على الرغم من النتيجة الكارثية لتطبيع العلاقات مع نظام الأسد، لا تزال عدة دول أوروبية عازمة على سلوك هذا الطريق؛ والكلمة المفتاحية في هذا السياق هي “عودة اللاجئين”.
في يوليو، قامت إيطاليا بتعيين سفير إلى سوريا، بعد 12 عامًا من سحب جميع موظفي سفارتها بدمشق في 1433 هـ (2012).
وجاء القرار عقب سلسلة زيارات أجرتها مجموعة من رؤساء الاستخبارات الأوروبية والإيطالية إلى دمشق بهدف لقاء الأسد، ومناقشة خطوات التطبيع الممكن اتخاذها في مقابل عودة اللاجئين.
نهج جديد
بعد عقد قمة في العاصمة القبرصية نيكوسيا في ذو القعدة/ذو الحجة 1445 هـ (يونيو 2024)، باتت علامات هذا التحول في السياسات واضحًا؛ حيث طالبت سبعة دول أوروبية – النمسا، وقبرص، واليونان، وإيطاليا، ومالطا، وبولندا، وجمهورية التشيك – بإعادة تقييم الوضع في سوريا، والسماح بـ”العودة الطوعية” للاجئين.
وبعدها بقليل، تم الكشف عن بعثة تقصي حقائق لإنشاء مناطق آمنة في سوريا بقيادة تشيكية .
يعتمد النهج الجديد على فرضية مفادها أن التوصل إلى اتفاق مع نظام الأسد لإنشاء مناطق آمنة هو مسار أكثر واقعية لإعادة اللاجئين إلى وطنهم من انتظار حل سياسي في سوريا.
وقد اقترن هذا التحول ببعض التطورات على الأرض.
حيث يسعى النظام في الواقع إلى إبرام اتفاقيات مصالحة جديدة في مناطق مثل ريف حمص الشمالي، والتي تستعد لاستضافة العائدين من لبنان، ويُزعم أنها تُستخدم كمواقع لهذه المناطق الآمنة المقترحة بقيادة أوروبا.
لقد أصبح البحث عن “بيئة آمنة” لإيواء اللاجئين، حجر الزاوية في استراتيجيات إدارة الهجرة الحالية.
إن فكرة تحديد “المناطق الآمنة” في سوريا ليست جديدة، لكنها تطورت خلال العقد الماضي.
على سبيل المثال، في عام 1440 هـ (2019)، صنفت الدنمارك محافظات اللاذقية، وطرطوس، ودمشق، وريف دمشق على أنها آمنة للعودة؛ وهي خطوة استُخدمت بعد ذلك لتبرير إلغاء تصاريح الإقامة لعشرات اللاجئين القادمين من هذه الأماكن.
وتتخذ الخطة الأخيرة التي قادتها التشيك موقفًا أكثر فاعلية، حيث تهدف إلى إنشاء هذه المناطق الآمنة بالتنسيق مع النظام السوري، بدلاً من مجرد تحديدها.
ولكن لكي نفهم ما إذا كانت فكرة إنشاء مناطق آمنة في سوريا ممكنة، يجب أن نطرح الأسئلة التالية: لماذا لا يعود السوريون إلى ديارهم على الرغم من تصنيف البلاد على أنها “آمنة”؟
وهل هناك تجارب سابقة في إنشاء مناطق آمنة في سوريا؟
مخاوف في محلها
غالبًا ما تُذكر المخاوف الأمنية، وغياب الخدمات الأساسية وفرص العمل كالأسباب الرئيسية التي تجعل اللاجئين يترددون في العودة.
وتشهد التقارير الحقوقية بأن مخاوفهم في محلها.
فعلى سبيل المثال، وثقت الشبكة السورية لحقوق الإنسان (SNHR) 4,714 حالة لعائدين تم القبض عليهم من قِبل النظام، منهم 31 حالة لأشخاص قُتلوا جرَّاء تعرضهم للتعذيب في السجون، و93 حالة تحرش جنسي في الفترة الزمنية بين 1435 هـ (2014) و1446/1445 هـ (2024).
هذه الانتهاكات هي ما يحمل العديد من العائدين الذين تم إرسالهم إلى مناطق النظام، على دفع الأموال للمهربين ليفروا إلى مناطق سيطرة ميليشيات قوات سوريا الديمقراطية (قسد) في شمال شرق سوريا، أو مناطق سيطرة المعارضة في شمال غرب البلاد.
فلا غرابة إذًا أن يُعبِّر 55 % من اللاجئين السوريين عبر الشرق الأوسط عن عدم رغبتهم في العودة إلى سوريا مجددًا؛ في حين لم يبد سوى %2 استعدادهم للعودة العام المقبل.
كما تفتقر سوريا إلى البنية القانونية والاقتصادية الأساسية التي يحتاجها اللاجئون لإعادة بناء حياتهم.
كما أن عمليات العودة وإعادة تأهيل الممتلكات غير محكومة بإطار قانوني مركزي، ولكن تمليها الممارسات المختلفة للأفرع الأمنية المحلية ومجالس البلدية.
من أجل العودة، يضطر السورييون إلى التقديم على “تسوية أوضاعهم”، وهو تصريح أمني يتمكنون – نظريًا – بحصولهم عليه من استئناف حياتهم في مناطق النظام.
عقب عودتهم، كثيرًا ما يتم اخضاعهم للتحقيق أو الإخفاء القسري من قِبل قوات الاستخبارات، وهذا بالإضافة التحديات الكبيرة التي يواجهونها في استخراج التصاريح اللازمة لإعادة تأهيل ممتلكاتهم، أو الحصول على الخدمات الأساسية.
قرارات استخراج هذه الوثائق من عدمها تخضع بشكل كبير – يصل إلى حد تجاوزها أحيانًا – من جهة الأفرع الأمنية المحلية ونقاط التفتيش، والتي كثيرًا ما تطلب رشاوى من أجل السماح للأشخاص أو البضائع بالمرور.
كما أن الميليشيات المؤيدة للنظام قامت بنهب وتدمير ممتلكات الآلاف من اللاجئين التي تقع في المناطق التي تم إخلائها من السكان، وبعضها تم الاستيلاء عليه من قِبل محكمة مكافحة الإرهاب، مما أدى إلى تضاؤل آمال الكثيرين بالعودة إلى منازلهم الأصلية.
ولا توجد أدلة كافية تشهد لفكرة أن إنشاء ”مناطق آمنة” تقع داخل مناطق سيطرة النظام سيحلحل أي من هذه المشاكل.
المناطق الآمنة بين النظرية والتطبيق
عند الحديث عن الأمن، ينبغي ألا يقتصر مدلول الكلمة على غياب التهديدات المباشرة، على أهمية ذلك.
فحتى إذا امتنعت قوات الأمن من استهداف العائدين بشكل مباشر أو القبض عليهم، فإنه لا يزال بإمكانهم فرض شتى أنواع التقييدات على حركة الأشخاص، والمساعدات، والبضائع.
تسيطر قوات الأمن المحلية وأمراء الحرب على حركة تدفق البضائع بشكل كبير، وحتى النظام نفسه يملك قدرة محدودة للتأثير على تصرفاتهم على المستوى المحلي.
كما تعاني مناطق سيطرة النظام من نقص حاد في الخدمات الأساسية كالكهرباء، والماء، والرعاية الصحية.
وبعد عقد من الحرب، لا تمتلك دمشق سوى موارد محدودة، ومن المستبعد أن تكون على استعداد لتخصيصها لمناطق يعيش فيها أناس تصنفهم بشكل علني كإرهابيين مشتبه فيهم!
كما أن للنظام تاريخ طويل من سوء إدارة الموارد العامة وحرف مسار المساعدات؛ وتتنوع مظاهر ذلك من الاستيلاء المباشر على المساعدات، إلى التأثير على عملية اختيار المستفيدين منها.
وهو ما يجعل استحضار التجارب السابقة في هذا المقام، والتفكر فيها جيدًا من الأهمية بمكان.
مخيم الركبان أُنموذجًا
يقع مخيم الركبان بالقرب من قاعدة التنف التابعة للتحالف الدولي في سوريا، المنطقة 55 تحديدًا، بالقرب من الحدود السورية – الأردنية – العراقية.
وعلى الرغم من كون المخيم نظريًا “آمن”، إلا أن سكانه يرزحون تحت وطأة الحصار القاسي الذي ضربه عليه النظام منذ 1440/1439 هـ (2018)، حيث تم منع قوافل الأمم المتحدة من الدخول، والتضييق على طرق التهريب التي كان يتم إيصال الطعام والدواء من خلالها.
أدى هذا الحصار إلى كارثة، واضطر الكثيرون في نهاية الأمر إلى العودة إلى مناطق تقع تحت سيطرة النظام حيث تم القبض على وإخفاء الكثير منهم، وهو ما كان يتخوف منه الكثيرون من سكان المخيم.
كما حدثت وقائع مشابهة في محافظتي درعا وحمص، واللتان دخلتا في اتفاقيات مصالحة مع النظام برعاية روسية في 1440/1439 هـ (2018).
وبموجب هذه الاتفاقيات، تمكن النظام من السيطرة بعد قيامه بتهجير رافضي “الصلح” قسرًا.
وعلى الرغم من ضمانات الروس ووعود النظام، فقد تعرضت هذه المناطق لصور شتى من العقوبات الجماعية، مثل تقييد حركة السكان، والتفرقة في الحصول على الوظائف، وإمكانية الوصول إلى المساعدات.
ولازالت هذه المناطق تعاني من قدر كبير من عدم الاستقرار، وانتشار الحوادث الأمنية كالاغتيالات، والاشتباكات، والخطف مقابل الفدية.
وهو ما دفع المئات من السكان إلى السفر عبر لبنان وليبيا باتجاه أوروبا.
باختصار، تخبرنا حالة الركبان أن إنشاء “منطقة آمنة” لا يعني بالضرورة إنشاء منطقة صالحة للمعيشة.
علاوة على ذلك، تظهر حالة مناطق المصالحة أنه حتى بدون سيطرة عسكرية أو أمنية مباشرة، لا يزال بإمكان النظام زعزعة الاستقرار وابتزاز وحرمان السكان من الوصول إلى المساعدات، سواء كان ذلك بشكل مباشر أو غير مباشر.
خاتمة
لا يحتاج المرء لكثير تقارير ليحذر من طاغية أسال دماء شعبه أنهارًا على مرأى ومسمع من العالم بأسره، ولكن الخروج من الديار شديد الوطأة على النفس، والمألوف يبدو دائمًا الخيار الأقل شرًا، فوجبت التذكرة.
إن ما يمارسه نظام الأسد من تنكيل بالعائدين، تختصره آية واحدة في كتاب الله عز وجل {لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً ۚ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ} [التوبة : 10].
وإنا نهيب بالعلماء من الديار الشامية المباركة خصوصًا، ومن سائر أرجاء الأمة عمومًا، أن يصدروا في هذا الشأن فتاوى صريحة، تُبَصِّر المسلمين من أهل سوريا بحكم الشرع في هذه النازلة.
ونقول لأهلنا {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّه} [الحج : 40]، {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ ۖ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ} [الروم : 60].
وحسبنا الله ونعم الوكيل.
اترك تعليقاً