الصمت الإعلامي المتواطئ مع جرائم قتل المدنيين في القصوفات الأمريكية

photo 2024 02 10 14 58 44


لو أوقفت شخصاً بشكل عشوائي في أي دولة من دول العالم وسألته عن رأيه في سقوط قتلى مدنيين جراء القصف الجوي الأمريكي الأخير في الصومال على سبيل المثال، فغالباً سيكون رده ”لا أعرف عما تتحدث”.

ستكون هذه الإجابة – على الأرجح-  إجابة صادقة؛ حتى لو كان المجيب ممن يمضون ساعات في متابعة الأخبار.

ذلك لأن الصمت الإعلامي الذي يكتنف قضية الضحايا المدنيين للضربات الجوية الأمريكية في اليمن والصومال ومن قبل العراق وسوريا وأفغانستان هو ظاهرة عالمية مطردة؛ لا يشذ عنها إلا المنصات المستقلة والتي مهما يبلغ عدد متابعيها، فإنه لا يزال بينها وبين استكمال نصاب تشكيل الرأي العام بوناً شاسعاً.

أما حجر زاوية هذا الصمت، فهو كبرى وسائل الإعلام الأمريكي الدائر في فلك رؤية الولايات المتحدة الكلية للأحداث.

تراتبية الضحايا المدنيين وفق الإعلام الأمريكي

يحدد الإعلام الأمريكي – بانتقائية شديدة – القتلى المدنيين الذين سيتم منحهم وسام “البراءة”، وتأطير قصصهم في وعي المشاهد كقصص مأساوية لضحايا تستحق التعاطف معها.

وهو في ذلك لا يشذ عن السردية الحكومية بل هو مادة استمداده الأساسية؛ وإن كل من الخطاب الإعلامي والخطاب الحكومي الرسمي يستلهم من ويقوم بتغذية الآخر.

وربما من أوضح الأمثلة على ذلك، التباين بين الموقف الرسمي والإعلامي من الضحايا المدنيين في غزة، وبين القتلى المدنيين في أوكرانيا.

توظيف الضحية لتبرير موقف الجلاد

عندما قامت شبكة “سي إن إن” بتغطية الخسائر في صفوف المدنيين في أفغانستان، صرح رئيسها والتر إيزاكسون في 15 شعبان 1422 هـ (31 أكتوبر 2001م) لصحيفة الـ”واشنطن بوست” حول ما يعتقد أنه الإطار المناسب لتغطية سقوط الضحايا المدنيين: “أنت تريد التأكد من أن الناس يفهمون… أن الأمر [سقوط الضحايا المدنيين] يقع في سياق هجوم إرهابي تسبب في معاناة هائلة في الولايات المتحدة”.

ووصف جون مودي، نائب رئيس “فوكس نيوز” في ذلك الوقت، كلام إيزاكسون بأنه “ليس بالأمر السيئ على الإطلاق”؛ لأن “الأمريكيين بحاجة إلى أن يتذكروا السبب الذي أدى إلى حدوث ذلك”.

لقد كانت التغطية الإعلامية حول الحرب في أفغانستان تعد عمداً بحيث تروج لرواية الحكومة الأمريكية بأن قضيتها نبيلة، ولحجب الخسائر في صفوف المدنيين عن المتابعين، مع استثناء عرضها في سياق يبررها.

تنتمي كلا من “فوكس” و “سي إن إن” إلى معسكرين سياسيين وفكريين متناحرين – الجمهوري والديمقراطي – وتختلف رؤآهم حول الدين، ومدى تدخل الحكومة في الحياة اليومية، والتعليم، ونظام الرعاية الصحية، والكثير من تفاصيل السياسة الخارجية، ولكنهما اجتمعا على إيمانهم باستثنائية أمريكا وعدالة قضاياها.

تجاهل متعمد لآثار الحروب التي قادتها الولايات المتحدة

photo 2024 02 10 13 48 27

في شوال 1444هـ (مايو 2023م)، صدر عن “مشروع تكاليف الحرب” البحثي (Costs of War Project) – التابع لجامعة براون – دراسة قدر فيها أن الحروب التي قادتها الولايات المتحدة منذ 11 سبتمبر ساهمت – بشكل مباشر وغير مباشر – في وفاة 4.5 مليون شخص ونزوح ما يقدر بنحو 40 إلى 60 مليون شخص في البلدان المستهدفة – أفغانستان، والعراق، واليمن، وباكستان، وليبيا، والصومال، وسوريا.

كانت التغطية الإعلامية لنتائج الدراسة مخزية.

photo 2024 02 10 13 48 19

عمال الإنقاذ يبحثون بين الأنقاض عن جثث في الموصل بالعراق في جمادى الآخرة 1438هـ (مارس 2017م) فيليبي دانا / أسوشيتد برس

فباستثناء المقالات التي نشرتها المنافذ الإعلامية الصغيرة – مثل The Hill وNY1 وUPI – لم يصدر عن الصحف الكبرى في أمريكا ما يلفت الإنتباه إلى هذه الأرقام المهولة سوى تقرير واحد في صحيفة الـ”واشنطن بوست”.

لم نر تأملات مهيبة حول الحرب من قِبل وسائل الإعلام الخاصة، ولا مقالات سياسية تناقش كيفية تجنب مثل هذا الدمار في المستقبل، وبالتأكيد لم يكن هناك أي مقالات افتتاحية تنادي بإحالة مهندسي تلك الحروب إلى المحاكمة على جرائمهم.

التفاصيل الكامنة وراء حُجب الإعلام

photo 2024 02 10 15 01 59

أشخاص يتجمعون لإلقاء نظرة على جثث أقاربهم، ومنها جثث أطفال، بعد غارة على مزارعهم في بارييري، في 3 ذو الحجة 1438هـ (25 أغسطس 2017م).

واتهم زعماء المجتمع الصومالي القوات، برفقة مستشارين عسكريين أمريكيين، بقتل تسعة مدنيين في الغارة . تصوير: محمد عبد الوهاب/ وكالة الصحافة الفرنسية عبر غيتي إيماجز

وفق تحقق نشرته مجموعة Airwars الرقابية – والتي ترصد الضرر الذي يلحق بالمدنيين في مناطق الصراعات – في 29 محرم 1443هـ (6 سبتمبر 2021م)، فإن الولايات المتحدة أعلنت من خلال بياناتها العسكرية الرسمية خلال عشرين عاماً من حربها المزعومة على الإرهاب عن ما لا يقل عن 91,340 ضربة جوية في سبع مناطق صراع رئيسية؛ هي: أفغانستان، العراق، باكستان، اليمن، ليبيا، سوريا، والصومال

وقد خلصت Airwars إلى أن أقل تقدير لعدد القتلى المدنيين جراء الضربات الجوية الأمريكية – تحديداً – هو 22,679، وأقصاه 48,308.

عدد الضحايا المدنيين بلغ ذروته في العراق في عام 1424هـ (2003م) – عام الغزو الأمريكي للبلاد – حيث وصل إلى ما لا يقل عن 5,529 قتيلاً؛ وكانت الولايات المتحدة قد أعلنت ذلك العام عن تنفيذها 18,695 طلعة جوية.

كما أسفر قصف التحالف الدولي – بقيادة الولايات المتحدة – على كل من سوريا والعراق في عام 1438 هـ (2017م) وحده عن مقتل 4,931 مدنياً وفق أدنى التقديرات.

أما لو تم اعتماد التقدير الأعلى لعدد الضحايا للعام نفسه، فسيكون الرقم 19,623 قتيلاً من المدنيين.


جدير بالذكر أن قصف حملة التحالف الدولي شهد ذروة ممتدة في الفترة من 1436 إلى 1438هـ (2015 إلى 2017م)، حيث نفذت طائراته أكثر من 9000 ضربة جوية سنوياً خلال تلك المدة.

ومن المضحك المبكي أن Airwars تواصلت خلال قيامها بالبحث المذكور أعلاه مع القيادة المركزية الأمريكية (CENTCOM) مباشرة، وكان الرد الذي تلقته عبر البريد الإلكتروني على طلبها للمعلومات حول عدد قتلى القصف الجوي الأمريكي من المدنيين خلال “الحرب على الإرهاب” كالتالي: “المعلومات التي تطلبها ليست متاحة على الفور في مكتبنا لأنها تتعلق بعمليات/حملات متعددة تمتد عبر فترة تتراوح بين 18 و20 عامًا”.

وقامت القيادة المركزية بتوجيه Airwars إلى التقدم بطلب وفق قانون (حرية الحصول على المعلومات Freedom of Information)؛ بيد أن الحصول على رد على مثل هذه الطلبات قد يستغرق عدة سنوات، مع عدم وجود ضمان بأن تتم الموافقة على الطلب وتوفير المعلومات المطلوبة في نهاية المطاف.

الطغيان الأمريكي مستمر مع الصمت

photo 2024 02 10 15 00 11

أفغاني يتلقى العلاج بعد إصابته في غارة أمريكية

لا تزال الطائرات الأمريكية تقصف -بحرية وبدون أدنى قيود أو اعتراضات- المدنيين في مناطق الصراع، وتخرج القيادة العسكرية الأمريكية عقب كل قصف بيانا إنشائيا “مملا” عن استهداف إرهابيين في ضربات دقيقة لم يسقط فيها ضحايا مدنيون، لكن الواقع أن تتبع الضربات الأمريكية لا يزال يؤكد سقوط مدنيين ومن النساء والأطفال في عدة قصوفات يتكتم عليها الإعلام.

قد تعتقد الإدارة الأمريكية أن التكتم على جرائمها بحق المدنيين والتستر بستار ما يسمى الحرب على الإرهاب سيحقق لها انتصارات في حروبها، لكن في الواقع، هذا التكتيم سيكون سبب إطالة أمد الحروب، وسبب تأجيج العداء ومشاعر الانتقام من الأمريكيين بل وسبب هزيمتها كما شهدت ذلك أرض أفغانستان.

الخاتمة

photo 2024 02 10 14 58 44 1

فتى يمني يسير بجوار جدارية بالعاصمة صنعاء كُتب عليها “ليش قتلتوا أسرتي؟” أسفل رسمة لطائرة أمريكية بدون طيار

تكمن خطورة الصمت في أنه لا يُمكن سماع صوته؛ فالصمت يتحقق بمجرد الامتناع عن الحديث – وفي مثل حالات الخرس الإعلامي الذي تناوله هذا التقرير، فإننا نجد أنفسنا في مواجهة ما يمكن أن نسميه  “الصمت الوظيفي”؛ حيث يُسكت عن أهم ما ينبغي الحديث عنه من أجل تمرير المصالح الأيديولوجية والعسكرية لقوى الاستكبار العالمي.

إنها دائرة مفرغة نكدة؛ فالصمت يولد مزيداً من الصمت حتى يطبق على العالم بأسره، ويصبح هو الوضع الطبيعي المعتاد، والمُستغرب حاله والمستهجن فعله هو من يقصد جدار السكوت بمعول الحق، ولسان حال – ومقال – الناظرين {ما سمعنا بهذا في آباءنا الأولين}.

المصادر:

إنرتسبت

ووستن

إير وورز

الغارديان

كورنت أفارز

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

طالع أيضا