في ظل التصدعات العالمية والإقليمية الحساسة، يشهد القرن الأفريقي حدثًا مفصليًا بالغ الخطورة، تمثّل في إعلان الكيان الصهيوني اعترافًا رسميًا بالإقليم الانفصالي «صوماللاند». ويطرح هذا التطور تساؤلات جوهرية حول أسباب هذا الاعتراف في هذا التوقيت الدقيق، وتأثيراته على مستقبل الدولة الصومالية، ومدى خطورته على الأمن القومي العربي والإسلامي.
أولًا: المشهد الصومالي العام
يعيش الصومال منذ انهيار الحكومة المركزية حالة مزمنة من النزاعات المسلحة والخلافات السياسية، انعكست سلبًا على الأمن والاستقرار والتنمية. ولا يزال الواقع الصومالي يعاني من تدهور مستمر طال مختلف مناحي الحياة.
أما إقليم «صوماللاند»، فهو كيان انفصالي أعلن انفصاله منذ أكثر من ثلاثة عقود، دون أن يحظى بأي اعتراف دولي أو إقليمي يُذكر، باستثناء هذا الاعتراف الإسرائيلي الأخير، الذي جاء في لحظة إقليمية شديدة الحساسية.
وقد ظلت المنطقة الانفصالية مستقرة نسبيًا، ولم تشهد الصراعات الدموية التي شهدتها بقية الأقاليم، ولا سيما الوسط والجنوب.
وفي نهاية عام 1443هـ (2022م)، دخلت المنطقة مرحلة من التوتر الأهلي الحاد نتيجة تزايد ممارسات القمع السلطوي ضد السكان، ليتحوّل الخلاف سريعًا إلى حرب دموية ضارية غير مسبوقة في السياق الصومالي، انتهت في 1445هـ (أغسطس 2023م)، بواقع جيوسياسي جديد تمثّل في انفصال المناطق الشرقية، والتي نالت لاحقًا اعتراف الحكومة الصومالية بها كإقليم مستقل عن الإقليم الانفصالي.
ثانيًا: دوافع الاعتراف الإسرائيلي
- الأهمية الاستراتيجية للبحر الأحمر ومضيق باب المندب:
لا تزال الهزات الارتدادية لحرب طوفان الأقصى تُحدث تحولات جيوسياسية عميقة في الإقليم. فقد شكّلت الحرب نقطة تحوّل في معادلات الأمن في البحر الأحمر وخليج عدن، خاصة بعد فرض جماعة أنصار الله الحوثي حصارًا بحريًا على الملاحة المرتبطة بالكيان الصهيوني.
اضطرت إسرائيل خلال الحرب إلى تغيير أعلام بعض السفن المرتبطة بها للمرور عبر مضيق باب المندب، كما واجهت تهديدات مباشرة بصواريخ بالستية وطائرات مسيّرة. ولم تفلح العمليات العسكرية الأمريكية والبريطانية، ولا الضربات الإسرائيلية، في تأمين الملاحة الإسرائيلية أو تحييد التهديدات الصاروخية.
في ظل هذا العجز، سعى الكيان الصهيوني إلى فرض واقع أمني جديد في البحر الأحمر، باعتباره شريانًا حيويًا لأمنه القومي. وبالتنسيق مع الإمارات، جرى نشر منظومات رصد وإنذار مبكر إسرائيلية في بنتلاند، في محاولة لمراقبة التهديدات القادمة من اليمن.
- فشل البدائل الجيوسياسية
حاولت إسرائيل، عبر إثيوبيا، إيجاد موطئ قدم مباشر على البحر الأحمر، إلا أن هذا المسعى اصطدم بجدار دبلوماسي إقليمي ودولي، وانتهى إلى طريق مسدود. كما أن جيبوتي، التي تملك موقعًا استراتيجيًا بالغ الحساسية، لا تزال دولة غير مطبّعة مع الكيان الصهيوني لحد الآن.
أمام انسداد هذه الخيارات، اتجهت إسرائيل إلى المسار الأقصر، عبر الاعتراف بإدارة «صوماللاند»، في محاولة لخلق حليف موالٍ لها في موقع استراتيجي مطلّ على أحد أهم الممرات البحرية في العالم.
- المخاوف من تكرار سيناريو أفغانستان
تزايدت خلال العامين الماضيين المخاوف الدولية من احتمال تكرار سيناريو أفغانستان في الصومال، في حال انهيار الدولة المركزية أو انسحاب الدعم الدولي. ويُنظر إلى هذا السيناريو على أنه تهديد مباشر لأمن الملاحة الدولية، وللأمن القومي الإسرائيلي على وجه الخصوص.
وتزداد هذه المخاوف في ظل حديث بعض التقارير عن احتمالات تقارب أو تفاهمات غير مباشرة بين أنصار الله وحركة الشباب، ما يدفع الكيان الصهيوني إلى تبني سياسة “الضربة الوقائية”، أي تحييد مصادر التهديد قبل تشكّلها الكامل.
- تزاحم تركيا في المنطقة
يأتي هذا الاعتراف المزعوم في سياق احتدام التزاحم بين القوى المنخرطة في الملف الصومالي، ولا سيما مع تنامي الحضور التركي في المنطقة، عقب الاتفاقيات الأخيرة التي وقّعتها الحكومة الصومالية في مجالي التنقيب والأمن. وقد أثار هذا التوسع قلق إسرائيل، التي سبق أن حذّر كيانها من هذا التنامي، ولوّحت بالاعتراف بالإقليم الانفصالي، قبل أن تُقدم لاحقًا على التصريح به.
ثالثًا: تأثير الاعتراف على الصومال
يحمل هذا الاعتراف تداعيات خطيرة على وحدة الدولة الصومالية ومستقبلها، من أبرزها:
- تعميق النزعات الانفصالية: يشجع الاعتراف الإسرائيلي أقاليم أخرى، مثل بونتلاند وجوبالاند الذان يلوحان حاليا بالانفصال، ما يهدد بتفكك الدولة الصومالية بشكل كامل.
- توسيع الحاضنة الشعبية لحركة الشباب: في حال استثمرت حركة الشباب هذا الحدث بذكاء، فقد يؤدي ذلك إلى تحريك العاطفة الإسلامية والوطنية لدى الشباب، وتصوير الصراع على أنه صراع وجودي، ما يسهّل توسيع نفوذها وبسط سيطرتها.
- إضعاف الحكومة الفيدرالية في مقديشو: فشل الحكومة في إدارة هذا الملف بحزم وجدية قد يؤدي إلى تسارع انهيار مؤسسات الدولة، وسحب ما تبقى من الثقة الشعبية، في ظل شعور عام بالعجز وفقدان السيادة.
رابعا: مدى خطورة هذه الخطوة على الشعوب العربية والإسلامية
لا تقتصر خطورة هذا الموقف على الصومال وحده، بل تمثل بداية لإعادة رسم خرائط جديدة في العالم العربي والإسلامي، في وقت لا تزال فيه الشعوب العربية ترزح تحت أعباء الحدود الجائرة المصطنعة التي فُرضت عليها سابقًا. وقد يتحول العالم الإسلامي، في ظل هذا المسار، إلى حارسٍ غير مباشر للاحتلال الإسرائيلي بدل أن يكون في موقع المواجهة معه.
ويمكن أن يتكرر هذا السيناريو في دول أخرى، مثل اليمن الذي شهد في الأيام الأخيرة تصاعدًا في التوترات الانفصالية، وسوريا التي تعاني من إشكالية «قسد»، والسودان الذي لا يزال يواجه مخاطر التقسيم والتفكك.
ومن ناحية أخرى، قد يتحول البحر العربي والبحر الأحمر إلى منطقتين تخضعان لنفوذ إسرائيلي متزايد، وهو ما يفرض واقعًا جديدًا في الصراع الوجودي بين العرب والكيان الصهيوني. وأي مواجهة قادمة مع إسرائيل لن تكون كسابقاتها، كما أن الوجود الإسرائيلي في هذه المنطقة سيشكّل تهديدًا مباشرًا لجميع الدول المطلة على البحرين الأحمر والعربي.
أخيرا إن الاعتراف الإسرائيلي بـ« الاقليم الانفصالي صوماللاند» ليس خطوة معزولة، بل جزء من مسار يستهدف استغلال هشاشة الدول لإعادة رسم الخرائط في القرن الأفريقي والعالمين العربي والإسلامي. فهو يهدد وحدة الصومال، ويشجع النزعات الانفصالية، ويفتح الباب أمام نفوذ إسرائيلي متزايد في البحر الأحمر والبحر العربي.
وتكمن خطورته الحقيقية في احتمال تحوّل بعض مناطق العالم الإسلامي إلى أدوات تخدم أمن الاحتلال بدل مواجهته. ومن هنا، تصبح مواجهة هذا المسار مسؤولية جماعية، تتطلب وعيًا استراتيجيًا، ودعمًا لوحدة الدول، ورفضًا قاطعًا لشرعنة التفتيت، حفاظًا على سيادة المنطقة ومستقبلها.




اترك تعليقاً