ليسوا مقاتلين ولم يكونوا في ساحة المعركة، بين دفتي هذا التقرير قصص وتفاصيل مؤلمة، لمدنيين اعتقلوا من الطرقات أو من مكاتب العمل، أو من مساكنهم بعد اقتحامها بصورة مرعبة، تعرضوا بعدها لأشد العذاب في أقبية مجهولة وزنازين لم يعرفوا أماكنها، وأخرى عرفوها، وجلادين مقنعين وآخرين وجوههم مكشوفة.
طبع السجانون آثارهم على أجساد الضحايا، من العسير محو تلك الآثار الدالة على شدة التعذيب: جسد مثقوب بآلة صلبة، آخر مشلول الحركة، معتقل لا يستطيع حمل كيلو جرام بيده، آخر لا ينسى الاعتداءات الجنسية، وفتاة تتعرض لمحاولة اغتصاب أثناء التحقيق، والكثير الكثير من التفاصيل التي استغرقت منا وقتاً طويلاً للوصول إليها والاستماع إلى أصحابها.
هناك من مات بعد الإدلاء بشهادته، وعجز كثير من المفرج عنهم سرد كل ما حدث لهم للراصدين الذين غامروا بالوصول إليهم والجلوس معهم. قطع البكاء الكثير من الأحاديث وحكت علامات التعذيب المحفورة على الأجساد ما عجز عن سرده المعذبون، إذ مازال الجلاد والزنزانة تسكن داخل كل معتقل، وكل معذب يبحث عن أي وسيلة تبعده عن الذكريات القاسية.
في التعذيب داخل المعتقلات لا فرق بين ذكر وأنثى رغم الفوارق خارجها، فتفاصيل النساء اللائي تعرضن للتعذيب، تبقى، عادةً، خلف أسوار العادات والتقاليد، وتضطر النساء لكتم معاناتهن خشية نظرات الاحتقار، إلا أننا رصدنا ما أمكن من حكايات لم يتصور أحد وقوعها على أرض كانت تضع للمرأة مكانتها منذ بلقيس.
تشابهت روايات المعتقلين كما تشابهت أساليب تعذيبهم، وكان كل معتقل يتحدث عما حدث له وكأنه يروي ما حدث لمعتقل آخر في زنزانة أخرى بمدينة تبعد عنه مئات الكيلومترات.
بعد عرض التفاصيل على أدوات بحثنا، والتدقيق فيها، وإيجاد الروابط بينها من المكان إلى التاريخ والقواسم المشتركة بين معتقل وآخر، حرصنا على صياغة القصص صياغة تقترب من خلجات الضحية، ومشاعره، وتساؤلاته وآهاته وأناته، انتصارًا لإنسانيته مع الحرص على عدم الخروج التفاصيل والمعلومات التي أوردها الضحايا حفاظاً على منهجية التوثيق وانتصاراً للحقيقة.
نهذه القصص دارت في مدن بعيدة عن خطوط النار، لكن المعتقلين في هذه المدن هدّدوا بالموت لإجبارهم على الاعتراف بوقائع لا صلة لهم بها، وتهم لم يرتكبوها، فمنهم من وضع كهدف لقصف الطيران، ومنهم من منع عنه الأكل لأيام، ومنهم من شق صدره بمشرط، وكثير منهم تعرضوا للإعدام الوهمي، إما بالرصاص أو الدهس أو الحريق.
بين دفتي هذا التقرير الكثير من القصص المؤلمة، ومازال في الواقع ما لا يمكن رؤيته ورصده. لقد غير المعتقل حياة الآلاف من الناس كما غيرت قصص المعتقلين كل من عمل على هذا التقرير وأقنعتنا ألا نترك معتقلاً دون أن نسمع منه ونصغي إليه، ونخبركم بما حل خلف الجدران الصماء الخالية من فتحات التهوية.
هذا بعض ما استطعنا أن نصل إليه ونصدره كجزء أول ضمن سلسلة نطمح أن تشكل نافذة للتوثيق التاريخي لضحايا المعتقلات غير القانونية، آملين أن يكسر هذا الجزء حاجز الرهبة عند الضحايا الذين آثروا الصمت عن البوح بتفاصيل ما تعرضوا لـه مـن فظاعات.
مرة أخرى نتمنى أن يجد هذا التقرير صداه، ويشكل حافزاً للتوثيق والكشف عن خفايا السجون.
الملف متاح للتحميل بصيغة بي دي أف من هنا.
اترك تعليقاً