يساعد صديق مقرّب للعائلة، ومصادر في روسيا وسوريا، وبيانات مُسرّبة، على إلقاء ضوء نادر على حياة أسرة الديكتاتور المنعزلة.
في عام 1432هـ (2011م)، خطّ مجموعة من الفتية تحذيرا على جدار في ساحة مدرستهم: «اجاك الدور يا دكتور». كان ذلك الشعار تهديدا مستترا لرئيس سوريا بشار الأسد، طبيب العيون المتدرّب في لندن، بأن يكون التالي في سلسلة إسقاط الديكتاتوريين العرب مع اندلاع رياح الربيع العربي آنذاك.
استغرق الأمر أربعة عشر عاما، قُتل خلالها نحو 620 ألف شخص، ونُزّح قرابة 14 مليونًا، قبل أن يأتي الدور أخيرا؛ فأُطيح بالأسد، وفرّ إلى موسكو في جنح الليل.
لكن، وبعد أن تخلّى عن حكمه الاستبدادي مقابل منفى مُذهّب في موسكو، يُقال إن الأسد يعاود طرق باب تكوينه الطبي من جديد. فزعيم آخر نظام بعثي في الشرق الأوسط يجلس اليوم على مقاعد الدراسة، يتلقى دروسا في طبّ العيون، بحسب مصدر مطّلع.
«إنه يدرس اللغة الروسية ويُعيد صقل معارفه في طبّ العيون من جديد»، قال صديق لعائلة الأسد ما زال على تواصل معهم. وأضاف: «إنها شغفه الحقيقي، وهو بطبيعة الحال لا يحتاج إلى المال. حتى قبل اندلاع الحرب في سوريا، كان يمارس طبّ العيون بانتظام في دمشق»، في إشارة إلى أن نخبة موسكو الثرية قد تكون زبائنه المحتملين.
وبعد عام على سقوط نظامه في سوريا، تعيش عائلة الأسد حياة مترفة، هادئة ومنعزلة بين موسكو والإمارات العربية المتحدة. وقد أسهم صديق للعائلة، إلى جانب مصادر في روسيا وسوريا وبيانات مُسرّبة، في تقديم لمحة نادرة عن تفاصيل حياة الأسرة التي آلت إلى العزلة بعد أن حكمت سوريا بقبضة من حديد.
ورجّحت مصادر مطّلعة أن تقيم العائلة في منطقة روبليوفكا الراقية، وهي مجمّع سكني مغلق خاص بنخبة موسكو. وهناك، قد تختلط بأسماء من قبيل الرئيس الأوكراني السابق فيكتور يانوكوفيتش، الذي فرّ من كييف عام 1435هـ (2014م) ويُعتقد أنه يقيم في المنطقة ذاتها.
ولا تعاني عائلة الأسد شُحّا في المال. فبعد أن فُصلت عن جزء كبير من النظام المالي العالمي بفعل العقوبات الغربية عام 1432هـ (2011م)، عقب الحملة الدموية التي شنّها الأسد ضد المتظاهرين، نقلت العائلة قسطا وافرا من ثروتها إلى موسكو، حيث تعذّر على الجهات الرقابية الغربية الوصول إليها.
وعلى الرغم من رفاهية مقرّ إقامتها، فإن العائلة باتت معزولة عن الدوائر السورية والروسية النافذة التي اعتادت الارتياد إليها. فقد خلّف فرار بشار من سوريا في اللحظات الأخيرة شعورا بالتخلّي لدى أتباعه، فيما يحول القائمون عليه من الجانب الروسي دون تواصله مع كبار مسؤولي النظام السابق.

«إنها حياة شديدة الهدوء»، يقول صديق العائلة. «لا يكاد يكون له أي تواصل مع العالم الخارجي. يقتصر اتصاله على عدد محدود جدا من الأشخاص الذين كانوا في قصره، مثل منصور عزام، وزير شؤون رئاسة الجمهورية السابق، ويسار إبراهيم، أبرز المقرّبين منه اقتصاديا».
وأوضح مصدر مقرّب من الكرملين أن الأسد بات، إلى حدّ بعيد، «عديم الأهمية» بالنسبة إلى بوتين ونخبة الحكم الروسية. وأضاف: «بوتين لا يتحلّى بالكثير من الصبر تجاه القادة الذين يفقدون قبضتهم على السلطة، ولم يعد الأسد يُنظر إليه بوصفه شخصية مؤثرة، ولا حتى ضيفا يثير الاهتمام على مائدة عشاء».
وكان الأسد قد فرّ برفقة أبنائه من دمشق في 1445هـ (الساعات الأولى من فجر 8 ديسمبر 2024)، مع اقتراب فصائل المعارضة السورية من العاصمة من جهتي الشمال والجنوب. وهناك، كان في استقبالهم مرافقة عسكرية روسية نقلتهم إلى قاعدة حميميم الجوية، حيث جرى إجلاؤهم جوا خارج البلاد.
لم يُحذّر الأسد أفراد عائلته الممتدة ولا حلفاءه المقرّبين في النظام من الانهيار الوشيك، بل تركهم يواجهون مصيرهم بأنفسهم.
وقال صديق لماهر الأسد، شقيق بشار وأحد أبرز القادة العسكريين، وعلى معرفة بكثير من المسؤولين السابقين في القصر: «كان ماهر يتصل ببشار منذ أيام، لكنه لم يكن يجيب. بقي في القصر حتى اللحظة الأخيرة؛ وعندما دخل الثوار وجدوا جمر الأركيلة ما يزال دافئا. كان ماهر، لا بشار، من ساعد الآخرين على الفرار. بشار لم يكن يهتم إلا بنفسه».
واستعاد محامي رفعت الأسد، عمّ بشار، كيف اتصل به موكّلوه في حالة من الهلع، عاجزين عن معرفة سبيل الخروج من سوريا بعد فرار بشار. وقال إيلي حاتم، محامي رفعت: «عندما وصلوا إلى حميميم، أخبروا الجنود الروس بأنهم من آل الأسد، لكنهم لم يكونوا يتقنون الإنجليزية ولا العربية. فاضطر ثمانية منهم إلى المبيت في سياراتهم أمام القاعدة». ولم يتمكّن أفراد العائلة من الفرار إلى عُمان إلا بعد تدخّل مسؤول روسي رفيع المستوى.
وفي الأشهر الأولى التي تلت هروب آل الأسد، لم يكن حلفاء النظام السابقون حاضرين في ذهن بشار. فقد اجتمعت العائلة في موسكو لمساندة أسماء، السيدة الأولى السورية السابقة المولودة في بريطانيا، التي كانت تعاني من سرطان الدم منذ سنوات، وقد تدهورت حالتها الصحية بشكل حرج. وكانت تتلقى العلاج في موسكو قبل سقوط نظام الأسد.
وبحسب مصدر مطّلع على تفاصيل الحالة الصحية لأسماء، فإنها تعافت بعد خضوعها لعلاج تجريبي جرى تحت إشراف الأجهزة الأمنية الروسية.ومع استقرار وضع أسماء الصحي، بات الديكتاتور السابق حريصا على عرض روايته الخاصة. وقد رتّب لإجراء مقابلات مع قناة «آر تي» ومع مدوّن صوتي أميركي يميني واسع الانتشار، إلا أنه ينتظر موافقة السلطات الروسية قبل الظهور الإعلامي.
ويبدو أن روسيا فرضت حظرا تاما على أي ظهور علني للأسد. ففي مقابلة نادرة أُجريت في نوفمبر مع وسائل إعلام عراقية حول حياة الأسد في موسكو، أكد سفير روسيا لدى العراق، إلبروس كوترشيف، أن الديكتاتور المخلوع مُنع من أي نشاط عام.
وقال كوترشيف: «قد يعيش الأسد هنا، لكنه لا يستطيع الانخراط في أي نشاط سياسي… ولا يحق له ممارسة أي نشاط إعلامي أو سياسي. هل سمعتم شيئا منه؟ لم تسمعوا، لأنه غير مسموح له بذلك، لكنه آمن وعلى قيد الحياة».
وفي المقابل، تبدو حياة أبناء الأسد مستمرة باضطراب محدود نسبيا، وهم يتأقلمون مع واقعهم الجديد كجزء من نخبة موسكو.
وقال صديق للعائلة، التقى ببعض الأبناء قبل بضعة أشهر: «يبدون وكأنهم في حالة ذهول. أعتقد أنهم ما زالوا تحت وطأة الصدمة. إنهم فقط يحاولون التكيّف مع حياة لم يعودوا فيها العائلة الأولى».
أما الظهور العلني الوحيد الذي جُمعت فيه عائلة الأسد، من دون بشار، منذ سقوط نظامهم، فكان خلال حفل تخرج ابنته زين الأسد في 30 يونيو، حيث نالت شهادة في العلاقات الدولية من معهد موسكو الحكومي للعلاقات الدولية (MGIMO)، الجامعة النخبوية التي تخرّج فيها عدد كبير من أركان الطبقة الحاكمة في روسيا.
وتُظهر صورة منشورة على الموقع الرسمي لمعهد موسكو الحكومي للعلاقات الدولية «MGIMO» زين، البالغة من العمر 22 عاما، واقفة إلى جانب زملائها الخريجين. وفي مقطع فيديو منفصل، ضبابي الجودة، من الحفل نفسه، يمكن رؤية عدد من أفراد عائلة الأسد في مقاعد الحضور، من بينهم أسماء ونجلاها حافظ، 24 عاما، وكريم، 21 عاما.
وأكد اثنان من زملاء زين الذين حضروا حفل التخرّج وجود بعض أفراد عائلة الأسد، غير أنهم أوضحوا أنهم التزموا قدرا كبيرا من التحفّظ. وقال أحد الزملاء السابقين، متحدثا شريطة عدم الكشف عن هويته: «لم تمكث العائلة طويلا، ولم تلتقط صورا مع زين على المنصة كما فعلت بقية العائلات».
أما حافظ، الذي كان يُعدّ في وقت من الأوقات وريثا محتملا لبشار، فقد توارى إلى حدّ كبير عن الأنظار منذ نشره مقطع فيديو على تطبيق تلغرام في فبراير، قدّم فيه روايته الخاصة لفرار العائلة من دمشق، نافيا أنهم تخلّوا عن حلفائهم، ومؤكدا أن موسكو هي من أمرتهم بمغادرة سوريا.
تمكّن السوريون بسرعة من تحديد موقع حافظ، الذي صوّر الفيديو أثناء سيره في شوارع موسكو.
وقد أغلق حافظ معظم حساباته على وسائل التواصل الاجتماعي، مسجّلا بدلا منها حسابات تحت اسم مستعار مقتبس من سلسلة أطفال أميركية عن محقق شاب يعاني من عسر القراءة، وفق بيانات مُسرّبة. ويقضي الأطفال وأمهم معظم أوقاتهم في التسوّق، وتزيين منزلهم الروسي الجديد بالسلع الفاخرة، بحسب المصدر المقرب من العائلة.
وتشير البيانات الروسية المسربة إلى أن زين الأسد تتسوّق بانتظام الملابس الفاخرة، وسجّلت في صالون باديكير راقٍ، وعضو في صالة رياضية نخبوية في موسكو.
كما يزور أبناء الأسد الإمارات العربية المتحدة بشكل متكرّر، وقد رافقتهم أسماء في إحدى رحلاتهم على الأقل. وتُظهر سجلات رحلات مسرّبة من 1438-1444هـ (2017 إلى 2023م) اطلعت عليها الغارديان أن الإمارات كانت منذ فترة طويلة وجهة مفضلة لعائلة الأسد حتى وهم في السلطة. وقد قام كريم وحافظ برحلات متكررة بين أبوظبي وموسكو وسوريا، بما في ذلك رحلات في 1444 هـ (نوفمبر 2022م) و1445هـ (سبتمبر 2023م).
في البداية، كانت العائلة تأمل في الانتقال من موسكو إلى الإمارات، كونها مكانا أكثر ألفة بالنسبة لهم. إذ لم يكونوا يتقنون الروسية وواجهوا صعوبة في الاندماج ضمن الدوائر الاجتماعية الروسية، وفق صديق العائلة. ومع ذلك، أدركت العائلة الآن أن الانتقال الدائم لن يتحقق في المدى القريب، إذ حتى الإمارات، التي تستضيف عددا كبيرا من نخبة العالم المشبوهة، تجد نفسها في حرج لاستضافة الأسد.
ومع اجتياح الثوار لسوريا، نشروا صورا وجدوها في ممتلكات الأسد. وغمرت وسائل التواصل الاجتماعي صور بشار الشاب بالملابس الداخلية، وبشار وهو يسبح – مشاهد تختلف تماما عن الصورة الاستبدادية التي كان يطل بها على السوريين من كل زاوية.
صحيفة الغارديان البريطانية.



اترك تعليقاً