في أعقاب الأحداث المتتابعة التي شهدها العام 1445-1446هـ (2024م)، خطت بنغلاديش إلى العام الجديد وهي تحمل إرث تلك التحديات غير المسبوقة والمتعددة الأوجه. وكما مرّ العام الماضي بتقلبات سياسية واقتصادية واجتماعية عميقة، من المتوقع أن تواجه البلاد تحديات مشابهة في مجالات السياسة، الانتخابات، والاقتصاد.
يُرجح أن يشهد العام الجاري الإعلان عن موعد الانتخابات المقبلة، وهو ما سيؤثر مباشرة على المشهد السياسي والاستقرار الاقتصادي والعلاقات الدبلوماسية لبنغلاديش.
يرى المحللون أن الخلافات السياسية القائمة قد تتفاقم خلال العام الجديد، خاصة مع اقتراب موعد الانتخابات، حيث من المحتمل أن تتحول هذه الخلافات إلى صدامات سياسية مباشرة.
من القضايا الكبرى التي قد تلعب دورًا محوريًا هي مشاركة رئيسة الوزراء السابقة المخلوعة، شيخة حسينة، وحزبها “رابطة عوامي” في الانتخابات المقبلة أو عدمها، بالإضافة إلى تأثير وجود شيخة حسينة في الهند على العلاقات بين بنغلاديش والهند.
أما على الجانب الآخر، فإن سيطرة جيش أراكان على ولايتين حدوديتين في ميانمار قد تلقي بظلالها على العلاقات الدبلوماسية بين بنغلاديش وميانمار، مما يثير مخاوف بشأن طبيعة تلك العلاقات مستقبلًا.
كما أن التحديات المتعلقة بتدهور الأوضاع الأمنية الداخلية بعد الخامس من أغسطس، وانتشار الفوضى الإدارية وظاهرة العنف الجماعي، تستدعي استراتيجيات فاعلة لإعادة الأمور إلى نصابها كأحد أكبر التحديات للبلاد.
ومع ذلك، يبقى الاقتصاد هو التحدي الأكبر الذي يواجه بنغلاديش، حيث أن ارتفاع معدلات التضخم وزيادة سعر الدولار مقابل العملة المحلية، فضلًا عن الأزمات المالية التي ظهرت في العام الماضي، تُنذر بمرحلة صعبة خلال العام الحالي، وفقًا لآراء الخبراء الاقتصاديين.
الانتخابات والسياسة
قد يكون العام 1447هـ (2025م)، عامًا محوريًا بالنسبة لبنغلاديش حيث من المرجح أن يشهد انعقاد الانتخابات، مما يجعل التحدي الأكبر أمام البلاد في هذا العام هو الحفاظ على الاستقرار السياسي.
بعد الانتفاضة الشعبية، ظهرت خلافات متعددة بين قادة الطلاب والأحزاب السياسية بشأن قضايا الإصلاح والانتخابات، وهو ما أثار مخاوف من تصاعد تلك الخلافات لتتحول إلى أزمات أعمق.
وفي ظل الجدل المثار حول “إعلان الثورة في يوليو”، صرّح أستاذ العلوم السياسية بجامعة دكا، الدكتور صابر أحمد، لبي بي سي بنغلا، قائلًا: “الثورة أو الانتفاضة الشعبية لم تقتصر فقط على الطلاب، بل كان لحزبي بنغلاديش الوطني والجماعة الإسلامية دور فيها.
وأضاف: “هذان الحزبان (حزب بنغلاديش الوطني والجماعة الإسلامية) يلتزمان بدستور الدولة وليس بمنهجية الثورة، ولذلك تظل هناك اختلافات في الرؤى بينهما. ومع اقتراب موعد الانتخابات، قد تتفاقم تلك الاختلافات لتصل إلى حالة تصادمية بين الطرفين”.
علاوة على ذلك، قد يبقى حال الأحزاب السياسية على ما هو عليه من التركيز على النهج الأسري والتوريث، أو قد تواجه تحديًا بتعزيز الممارسة الديمقراطية داخل صفوفها، وهو ما يشكل أحد المحاور السياسية المعقدة.
نظرًا لأن الانتخابات تُعتبر أحد أهم الوسائل للانتقال إلى الديمقراطية، فمن المتوقع أن تواجه البلاد ضغوطًا دولية لضمان نزاهة تنظيمها وشفافيتها.
كما قد تكون “رابطة عوامي” عاملًا مؤثرًا في الساحة السياسية لعام 2025م، حيث قد يؤدي قرار مشاركتها أو امتناعها عن الانتخابات إلى خلق أزمات سياسية جديدة.
وفقًا لما يرى الأستاذ الدكتور صابر أحمد، فإن التحدي الأكبر الذي سيواجه المشهد السياسي في بنغلاديش يتمثل في إجراء انتخابات حرة، مستقلة، وشاملة. وأضاف: “إذا تحدثنا عن انتخابات شاملة، فلا بد أن نفكر في إمكانية مشاركة رابطة عوامي في هذه الانتخابات. إيجاد حل لهذه المسألة يُعد ضرورة ملحة، ولكنه يمثل تحديًا كبيرًا أيضًا”.
العلاقات الدبلوماسية: صداع الهند وميانمار
لا تقتصر التحديات على المشهد السياسي الداخلي، بل تمتد إلى العلاقات الدبلوماسية الخارجية، حيث قد تُشكِّل “رابطة عوامي” عاملًا حاسمًا ومؤثرًا.
خصوصًا في ظل وجود رئيسة الوزراء السابقة، شيخة حسينة، في الهند بعد عزلها عن السلطة، وهو ما قد يُلقي بظلاله الثقيلة على العلاقات بين بنغلاديش والهند.
وحول هذا الموضوع، صرّحت الدكتورة أمينة محسن، أستاذة العلاقات الدولية بجامعة دكا، لبي بي سي بنغلا قائلة: “شيخة حسينة لا تقف مكتوفة الأيدي هناك؛ بل إنها منخرطة بشكل أو بآخر في مختلف أشكال النشاط السياسي. أولئك الذين خرجوا عن السلطة لن يظلوا صامتين، ولديهم حلفاء حتى خارج البلاد”.
وترى الدكتورة أن الهند قد تتابع عن كثب القضايا المتعلقة بأوضاع الأقليات في بنغلاديش إلى جانب المشهد السياسي، ما قد يؤدي إلى مزيد من التوترات بين البلدين.
أما فيما يتعلق بفترة الحكومة المؤقتة، أعرب الدكتور صابر أحمد عن شكوكه بشأن إمكانية عودة العلاقات بين بنغلاديش والهند إلى مسارها الطبيعي خلال هذه المرحلة.
بسبب لجوء شيخة حسينة إلى الهند، قد تواجه الحكومة الحالية صعوبة في تطبيع العلاقات مع الهند. حيث إنها ملتزمة بمحاسبتها على تجاوزاتها، وهو تعهد لا يمكن التراجع عنه، وفي الوقت نفسه لا يمكن للمسؤولين إدخال العلاقة مع الهند في مسار قد يُلحق ضررًا شاملًا بالبلاد”، وفقًا لما صرّح به أحد المحللين.
في ظل هذه الظروف، يبدو أن استعادة العلاقات الطبيعية مع الهند قد تظل مسألة معقدة حتى وصول حكومة منتخبة جديدة.
وعلى الجانب الآخر، يبرز وضع مشابه مع الجارة ميانمار. فمنذ البداية، لم تحظَ ميانمار باهتمام كافٍ في سياسات بنغلاديش الخارجية، على الرغم من أن أزمة الروهينجا تحتل موقعًا متقدمًا ضمن قائمة تحديات البلاد.
مع سيطرة جيش أراكان على المناطق الحدودية المجاورة لبنغلاديش، يرى المحللون أن تحديد مسار العلاقات بين البلدين قد يكون أمرًا معقدًا للغاية في غياب حكومة منتخبة. وأضافت الدكتورة محسن: “يجب أن نوجه تركيزنا بشكل مكثف نحو منطقة جنوب شرق آسيا، ونحتاج إلى بناء علاقات مع الأطراف المختلفة داخل ميانمار للتقدم في هذا الملف”.
بالإضافة إلى ذلك، فإن الحفاظ على موقف بنغلاديش القوي في ظل التحولات الجيوسياسية المتسارعة في منطقة خليج البنغال يمثل تحديًا بالغ الأهمية.
الوضع الأمني
منذ الخامس من أغسطس، شهدت البلاد تدهورًا شديدًا في الوضع الأمني، حيث ارتفعت معدلات السطو والنهب والابتزاز إلى مستويات مقلقة، حتى أن أجهزة الأمن نفسها أصبحت تُقرّ بزيادة هذه الحوادث.
لم تظهر قوات حفظ الأمن قدرة كافية على النهوض من هذا الوضع المتردي، فيما ظهرت بشكل واضح ثقافة الغوغاء وانتشرت الفوضى الإدارية. وصرحت الدكتورة أمينة محسن قائلة: “لقد شهدنا خلال عام 2024 حالة من الفوضى العارمة، وإعادة الأمور إلى نصابها ستكون مهمة شاقة للغاية”.
وأضافت: “لكن يجب علينا تحقيق النظام دون أن نحول الأمر إلى قمع أو خنق للحقوق الفردية، فهذا لن يكون مقبولًا”.
وشددت الدكتورة على أهمية التوازن بين فرض النظام والحفاظ على حقوق الإنسان، مؤكدة أن الانتهاكات مثل توجيه مئات القضايا ضد شخص واحد أو تلفيق قضايا بالقتل لأبرياء تُعد مشكلة جوهرية يجب تجاوزها، لأن قضية حقوق الإنسان أصبحت ملفًا حساسًا للغاية في هذا السياق.
وعلى جانب آخر، أشار بعض المحللين إلى أن الانتشار الواسع لعمليات الابتزاز المالي في العديد من مناطق البلاد لم يُواجَه حتى الآن بإجراءات فاعلة، مما يثير تساؤلات حول جدية مواجهة هذه التحديات.
صرّح الأستاذ صبّير أحمد قائلاً إنّ ثورة يوليو شهدت مشاركة العديد من الأطراف، لكن معادلة المصالح بينهم ما زالت مختلفة ولم تحل بعد. وأضاف موضحًا: “الأحزاب السياسية تسيطر على مواقع مختلفة ومؤسسات عديدة، وتحول هذه المواقع إلى أدوات لتحقيق مصالحها الحزبية، في محاولة لترسيخ نفوذها”.
وأشار إلى أن بعض الأماكن التي كانت تحت سيطرة الحزب السابق (حزب الرابطة)، أصبحت الآن ميدانًا لابتزاز الحزب الجديد، دون اتخاذ أي إجراءات فاعلة لمعالجة الأمر.
وترى الأستاذة محسن أن تحرير المؤسسات من قبضة التسييس يشكل تحديًا كبيرًا، مؤكدة: “نحتاج بشدّة إلى تعزيز مبدأ المؤسسية، أو ما يمكن وصفه بمأسسة المؤسسات ذاتها، وهو أمر بالغ الأهمية”.
وفيما يتعلق بمؤسسات التعليم العالي، شددت الأستاذة محسن على ضرورة إنهاء ممارسة السياسة من قِبَل المعلمين، قبل التفكير في وضع حد لممارسات الطلاب السياسية.
أما التحدي الأكبر الذي قد يواجه اقتصاد بنغلاديش في عام 2025 فهو إعادة بناء الاقتصاد بعد ما كُشف من فساد مالي واسع النطاق خلال فترة الحكومة السابقة، وهو ما يجعل عملية الإصلاح والتطوير الاقتصادي طويلة ومعقدة، وفقًا لما يراه الخبراء الاقتصاديون.
وفي توقعات صندوق النقد الدولي (IMF) للعام المالي 2024-25، من المتوقع أن يصل معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي لبنغلاديش إلى 4.5٪ فقط، في حين أن التضخم الإجمالي قد يبلغ نسبة 9.7٪.
ويرى الاقتصاديون أن الارتفاع المستمر في معدلات التضخم وعدم القدرة على استقرار سعر صرف التاكا مقابل الدولار يشكلان إشارات مقلقة للوضع الاقتصادي في العام القادم.
وفي هذا السياق، صرّح الأستاذ محمود الله قائلاً: “التضخم مستمر ولا يمكن السيطرة عليه، وهو يشكّل مشكلة خطيرة. إلى جانب ذلك، فإن سعر صرف التاكا أمام الدولار مستمر في الارتفاع دون أن يتمكنّا من استقراره عند مستوى معين”.
وعلاوةً على ذلك، يظلّ التحدي الماثل في أزمة الاحتياطي النقدي.
وأشار هذا الاقتصادي إلى أنه “لا يمكن بأي حال رفع مستوى الاحتياطي إلى أكثر من ٢٠-٢٢ مليار دولار”، مؤكدًا: “التحدي الأساسي يتمثل في كيفية تجاوز هذه الحالة الهشة للاحتياطي. فإذا لم ننجح في ذلك، ستستمر حالة عدم استقرار سعر الصرف، ولن نتمكن من السيطرة عليها.”
وأوصى الأستاذ محمود الله بضرورة التركيز على تعزيز تحويلات العاملين بالخارج كوسيلة لزيادة الاحتياطي النقدي.
إلى جانب ذلك، ستظلّ حالة عدم الاستقرار في القطاع المصرفي مؤثرة على الأداء المالي خلال العام القادم، حيث من المتوقع ظهور الآثار السلبية لخطوة طباعة الأموال لإنقاذ البنوك. ومن جهة أخرى، فإن التقلبات السياسية ستترك بصمتها أيضًا على معدلات الاستثمار.
وأضاف الاقتصادي: “إحدى المشكلات الكبيرة لدينا هي عدم نمو الاستثمارات. فهي لا تزال تراوح بين 22٪ إلى 24٪ من الناتج المحلي الإجمالي. إذا لم نستطع رفعها إلى 40٪، فلن نتمكن من تحقيق معدلات نمو مرضية.”
بي بي سي بنغلا.
اترك تعليقاً