أغلب الدكتاتوريون في عالمنا الإسلامي، يتلقون المساعدات السياسية والعسكرية والاستشارية السخية من قبل الإدارات الأمريكية المتوالية، للحفاظ على مواقعهم في منظومة الهيمنة الغربية. ومن يبحث في دوافع هذا الفعل المناقض تماما للشعارات الأمريكية عن الحريات والديمقراطية، يعلم جيدا أنه الوسيلة الأوثق لمنع أي صعود للإسلاميين في الحكم وللتصدي لأي محاولة للاستقلالية بهوية إسلامية رائدة.
فأمريكا تضع تحت قدمها كل شعاراتها ومبادئها، عندما يتعلق الأمر بدعم حكومات الديكتاتوريين ومنع صعود الإسلاميين، لأن مصالح أمريكا تكمن في بقاء هيمنتها على المنطقة الإسلامية بوجود هؤلاء الدكتاتوريين الذين يحكمون شعوبهم بالحديد والنار، وليس بتولي حكام إسلاميين يجمعون الشعوب على هويتهم ويقدمون مساحة لانتعاش أحلامهم في التحرر والسيادة. ولذلك ضربت أمريكا بعرض الحائط موقف أغلبية الشعوب المعارض لهؤلاء الدكتاتوريين ونظرة الشعوب المكلومة لها وعززت دكتاتورية بشعة تخدم مصالحها!
فلم تتردد الإدارات الأمريكية في دعم الدكتاتوريين بكل صفاقة، والتنسيق الاستخباراتي معهم بكل وقاحة، على الرغم من إقرار مؤسسات النظام الدولي الحقوقية بشكل متكرر وموثّق بكمّ مهول من الجرائم والانتهاكات لحقوق الإنسان التي يسطرها الدكتاتوريين الذين يصفق لهم في المحافل الدولية وتسخّر لهم المنصات للحديث كحكام شرعيين لشعوبهم، بينما سجلاتهم الطاغية توجب رفع أي اعتبار لشرعيتهم في الحكم، التي تحميها الشرعية الدولية.
ديمقراطية أمريكا ودعم الدكتاتوريات
وقد شاهدنا في العراق هذا النفاق والتناقض بين شعارات أمريكا وبين أدائها وممارساتها على أرض الواقع، وهو أمر مرصود حتى في كتابات الغربيين أنفسهم، فهذا توبي دودج، الأستاذ في العلوم السياسية، يشير في كتابه “العراق: من الحرب إلى الدكتاتورية الجديدة”، إلى أن الولايات المتحدة قد أنشأت نظامًا سياسيًا مبنيًا على الإقصاء بدلاً من مشاركة الجميع، وأدت سياستها ومواقفها وخدمة مصالحها إلى دفع البلاد نحو الانهيار. ولم يكتف الأمريكيون وحلفاؤهم بذلك، بل قدموا دعما سخيا للنظام الدكتاتوري “الطائفي” الذي حكم العراق بعد سقوط نظام صدام حسين، وعززوا شرعية نظام ارتكب عمليات قتل “طائفية ” على الهوية السنية بحماية أمريكية، وأطبق وطأته على البلاد بسياسة الطغيان والإقصاء، وهكذا حظي هذا النظام الدكتاتوري بدعم الإدارة الأمريكية حاملة لواء الديمقراطية، خشية أن يصعد الإسلاميون ويحكموا العراق، وأقامت أمريكا تحالفا يحمل اسم “مكافحة الإرهاب” يمكن أكثر سلطة هذا النظام الدكتاتوري، بينما هو حلف في الحقيقة لمحاربة الإسلام بشماعة الإرهاب. ولم نر أثناءها قلقا على “قيم الديمقراطية” في العراق ولا على حقوق المرأة في أقبية السجون الرافضية!
لقد أكدت السياسات الأمريكية كذلك في مصر بأنها تفضل الدكتاتوريين على أي حكم حر للشعب المسلم، بل وصل الأمر لحد التغزل “بالدكتاتور المفضل” كما ورد على لسان الرئيس الأمريكي الجمهوري دونالد ترامب، الذي يتهيأ الآن للعودة لمنصب الرئاسة. وقدمت إدارة جو بايدن الديمقراطي، الدعم المالي والعسكري مكافأة على الدور المصري “المرضي” في حرب الاحتلال الإسرائيلي الجارية على غزة.
سوريا محطة فاصلة
ثم جاءت سوريا اليوم لتكشف هذا النفاق مرة أخرى في محطة جديدة، أكدت حقيقة الهدف الأمريكي والغربي في سوريا، وهو الحفاظ على البلاد في حالة من الهشاشة والتفكك والضعف تمنعها أي فرصة للنهوض والتحرر الحقيقي من قبضة الهيمنة.
ومن يتأمل في التصريحات الأمريكية والغربية وهي تبزر مخاوفها بكل صفاقة من “الإسلاميين” و”الخلفيات الإسلامية” في حكم سوريا، وتطالب بديمقراطية تثري موقع الطوائف فيها، يتساءل أين كانت هذه التصريحات بالأمس حين حكم سوريا الدكتاتور من أقلية طائفية، وترك خلفه كل ما يوثق إجرام نظام مسخ، ذبح شعبه وقتل أبناءه وسطر في كل زاوية وقبو، المجازر التي يندى لها جبين التاريخ؟
لا يحق للأمريكيين ولا ساسة الغرب أن يملوا على السوريين اليوم كيف يحكمون بلادهم، لأنهم الرعاة الرسميون للدكتاتوريات التي انتفض عليها الشعب السوري في ثورة دفع ثمنها دماء أبنائه ومقتل فلذات أكباده والاختفاء القسري لمئات الآلاف من الأرواح المعذبة، وتشريد وظلم طالت فصوله ولم تقدم فيه أمريكا ولا كل حلفها وساسات الغرب أي دعم لإيقاف المجزرة الكبرى بحق هذا الشعب!
لا يحق للأمريكيين ولا لساسة الغرب ومؤسساته الحديث عن الديمقراطية والحرية وحقوق المرأة أبدا، كما لم يتحركوا بالأمس لحماية حريات السوريين ولم يحموا هذه المرأة التي اغتصبت بأبشع الأساليب والطرق تحت شعارات “طائفية”، بل قدموا الشرعية لدكتاتور سفاح، واستقبلوه في المحافل الدولية باحترام، وأشادوا بحربه على ما يسمى الإرهاب ونسقوا معه إدارة هذه الحرب وسلموه الإسلاميين ليعذبهم بطريقته الوحشية، وكل ذلك بهدف قمع أي صعود إسلامي كان في نهاية المطاف الأمل الوحيد والحل الأخير لرفع الظلم عن السوريين في قصة كفاح طويلة.
إن الديمقراطية التي تدعو لها أمريكا هي الديمقراطية التي رحبت بحكم الدكتاتوريين لمنع حكم الإسلاميين ولو ارتضى هذا الحكم الأغلبية! واليوم بعد أن تمكن الإسلاميون من تحرير الشعب من سجن الدكتاتور المسخ، يحق لهم أن ينالوا فرصة الحكم باستقلالية تامة عن إملاءات الغرب.
وبالتالي فإن مسألة فرض تطبيق الديمقراطية على الشعب السوري، شرط ساقط، لا يلزم أهل سوريا الأخذ به، ولا يلزمهم الانقياد لتوصيات الأمم المتحدة التافهة، بل يوجب نبذهم وفضح نفاقهم ورميهم بالأحذية، تماما كما فعلت الشابة السورية، من ذوي ضحايا سجن صيدنايا، التي لوحت بحذائها ورمته بوجه المبعوث الأممي إلى سوريا، غير بيدرسون، أثناء زيارته للسجن الفظيع بل المسلخ البشري برعاية النظام الدكتاتور المخلوع بالقرب من العاصمة دمشق، النظام الذي كان يذبح شعبه بشرعية الديمقراطية الدولية!
لقد حملت صرخة الشابة السورية وهي تقول: “بعد شو إجيتو”؟ صوت الشعب السوري المظلوم ورسالة لكل العالم المنافق، أن لا حاجة لسوريا بإملاءاتهم ولا إلزاماتهم للعيش بحرية وكرامة تواطؤوا على سلبهم إياها لأكثر من نصف قرن! كل ذلك كي لا يحكم الإسلاميون! واليوم بعد أن انتزع السوريون حريتهم بفضل تضحيات هؤلاء الإسلاميين، جاء سماسرة الحروب للمحاضرة في الديمقراطية التي كانت سبب بقاء حكم الدكتاتور!
لقد كلف حكم الدكتاتوريين الشعوب ثمنا باهظا جدا لمنع صعود الإسلاميين، واليوم بعد أن انتزع هؤلاء الإسلاميون الحرية ورفعوا الظلم عن سوريا، فلهم كامل الحق في حكم البلاد باستقلالية حظي بها الدكتاتور من قبل وقدمها له حماة الديمقراطية! ثم لنتحدث بعد ذلك عن مقارنة عادلة بين حكم الدكتاتور وحكم الإسلاميين الذين حولتهم أمريكا لهدف تداس لأجل القضاء عليه حقوق شعوب برمتها وكرامتهم، ومطالبهم في العيش الأمين!
اترك تعليقاً