بعد أن اعتادت الأقلية المسلمة “الإيغور” في الصين على أن يكون لديها مجموعة ناشئة خاصة بها من المواقع الإلكترونية والمنتديات ووسائل التواصل الاجتماعي. تم محو ذلك تماما الآن ولم يعد له أثر.
مؤسس موقع “إكبار أسات”، أحد أشهر المواقع الإلكترونية باللغة الإيغورية، بدأ حياته المهنية كما يفعل العديد من رواد الأعمال في مجال التكنولوجيا: في عام 1428هـ (2007م) حوّل مشروعه الجامعي إلى موقع إخباري ناجح ومنتدى يسمى “باغداكس” Bagdax
وعلى جدار مكتبه كانت هناك صور لقدوته: “مارك زوكربيرج”. وبصفته من المشاهير الصغار في منطقة “شينجيانغ” (تركستان الشرقية) غربي الصين، تمت دعوة “أسات”، المعروف أيضا باسم “باغداكس”، لحضور فعاليات الحكومة الإقليمية ومكاتب عمالقة التكنولوجيا في الصين. حتى لو كان على المنصة الالتزام بقواعد الرقابة الصارمة في الصين – في مرحلة ما، تم تكليف أربعة من ضباط الشرطة بمراقبتها – نمت قاعدتها بسرعة إلى أكثر من 100 ألف مستخدم.
ومع ذلك، في أوائل عام 1438هـ (2016م)، تم اعتقال “أسات” في حملة اعتقال جماعي، إلى جانب مليون فرد من الإيغور والأقليات التركية الأخرى، بعد عودتهم من برنامج قيادة رواد الأعمال الذي نظمته وزارة الخارجية الأمريكية.
في غضون عام، توقف “باغداكس” وغيره من مواقع الإيغور الشهيرة – مثل “مصرانيم” و”بوزكير” و”آنا توبراك” – عن التحديث بشكل دائم. ولم تكن المواقع الوحيدة. مع تكشف حملة بكين في منطقة شينجيانغ، لم تعد الغالبية العظمى من المواقع الإلكترونية المستقلة التي يديرها الإيغور موجودة، وفقا لمطلعين محليين على صناعة التكنولوجيا وأكاديميين يتتبعون المجال باللغة الإيغورية عبر الإنترنت.
قال “دارين بايلر”، الأستاذ المساعد للدراسات الدولية في جامعة “سايمون فريزر” في “فانكوفر” ومؤلف العديد من الكتب حول معاملة الصين للإيغور:”الأمر يشبه محو عمل آلاف وآلاف الأشخاص لبناء شيء ما يخص مستقبل مجتمعهم”.
كما اختفى العديد من الأشخاص الذين يقفون وراء المواقع الإلكترونية في نظام معسكرات الاعتقال في الصين. تم اعتقال المطورين وعلماء الكمبيوتر وخبراء تكنولوجيا المعلومات – وخاصة أولئك الذين يعملون على منتجات باللغة الإيغورية – وفقا للإيغوريين الذين يعيشون في الخارج.
وتأتي الاعتقالات في إطار حملة القمع التي تشنها الصين على المنطقة ذات الأغلبية المسلمة. حيث اتهمت جماعات حقوق الإنسان الحكومة الصينية بالمراقبة الجماعية وفرض العمل القسري والقضاء على ثقافة الأقلية العرقية. وللتهرب من هذه التهم تزعم بكين أن المعسكرات هي مراكز لإعادة التأهيل للتدريب المهني على العمل ومكافحة “التطرف” الذي ليس إلا الإسلام.
وتقول “ريحان أسات”، شقيقة “إيكبار أسات”، إن الإغلاق يمكن اعتباره هجوما على لغة الإيغور وثقافتهم، وإن قمع الحكومة الصينية غالبا ما استهدف أفضل وألمع الناس في المنطقة. وقالت:”لماذا يحتاج رائد أعمال تكنولوجي بارز إلى إعادة تعليمه؟ ما نوع المهارات التي يحتاجها؟”. ولم يرد مكتب الأمن العام في أورومتشي، عاصمة منطقة شينجيانغ الإيغورية، على المكالمات الهاتفية للصحافة.
كانت أورومتشي موقعا رئيسيا لطريق الحرير في آسيا الوسطى في الماضي، وهي ليست وادي السيليكون. ومع ذلك، بحلول عام 1436هـ (2014م)، بدأت مجموعة صغيرة من شركات التكنولوجيا في التشكل جنوب البازار الكبير. لكن الازدهار لم يدم طويلا، وفي عام 1438هـ (2016م) كان القمع على قدم وساق. يقول عبد الرحيم دولت، مؤسس شركة بيلكان، الشركة التي تقف وراء 30 تطبيقا، ومجموعة من الأجهزة، وأول مكتبة للإيغور على الإنترنت: “أصبحت منطقتنا حرفيا سجنا بلا جدران”، وقرر عبد الرحيم مغادرة شينجيانغ بعد موجة من الاعتقالات استهدفت أفرادا، بمن فيهم مدير بيلكان، الذي حكم عليه لاحقا بالسجن لمدة 25 عاما. بعد إغلاق شركته، يعيش عبد الرحيم الآن في تركيا ويعمل على تحصيل درجة الدكتوراه في التاريخ.
وقد أصبح كسب العيش كمبرمج أمرا صعبا، كما يقول مطور سابق في بيلكان، طلب عدم الكشف عن هويته خوفا على سلامة عائلته. في عام 1438هـ (2016م)، بدأت الحكومة تطلب من المواقع الإلكترونية إنشاء فروع للحزب الشيوعي أو أن يشرف عليها أحد أعضاء الحزب، مما يجعل من الصعب تجنب إدراجها في القائمة السوداء.
كما وسعت السلطات قائمة المواقع المحجوبة من جوجل وغيرها من منصات التواصل الاجتماعي الغربية إلى GitHub و Stack Overflow ، وهي منصات أدوات مطورين شهيرة لا تزال متاحة للمبرمجين في بقية الصين.
يستمر استهداف قطاع تكنولوجيا المعلومات الإيغوري، وخاصة مالكي المواقع الإلكترونية، لأن هؤلاء الأفراد مؤثرون في المجتمع، كما يقول عبد الولي أيوب، وهو ناشط لغوي يحتفظ بحصيلة لمفكري شينجيانغ الذين اختفوا في نظام معسكرات الاعتقال، وهي قائمة تحتوي على أسماء أكثر من عشرة أشخاص يعملون في قطاع التكنولوجيا. يقول أيوب: “إنهم القوة الرائدة في الاقتصاد – وبعد اختفاء تلك القوة الرائدة، يصبح الناس فقراء”.
إن المحو الرقمي لشينجيانغ ليس سوى أحدث ضربة لمجالها على الإنترنت. في عام 1430هـ (2009م)، بعد انفجار أعمال الشغب في أورومتشي، ردت الصين بإغلاق الإنترنت وموجة من الاعتقالات للمدونين ومشرفي المواقع. وتقدر منظمة الدفاع عن حقوق الإنسان الإيغورية أن أكثر من 80 في المائة من مواقع الإيغور لم تعد للعمل بعد الإغلاق.
ولكن على الرغم من أن المنطقة كانت تعاني من انقطاع الإنترنت الدوري على نطاق صغير، إلا أن الإنترنت الإيغوري أصبح نابضا بالحياة. وبالنسبة لمجتمع الإيغور، كانت هذه المواقع مكانا لإعادة اكتشاف الممارسات الدينية الإسلامية وإجراء محادثات حول القضايا الساخنة، والأهم من ذلك، أن الإنترنت ساعد الإيغور على خلق صورة لأنفسهم مختلفة عن تلك التي تقدمها وسائل الإعلام الحكومية الصينية، كما تقول ريبيكا كلوثي، الأستاذة المشاركة في جامعة دريكسل في فيلادلفيا. وتقول: “إن الفضاء عبر الإنترنت الذي يمكنهم من خلاله التحدث عن القضايا ذات الصلة بهم يمنحهم القدرة على الحصول على طريقة للتفكير في أنفسهم ككتلة موحدة”. بدون ذلك، هم مشتتون”.
يستخدم الإيغور في شينجيانغ الآن المنصات والتطبيقات المحلية التي صنعتها عمالقة التكنولوجيا في الصين. على الرغم من أن WeChat لا يزال يستضيف حسابات باللغة الإيغورية، إلا أن المنصة معروفة بنظام الرقابة الخاص بها.
ومع ذلك، وجد بعض الإيغور شقوقا صغيرة في الجدار يتواصلون من خلالها ويعبرون عن أنفسهم. يرفع الأشخاص لافتات تحمل رسائل أثناء مكالمات الفيديو، خوفا من مراقبة محادثاتهم. يقوم الشباب بتحويل محادثاتهم إلى تطبيقات الألعاب.
وفيما يتعلق بالنسخة الصينية من تيك توك، المملوكة لشركة بايت دانس، يقوم الإيغور بتصوير مشاهد خلسة من شينجيانغ تختلف عن مقاطع الفيديو الدعائية الحكومية التي تظهر راقصين مبتسمين يرتدون أردية تقليدية. وقد صور بعضهم أنفسهم وهم يبكون على صور أحبائهم. ونشر آخرون صورا لدور الأيتام وأطفال من الإيغور المحتجزين أو أشخاص يتم تحميلهم في حافلات، في إشارة محتملة إلى العمل القسري. يتم تجريد المقاطع من المعلومات، لترك الاستنتاجات للمشاهدين، فهي ليست بحاجة لتعليق.
في الآونة الأخيرة، تراجعت السلطات الصينية عن بعض الضوابط على لغة الإيغور، كما يقول بايلر. في أواخر عام 1441هـ (2019م)، أعلنت بكين أن الأشخاص المحتجزين في مراكز التدريب المهني (معسكرات الاعتقال) في الصين قد “تخرجوا” جميعا، بينما قلصت من عدد بعض الأدلة الأكثر وضوحا لدولتها البوليسية عالية التقنية.
ومع ذلك، يقول الإيغور في الخارج إن العديد من أصدقائهم وأقاربهم ما زالوا في معسكرات الاعتقال أو تلقوا أحكاما تعسفية بالسجن. وحكم على إكبار أسات بالسجن لمدة 15 عاما بتهمة التحريض على الكراهية العرقية والتمييز. وعلى الرغم من أن بعض أجزاء الإنترنت الإيغورية يتم أرشفتها لعلم الآثار الرقمي المستقبلي، إلا أن الكثير منها قد اختفى ببساطة إلى الأبد. يقول بايلر: “لقد تم القضاء على ذلك بين عشية وضحاها، وليس هناك الكثير من الطرق لاستعادة هذه المعلومات”.
وتكشف لنا هذه الحرب على الحضور الإيغوري في الإنترنت أهمية الكلمة وقوتها ودرجة تهديدها للطغاة، فبكين التي تعرف بحضور كاسح في الإنترنت تخشى أقلية مسلمة مضطهدة بنشاط ضعيف محدود. فلم يكفها معسكرات الاعتقال والتعقيم القسري والاستعباد وخطف الأطفال ومحو الثقافة الإيغورية وكل ما يدخل في تفاصيل إبادة عرقية مكتملة الأركان للإيغور المسلمين، بل وصل الأمر إلى المطاردة للإيغور في فضاء الإنترنت.
ونصرة المسلمين الإيغور في هذا الفضاء إغاظة للصين ومساهمة في دعم صوت هؤلاء المستضعفين وإبقائه نابضا. فلا يجب التهاون في ذلك.
_______________________________________
المعلومات في هذا المقال ترجمة لمقال بعنوان:
The Strange Death of the Uyghur Internet نشر في عدد مايو / يونيو 2022 (1444هـ) من مجلة WIRED UK.
اترك تعليقاً