أنترك غزة بلا مآذن؟

مسجد.jpg f5e06c5a b182 4c4e 8a6d 7df9c01b11d5

لم يكن استهداف المآذن في غزة عملًا عابرًا أو أثرًا جانبيًا لحربٍ طاحنة، بل حلقة في مشروعٍ عدواني مدروس يروم اقتلاع الإيمان من القطاع، ونزع الروح الإسلامية من المكان الذي أنجب المقاومة واحتضنها. فالمآذن ليست حجارةً قائمة على إسمنتٍ وحديد، بل هي إعلانٌ متجدّدٌ بأن السلطان في هذه الأرض لله، وأن هذه الأمة – مهما أثخنتها الجراح – لا تزال تسمع نداء الله الخالق وتستجيب له وتخضع.

ولقد أدرك العدو منذ وقتٍ مبكّر أن المسجد في التجربة الإسلامية ليس موضع عبادةٍ فحسب، بل هو محور الوعي ومركز التعليم والتربية ومصنع الإنسان المؤمن، ومنطلق الفعل المقاوم. ففيه تتشكّل البذرة الأولى للانتماء، ويبث العلم بالله وبأمره، وتُزرع القيم التي تصوغ الإنسان الرباني الذي يعيش لإعلاء كلمة الله، ويجعل من العبادة رسالة، ومن الإيمان طاقةً للتغيير. ولذا فإن هدم المسجد عند المحتل ليس تدميرًا لبناءٍ مادي، بل محاولة لنسف القاعدة التي تنهض عليها الهوية، وإخماد للصوت الذي يصل الأرض بالسماء، ويحوّل الألم إلى عبادةٍ والدم إلى وعدٍ بالنصر أو الشهادة.

وتشير التقارير الميدانية إلى أن الاحتلال دمّر أكثر من: 909 مسجدًا تدميرًا كليًا، وما يزيد على 251 مسجدًا تدميرًا جزئيًا بصورة مؤثرة، بمعنى أن عدد المساجد التي طالها التدمير بلغ: 1160 مسجدا من أصل 1244 تشكل كامل مساجد القطاع ( أي دمر ما يزيد عن: 93% من مساجد القطاع)..

وبالنظر إلى صِغر مساحة قطاع غزة البالغة 365 كم2، يكون العدو قد دمر (كليا أو جزئيا بشكل مؤثر) في كل واحد كيلو متر مربع عدد: 3.17 مسجدا، وبذا يتّضح أن الحرب لم تكن على الجغرافيا وحدها، بل وعلى الفكرة والدين والهوية، وأن المآذن استُهدفت لأنها ذاكرة الصوت الإسلامي في المكان، وشاهد الهوية في العمران. فحين يُهدم المسجد، يريد العدو أن يُسقط المرجعية التي تمنح المقاومة شعارها الديني، وأن ينقل المعركة من فضاء الإيمان إلى فضاء المادة، ومن ميدان العقيدة إلى ميدان الجغرافيا.

ولكن مما يجهله العدو، أو يتغافل عنه، أن المسجد في غزة ليس مجرد جدار يُهدم، بل وعيٌ يُعاد تشكّله في كل فضاء. فحين تُقصف المئذنة، ترفع القلوب قبل الأيدي مآذن جديدة. وفي الشارع أو الخيمة أو بين الركام، يقام المسجد من المعنى لا من الحجر. وحين يُمنع الأذان، يتردّد التكبير في الصدور والبيوت والأزقة. فالهدم لا يطفئ الروح بل يوقظها، ولا يطمس النور بل يضاعف إشعاعه.

ولذا فيمكننا القول: بإن استهداف المآذن اليوم ليس سوى جزءٍ من مشروعٍ أوسع لإعادة تشكيل الوعي الجمعي لأبناء غزة بعد الحرب، وليس سوى محاولةٍ خبيثةٍ لعلمنة الوجدان وفصل الجيل القادم عن رموزه الإيمانية. فالمجتمع الذي تُطفأ مآذنه وتهدم مساجده يمكن إعادة هندسة هويته وقيمه ولو ببطء، والمكان الذي يخلو من الأذان يسهل ملؤه بأصواتٍ بديلة تُعيد تعريف المقدّس وتبديل الولاء والانتماء. ولهذا، فإن الإصرار على بناء المساجد ورفع مآذنها ليس فعلًا رمزيًا فحسب، بل هو دفاعٌ عن مركز الوعي وقلعة الهوية وروح الأمة في المكان.

ويمكننا القول بأن إعادة إعمار المساجد – مهما كلفت من جهدٍ وبذل – ضرورةٌ استراتيجية لحماية الهوية والبنية الدينية والعلمية والأخلاقية للمجتمع الغزي، فالمسجد كان وسيبقى هو القلب الذي يجمع الناس بعد العاصفة، ففيه تلتئم الجراح ويحصل التثبيت وتُستعاد معاني الشموخ والعزة والكرامة، ومنه تنطلق حركة الإصلاح والعلم والتربية والإغاثة. وبقاؤه يعني بقاء الإسلام فاعلًا في الوعي العام، وممانعًا لكل مشروعٍ يسعى لإضعاف الهوية وإنهاك القيم، وتفريغ الوعي، وفرض التسطيح، وإفساد الأخلاق.

وأيضا يمكننا القول: بأن أخطر ما يهدد غزة اليوم ليس عظم الركام ولا الحصار، بل محاولة محو المرجعية التي تشكّل روحها وقلبها النابض. فإذا نجح العدو في ذلك، نشأ جيلٌ غريبٌ عن المئذنة والمسجد، بعيد الصلة بالكعبة وبيت المقدس، خالي الوجدان من نداء “حي على الصلاة حي على الفلاح”، مهيّأ لتلقّي هويةٍ جديدةٍ للحياة والإنسان والمجتمع.

ولكن بحمد الله فقد علمنا التاريخ: أن الأمم التي تبني مآذنها من دمائها لا تُهزم، وأن الأذان الذي يخرج من بين الركام لا يُسكت، وأن المسجد في الوعي الإسلامي ليس بناءً، بل عهدٌ بين الإنسان وربه أن يبقى رمز التوحيد مرفوعا، مهما اشتد البلاء.

وبقدر ما يُعاد إعمار المساجد، يُعاد بناء الإيمان وصياغة الوعي وتجديد العهد مع الله. وعندها فقط يمكننا أن نقول بثقة: إن المآذن إن هدمت فالآذان لا يُقصف، وإن الدين ما بقي محروسا وباعثا محركا فلن لا يُهدم، وإن “الله أكبر” ستظل تعلو على كل حدب وصوت. فالأمة – مهما طال ليلها – ما زالت تسجد لربها، وتتوكل عليه، وتستمد من رحم البلاء يقين النصر.
والله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

والله الهادي.

د.فيصل بن علي البعداني

اشترك في نشرتنا البريدية للإطلاع على ملخص الأسبوع

Blank Form (#5)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

طالع أيضا