في صراع القوى الأهم في الشرق الأوسط، كتبت السياسية “الإسرائيلية”، النائبة السابقة، والكاتبة والاستراتيجية إينات ويلف، أن إيران و”إسرائيل” وروسيا يشتركون في هدف مشترك، وهو استمرار تقسيم الشرق الأوسط. وقد وضحت هذه الأطروحة بشكل متسق للغاية في تقرير نشره معهد أستراليا للسياسة الاستراتيجية، والذي يتناول الأولويات الاستراتيجية الكبرى ل”إسرائيل” في مستقبل الشرق الأوسط، وكذلك في ملخص التقرير الذي نُشر في مجلة ‘الاستراتيجي’ التابعة للمعهد.
تبدأ أول جملة في تقريرها، الذي يحمل عنوان ‘الصراع على الهيمنة في الشرق الأوسط’، والصادر في شعبان 1438هـ (مايو 2017م)، وتلخص وجهة نظرها الاستراتيجية طويلة المدى:
‘في العقود القادمة، ستكون قصة الشرق الأوسط، خاصة في العالم العربي، هي محاولات الهيمنة التي يسعى إليها الإسلام السني، وجهود غير المسلمين والمسلمين غير السنيين لعرقلة ظهور أي قوة سنية قادرة على توحيد العرب السنة، وحتى العالم الإسلامي السني بشكل عام.’
مقدمة طويلة تلخص التقرير بأكمله ووجهة نظرها الاستراتيجية الكبرى. في هذه المعادلة، التي تُختصر في جملة واحدة وتُتوقع أن تستمر لعقود قادمة، تشكل “إسرائيل”، بلا شك، عنصراً محورياً، بل ربما العنصر الرئيسي، في الجبهة الساعية إلى منع ظهور قوة سنية إسلامية مهيمنة في الشرق الأوسط. ومع ذلك، وفقاً للتقرير، فإن “إسرائيل” ليست وحدها في هذا الجهد، إذ إن هناك حليفين طبيعيين نشطين في الميدان بمختلف عناصر القوة العسكرية والسياسية، الصلبة والناعمة، وهما إيران وروسيا، اللذان يساهمان بفعالية في منع ظهور دولة قادرة على توحيد الشرق الأوسط.
في الصفحة الأولى من التقرير، تقدم ويلف تشبيهاً معبراً ومناسباً، حيث تصف السياسة الخارجية البريطانية تجاه القارة الأوروبية على مدى 500 عام بأنها كانت تهدف إلى منع توحد أوروبا تحت سيطرة قوة واحدة، مما أدى إلى استمرار التفكك السياسي في القارة، وهو وصف دقيق إلى حد كبير. وتشبه ويلف دور إيران و”إسرائيل” وروسيا في الشرق الأوسط بهذا الدور التاريخي، حيث أن الثلاثة يتعاونون للحفاظ على تقسيم المنطقة عبر التدخلات العسكرية والسياسية والاقتصادية، واستخدام كافة عناصر القوة الصلبة والناعمة لمنع أي دولة أخرى من توحيد المنطقة. كما أن التقرير يلخص في جملته الأولى أن القوة المحتملة التي يُخشى من توحيدها للمنطقة، نظراً للتركيب الثقافي والديموغرافي، هي القوة السنية الإسلامية.
تستخدم إيران و”إسرائيل” وروسيا الجماعات الدينية والمذهبية والإيديولوجية الأقلية لدعم وتعزيز استمرار تقسيم الشرق الأوسط. ويتجلى ذلك في أمثلة كثيرة، من نظام الأسد المدعوم من روسيا وإيران إلى الفالانجيين المدعومين من “إسرائيل”. وهكذا، يسعى هؤلاء إلى عرقلة الهيمنة السياسية والهيمنة الإقليمية للأغلبية السنية في المنطقة، ويحققون في مساعيهم نجاحاً ملحوظاً. نتيجة لجهود إيران و”إسرائيل” وروسيا المستمرة منذ سنوات، لا توجد اليوم في فلسطين والعراق وسوريا دولة تتمتع بالسيطرة السياسية وتضم السكان العرب السنة، الذين يصل عددهم إلى الملايين.
في دمشق، هناك إدارة دمى تستمد شرعيتها من الأقلية المذهبية وتستغلها، وتعتمد على دعم عسكري هائل من إيران وروسيا، وتستخدم العنف الشديد ضد السكان السنة. وفي بغداد، هناك إدارة تتخذ من الهوية المذهبية وسيلة لتحقيق أهدافها، وقد انتقلت فعلياً تحت تأثير إيران بعد الاحتلال الأمريكي.
في الضفة الغربية وقطاع غزة، يعيش ملايين الفلسطينيين تحت الاحتلال منذ عقود، ويتعرضون في أوقات مختلفة لاعتداءات عنيفة تصل إلى حد الإبادة الجماعية، بينما يعيش ملايين آخرون كلاجئين في دول مجاورة مثل الأردن ولبنان، أو كمواطنين من الدرجة الثانية داخل “إسرائيل”. ورغم أن سياسات الهندسة السكانية التي تصل إلى حد الإبادة الجماعية التي تتبعها الأقليات المسلحة للحفاظ على سلطتها السياسية تعتبر مروعة، إلا أنها للأسف ليست مفاجئة.
تفادي الوقوع في الفخ: التلاعب الاستراتيجي بين محاور الولايات المتحدة-“إسرائيل” وروسيا-إيران
في هذه الدوامة المستمرة منذ عقود والتي لا تتصدر العناوين الرئيسية إلا من خلال الحروب والمجازر الجماعية المروعة، يغفل أو يتعمد إغفال حقيقة أن كلا المحورين الرئيسيين المرتبطين بالقوى العالمية في المنطقة يلعبان دوراً مهماً في استمرار تقسيم الشرق الأوسط. من جهة، يوجد المحور الأمريكي-“الإسرائيلي” الذي يشمل “إسرائيل” ذات الهيكل الاستعماري الاستيطاني منذ تأسيسها، والتي احتلت الأراضي الفلسطينية بدعم خارجي استثنائي من بريطانيا، وفرنسا، وأخيراً الولايات المتحدة، إلى جانب عدد من الحلفاء العرب الجدد مثل الإمارات العربية المتحدة. من جهة أخرى، نجد المحور الروسي-الإيراني الذي يروج لنفسه كمخلص ضد النفوذ الأمريكي، بينما يثبت تورطه في قمع مطالب العرب في مناطق واسعة تشمل جنوب سوريا تحت إدارة الأسد، وشرق ليبيا تحت قيادة حفتر، من العراق إلى لبنان.

من هذه الزوايا، وبالنظر إلى المبادرات والأهداف المشتركة التي تكمل بعضها البعض في المنطقة، يتضح أن إيران و”إسرائيل” وروسيا تشكل كل منها حليفاً طبيعياً للآخر. وبالتالي، فإن القضية الأساسية تكمن في معارضة كل من تحالفات الولايات المتحدة-“إسرائيل” وروسيا-إيران، من أجل الحد من تقدم كلا المحورين. فالتعاون أو التماهي مع التحالف الروسي-الإيراني تحت مسمى “محور المقاومة” في مواجهة الاحتلالات الأمريكية-“الإسرائيلية”، أو دعم التحالف الأمريكي-“الإسرائيلي” في مواجهة الاحتلالات الروسية-الإيرانية، إنما يندرج تحت فخ هذا الدوران الدموي المفرغ. الديناميكية الأساسية للتلاعب الاستراتيجي بين هذين المحورين المتناقضين وأتباعهما، كما يتضح من حالات العراق وسوريا، تقوم على طرد وقتل العرب السنة بشكل جماعي، ومن ثم يتم تقاسم أراضيهم وحقوقهم السياسية والاقتصادية وغيرها بين هذين المحورين المتنافسين بشكل دبلوماسي ناجح ظاهرياً.
هل يمكن لمصر والسعودية وتركيا توحيد الشرق الأوسط؟
للفكاك من دوامة الدم التي تسببت بها تحالفات الولايات المتحدة-“إسرائيل” وروسيا-إيران، قد يكون الحل في توجه دول الشرق الأوسط نحو تكامل وتعاون سياسي واقتصادي وعسكري يشبه ما بين الاتحاد الأوروبي والناتو. وبالنظر إلى التركيبة السكانية للمنطقة، إذا تحقق ذلك، فمن المحتمل أن تكون الوحدة ذات أغلبية سنية مسلمة. لذا، ليس من المستغرب أن تُوصم الجهود الرامية لتوحيد المنطقة بـ’الهيمنة السنية الإسلامية’ من قبل المعارضين. وفقاً للتقرير الذي أعده ويلف والذي أشرنا إليه في بداية المقال، فإن الدول الثلاث التي تمتلك القدرة على توحيد الشرق الأوسط هي تركيا والسعودية ومصر. فعلاً، عندما نقيم المزايا المحتملة مثل الكثافة السكانية، القوة العسكرية، الموارد الاقتصادية، الرمزية الدينية، الإرث التاريخي، التركيبة الثقافية للمنطقة والموقع الجغرافي، تبرز مصر والسعودية وتركيا كالدول القادرة على قيادة توحيد الشرق الأوسط، حيث قامت بهذه المبادرات في الماضي البعيد والقريب.

تاريخياً، ورثت مصر إرث الدول الأيوبية والمملوكية التي وحدت الشرق الأوسط من سوريا إلى الحجاز، وحاولت تحت قيادة جمال عبد الناصر في منتصف القرن الماضي توحيد مصر وسوريا تحت راية الجمهورية العربية المتحدة لثلاث سنوات، وشاركت في العديد من الحروب ضد “إسرائيل”، وما زالت تُعد أكبر جار عربي ومسلم ل”إسرائيل” من حيث عدد السكان وقوة الجيش. ومع ذلك، بموجب اتفاقية كامب ديفيد التي وُقِّعت عام 1398هـ (1978م) تحت إشراف الولايات المتحدة، أصبحت مصر، مقابل عدم صراعها مع “إسرائيل”، الدولة الثانية في العالم من حيث تلقي المساعدات الأمريكية بعد “إسرائيل”.
وبعد ثورات الربيع العربي، شهدت مصر لأول مرة في تاريخها آلاف السنين انتخاب رئيس جمهورية وبرلمان عبر انتخابات تنافسية. لكن هذا الإمكان الديمقراطي والتوحيدي تم القضاء عليه بانقلاب عسكري مدعوم من قوى تخشى من “مصر الخارجة عن السيطرة”، مما جعل “خطر مصر” يبدو أنه تراجع عن الأجندة لفترة.
أما السعودية، فقد خاضت أيضاً فترة من التحدي للنظام ثم ما لبثت أن توصلت إلى تسوية معه. بعد احتلال القدس الشرقية من قبل “إسرائيل” عام 1387هـ (1967م)، واحتراق المسجد الأقصى عام 1389هـ (1969م)، قادت السعودية تأسيس منظمة التعاون الإسلامي (إيسيسكو) خلال الفترة من 1388 إلى 1392هـ (1969 إلى 1972م)، وأصبحت مدينة جدة مقراً لها.
وربما الأهم من ذلك، أن الملك فيصل بن عبد العزيز أطلق حظرًا نفطيًا ناجحًا ضد الدول الداعمة ل”إسرائيل” في حرب يوم الغفران عام 1393هـ (1973م)، مما تسبب في واحدة من أهم التحولات الاقتصادية السياسية الدولية وزيادة أسعار النفط بشكل كبير، مما مكن الدول العربية المنتجة للنفط من الحصول على مليارات الدولارات بسرعة. بعد حوالي عامين من هذا الحدث، قُتل الملك فيصل على يد ابن أخيه العائد من الولايات المتحدة. ومع ذلك، فإن احتفاظ السعودية بمواردها النفطية الهائلة وإدارة مكة والمدينة استمر في تعزيز إمكانياتها القيادية في الشرق الأوسط والعالم الإسلامي.
بديل التحالفات الأمريكية-“الإسرائيلية” وروسيا-الإيرانية: التحالف الثالث ودور تركيا
تركيا، بكونها وريثة آخر دولة إسلامية كبيرة توحدت تحت سقف واحد حتى عام 1336هـ (1918م)، وامتلاكها لأكبر اقتصاد في الشرق الأوسط وأقوى جيش فيه، وتجربتها الطويلة في الانتخابات التنافسية متعددة الأحزاب لأكثر من مئة عام، مما يجعلها الأعرق ديمقراطياً في المنطقة، تمتلك من العناصر القوية والناعمة ما يؤهلها لقيادة عملية التكامل في المنطقة.
ومع ذلك، كما هو الحال في مصر والسعودية في الماضي والحاضر، فإن تركيا، التي تحدت الوضع الإقليمي الراهن خلال العقد الماضي، تواجه جهوداً متواصلة لتقويضها من قبل إيران و”إسرائيل” وروسيا وأتباعهم، مما يعمق الانقسام الإقليمي.

في الشرق الأوسط، الذي يُقسم ويُحتل ويعاني من التهجير الجماعي والمذابح، ويُغير تركيبته السكانية الدينية والمذهبية باستخدام العنف البالغ، أرى أن الحل الوحيد لكل من تركيا وشعوب الشرق الأوسط، التي تواجه مشاكل جسيمة مع كلا المحورين الأمريكي-“الإسرائيلي” وروسيا-الإيراني، هو إنشاء تحالف ثالث بديل لهذين المحورين. بناءً على هذه الأفكار، وبدافع بدء نقاش استراتيجي كبير لتركيا، نشرت مقالي بعنوان “الاستراتيجية الكبرى لتركيا كقوة ثالثة: اقتراح واقعي” في العدد الخاص لمجلة Perceptions حول “مناقشة الاستراتيجية الكبرى لتركيا” في عام 1441هـ (2020م).
من الواضح أن نجاح تركيا في مثل هذه الجهود بشكل فردي ليس بالأمر الممكن، لكن العديد من الجهات الفاعلة في الشرق الأوسط، التي تهدد وجودها المحاور الأمريكية-“الإسرائيلية” أو روسيا-الإيرانية، مثل قطر وليبيا، والحكومة السورية المؤقتة، وإقليم كردستان العراق، وفلسطين، والصومال، تعتبر حلفاء طبيعيين لتركيا. القضية الرئيسية تكمن في تنظيم كل هؤلاء الفاعلين، بدعم من تركيا، ضمن إطار استراتيجية كبرى متماسكة، وصبراً وإصراراً، لبناء طريق التعاون الإقليمي والتكامل القائم على إرادة الشعوب وليس على الأنظمة الدمى التي تعتمد على الدعم الخارجي.
Fokus+.
اترك تعليقاً