداخل، حين يتم تجريدها من روحها الأخلاقية، وتفريغ مؤسساتها من معناها، وشيطنة خصومها، وتحويل الخطاب العام إلى ساحة تعبئة شعبوية مليئة بالخوف والكراهية.

ومن هذا المنطلق، يعيد الكاتب قراءة التاريخ الألماني، ليتأمل ملامح الأزمة في أمريكا الراهنة تحت حكم ترامب، محاولًا التعرّف على “العلامات التحذيرية” التي سبقت الرايخ (2) الثالث، وكيف يُعاد إنتاجها اليوم بطرق أقل دموية، لكنها لا تقل خطورة.

بين الرايخ الثالث والترامبية

رغم اختلاف السياقات والظروف، إلا أن المقال يُصر على أن أنماط السلوك السياسي وخطاب الزعامة الشعبوية تتكرر بصورة مقلقة، ويجري مقارنة بين “الترامبية” وإن كانت تختلف في أطوارها الأولى عن “النازية”:

  1. تحقير النخبة والمؤسسات: في ألمانيا ما قبل هتلر، كانت النخب الليبرالية والبرلمانية هدفًا دائمًا للهجوم، باعتبارها “ضعيفة” و “فاسدة”، و”منفصلة عن الشعب”، ترامب اتبع نفس النهج: هاجم الإعلام، القضاء، الجامعات، والبيروقراطية، واعتبرهم جزءًا من “الدولة العميقة” التي تعرقل إرادة الشعب.
  2. شيطنة الآخر: النازية روجت لنظرية المؤامرة اليهودية، وصنّفت اليهود كأعداء داخليين، وترامب شيطن المسلمين، والمهاجرين من أمريكا اللاتينية، والسود، بل حتى الديمقراطيين التقدميين، وجعل الأعداء دائمًا من الداخل، والتهديد دائمًا وجودي.
  3. القومية العدوانية: النازية مجّدت الأمة الألمانية وأعادت بناء الهوية الوطنية من خلال “النقاء العرقي” و”الدم والتربة”، والترامبية تعتمد خطاب “أمريكا أولًا”، لكنها تحمل نفس المعاني: أمريكا البيضاء، المحافظة، المتدينة، في مواجهة تهديد خارجي وداخلي مستمر.
  4. العداء للديمقراطية من داخلها: كلا النموذجين لا ينقلب على الديمقراطية مباشرة، بل يستخدم أدواته، فقد وصل هتلر عبر صناديق الاقتراع، وترامب كذلك، لكنهما استغلا الديمقراطية لتقويضها، عبر خطاب يزرع الشك في شرعية الانتخابات، كما حدث بعد انتخابات 1441هـ (2020م)، وحرض على العصيان، كما حدث في اقتحام الكونغرس في 1441هـ (6 يناير 2021م).
Screenshot ٢٠٢٥٠٤٠٩ ٢٢٢٦٥٠ X

هل الترامبية.. نازية؟

المقال لا يدعي تطابقًا تامًا، فترامب ليس ديكتاتورًا تقليديًا، ويسعى لتقويض قواعد اللعبة الديمقراطية، وأمريكا تملك مؤسسات أقوى من ألمانيا أيام هتلر، لكنها ليست منيعة أمام خطاب الكراهية والانقسام، كما أن المشهد الإعلامي الرقمي اليوم يسمح بنشر الأكاذيب وتكريس الخوف بشكل أسرع وأوسع من الثلاثينيات.

قد يبدو لدى البعض أن الربط بين النازية والترامبية مبالغ فيه، لكن الخطر الحقيقي لا يكمن في المبالغة، بل في الاستسهال، فالديمقراطية لا تنهار بضربة واحدة، بل تتآكل رويدًا من الداخل، حين تُشيطن المؤسسات، ويُحتقر العقل، ويُحاصر الخصم، ويُحرّض الجمهور، ويُختزل الوطن في شخص الزعيم.

لقد رأى “كاسنشتاين” من قلب ألمانيا النازية، كيف تتحول الديمقراطية إلى وهم، حين تتخلى عن قيمها الأخلاقية وتتحوّل إلى أداة في يد الغضب الشعبي، واليوم، تعود تلك التحذيرات لتتردد بصوت التاريخ في أروقة واشنطن، بين صخب الإعلام واستقطاب السياسة.

أشباح الرايخ الثالث

حين أعلن هتلر أن الرايخ الثالث سيستمر “ألف سنة”، كان يعبر عن طموح لحكم أبدي قائم على الولاء المطلق والقوة الأحادية، واليوم، لا يختلف المشهد كثيرًا حين يلمّح ترامب إلى رغبته في ولاية ثالثة أو ينشر صورًا له بتاج على رأسه كالملوك، أو حين يهتف أنصاره بأن “أمريكا تحتاجه إلى الأبد”، بل ويطالب بعضهم بنظام شبيه بالخلافة !!

التشابه بين التجربتين النازية والترامبية لا يكمن فقط في الخطاب السياسي أو رمزية الصورة، بل يتجلّى في البنية النفسية للجماهير التي، كما في ألمانيا الثلاثينيات، تبحث عن منقذ فردي، وعن هوية موحّدة، حتى لو كان الثمن هو التنازل عن ما يسمى “قيم الديمقراطية.”

ما يجعل الترامبية خطيرة ليس فقط نزوع ترامب الشخصي نحو الاستبداد، بل الإيمان الشعبي المتزايد بأنه المنقذ الأوحد، والمخلّص القومي الذي لا غنى عنه، لقد تحوّل ترامب، في نظر شريحة كبيرة من أنصاره، من مجرد رئيس منتخب إلى رمز شبه ديني، شخص يُحمّلون عليه آمالهم، ويبررون له كل شيء، ويرفضون محاسبته، بل ويُضفُون عليه صفات القداسة.

بعض مؤيديه شبّهوه بـ”الملك كورش” المختار من الله!! وآخرون يروْن فيه قائدًا مُلهَمًا يجب أن يبقى مدى الحياة. وفي أوساط “الإنجيليين القوميين” يبرّرون طموحه السلطوي بقدَرٍ إلهي، تمامًا كما فعلت الفاشيات الأوروبية حين مجّدت الزعيم على أنه هبة العناية الإلهية للأمة.

هذا النوع من الولاء الأعمى، حيث يتحول الزعيم إلى معبود، هو ما يسمح بتعليق العمل بالمؤسسات، وتبرير خرق القوانين، وتطبيع فكرة أن الديمقراطية يمكن أن تُعلَّق “مؤقتًا” لأجل “الخلاص الوطني” وهو نفس المسار الذي سلكته الشعوب الأوروبية قبل قرن من الزمن، حين اختارت بإرادتها نهاية جمهورياتها.

الدرس الحقيقي كما يراه الكاتب: أنه إذا لم نقرأ التاريخ جيدًا، فإننا نسمح له بأن يعيد نفسه، لا بنفس الأشكال، بل بنفس المنطق المدمر، وحينها سنكون بصدد لحظة انحدار جديدة. فهل تتعلّم أمريكا من تجربة الرايخ الثالث، أو كما قال “ريتشارد إيفانز” أن الديمقراطيات، قد تصوّت أحيانًا على نهايتها، بكل إرادتها؟

ملاحظات

  1. ريتشارد ج. إيفانز: هو من أبرز المؤرخين البريطانيين في مجال التاريخ الحديث، وخصوصًا تاريخ ألمانيا والرايخ الثالث والنازية، أستاذ فخري في جامعة كامبريدج، متخصص في التاريخ الألماني الحديث، النازية، الحرب العالمية الثانية، الفاشية، وهو مؤلف سلسلة ثلاثية ضخمة تُعد من أهم ما كُتب عن النازية باللغة الإنجليزية: (قدوم الرايخ الثالث – الرايخ الثالث في السلطة – الرايخ الثالث في الحرب).
  2. الرايخ” (Reich) تعني الإمبراطورية بالألمانية، وهي كانت تُستخدم للإشارة إلى مراحل الدولة الألمانية:

الرايخ الأول: الإمبراطورية الرومانية المقدسة (962–1806).

الرايخ الثاني: الإمبراطورية الألمانية تحت حكم بسمارك (1871–1918).

الرايخ الثالث: الاسم الذي أطلقه هتلر على نظامه، زاعمًا أنه امتداد “مقدّس” للتاريخ الألماني وأنه سيستمر ألف سنة، رغم أنه لم يدم سوى 12 عامًا (1933–1945).

نقلا عن الباحث حسن قطامش.

https://x.com/HasanQatamish/status/1909222629044789682?t=Ur8FmtmJVP69y5hH-0IIvA&s=19

اشترك في نشرتنا البريدية للإطلاع على ملخص الأسبوع

Blank Form (#5)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

طالع أيضا