الديمقراطية تتحول إلى بلوتوقراطية: أنفق دولارا على مرشح لتحصل على عوائد 760 دولارا في المقابل!
المال والسياسة في النظام الديمقراطي: من حكم الشعب إلى حكم رأس المال
تمهيد
يُقدَّم النظام الديمقراطي في الغرب – وعلى رأسه النموذج الأميركي – باعتباره ذروة التطور السياسي الإنساني، ونهاية التاريخ كما زعم فوكوياما، حيث “الشعب يحكم نفسه” و“السلطة تستمد شرعيتها من الإرادة العامة”.
غير أن الواقع العملي يكشف أن الديمقراطية الغربية لم تعد سوى قشرة شكلية تخفي جوهرًا بلوتوقراطيًا (حكم الأثرياء)، تتحكم فيه حفنة من الشركات العملاقة والممولين السياسيين الذين يشترون النفوذ بالمال، ويعيدون صياغة القوانين لتخدم مصالحهم الاقتصادية، لا مصالح الأمة.
منذ أكثر من قرن، تنبّه المفكر الأميركي تشارلز بيرد (Charles A. Beard) إلى هذا التناقض الجوهري، حين وصف الدستور الأميركي بأنه “وثيقة اقتصادية” صيغت لحماية مصالح كبار الملاّك والتجار، لا لتحقيق المساواة. واليوم، بعد قرنين من “التطور الديمقراطي”، تأكد أن المال أصبح القوة الحاكمة الحقيقية، وأن المواطن العادي يمارس شكلاً بلا مضمون من “الاختيار الحر”.
أولاً: من “حكم الشعب” إلى “حكم المال”
في جوهرها، تقوم الديمقراطية على مبدأ المساواة السياسية: لكل مواطن صوت واحد وتأثير متكافئ في القرار العام. لكن الرأسمالية التي احتضنت الديمقراطية الغربية قلبت المعادلة؛ إذ جعلت المال معيار التأثير، والإعلام التجاري أداة تشكيل الوعي، فصار الطريق إلى السلطة لا يمر عبر “قوة الحجة”، بل عبر قوة التمويل.
الدراسة الصادرة عن مركز السياسة المستجيبة (Center for Responsive Politics) عام 2022 تشير إلى أن: “1% من المانحين الأثرياء في الولايات المتحدة قدّموا أكثر من 50% من مجموع التمويل الانتخابي الفيدرالي.”
أي إن نصف السياسة الأميركية يُقرَّر بتمويل بضع مئات من الأفراد.
وفي الانتخابات الرئاسية لعام 2020، أنفق المرشحون والأحزاب واللجان السياسية أكثر من 14 مليار دولار – وهو رقم غير مسبوق في تاريخ البشرية لأي منافسة سياسية – وفق تقرير مؤسسة OpenSecrets.
أي أن “السوق السياسية” أصبحت أحد فروع الاقتصاد الأميركي نفسه.
ثانياً: التبرع الذي يشتري القرار ؛ نموذج مريام أدلسون وترامب
من أبرز الأمثلة الصارخة على تزاوج المال والسياسة ما كشفه ترامب نفسه في خطابه أمام الكنيست “الإسرائيلي” عام 2025، حين مجّد المليارديرة الصهيونية مريام أدلسون وقال صراحة: “من أجل مريام أدلسون اعترفت بالقدس عاصمة أبدية لإسرائيل.” هذه المرأة، التي تُعدّ أغنى إسرائيلية في العالم بثروة تناهز 60 مليار دولار، تبرّعت بما يقارب 100 مليون دولار لدعم حملة ترامب الانتخابية عام 2024 عبر لجان Super PACs الموالية له. وبعد أشهر، اتخذ ترامب قرارات مفصلية في السياسة الخارجية الأميركية تصب مباشرة في مصالح اللوبي الصهيوني: الاعتراف بضم الجولان، وتجفيف تمويل الأونروا.
أعلن ترامب في 6 ديسمبر 2017 اعترافه بالقدس كمقرّ لدولة إسرائيل، وتمّ افتتاح السفارة الأميركية في القدس في 14 مايو 2018.
في سبتمبر–أكتوبر 2016 (أسابيع قبل الانتخابات)، قدّم شلدون ومريام أدلسون تباعًا 10 + 10 ملايين دولار (إجمالي 20 مليونًا) إلى السوبر-باك المؤيد لترامب Future45؛ التواريخ والمبالغ موثّقة في سجلات OpenSecrets/FEC.
بعد الفوز، تبرّع شلدون أدلسون بمبلغ 5 ملايين دولار لـ«لجنة تنصيب» ترامب (رقم قياسي آنذاك)، وفق إفصاحات FEC وتقارير كبرى الصحف.
قبل الافتتاح بقليل، كُشف أن شلدون أدلسون عرض تمويل جزء من تكاليف السفارة في القدس، وهو سلوك يبيّن درجة الاندماج بين المموّل والقرار السياسي.
تقارير صحفية وتحليلية لاحقة (استنادًا إلى كتاب ماغي هابرمان Confidence Man) وصفت الأمر بصيغة «مقايضة نفوذ»؛ إذ استُخدم تبرّعٌ بقيمة 20 مليون دولار للضغط باتجاه قرار السفارة. هذه رواية صحفية موثّقة.
كذلك رُصدت ضغوط مباشرة من أدلسون على الإدارة بشأن توقيت/حساسية الخطوة (غضبه من تصريحات تيلرسون المترددة)، ما يعزّز دلالة النفوذ السياسي للمموّل.
إن التزام السياسات المُعلنة للمتبرّعة (في دعم إسرائيل) يثير اشتباكات أخلاقية بين التمويل السياسي الضخم وإتخاذ قرارات دولة ذات بعد استراتيجي.
هذا المثال يُظهر كيف يمكن لتبرع انتخابي أن يشتري تحوّلًا في السياسة الخارجية لدولة عظمى، في تجاهل تام لمبادئ “العدالة الدولية” أو لحقوق الشعوب التي تتأثر بتلك القرارات.
ثالثاً: المال كحرية تعبير ؛ التشريع الذي شرعن الفساد
في عام 2010 أصدرت المحكمة العليا الأميركية حكمها الشهير في قضية
Citizens United v. Federal Election Commission، والذي اعتبر أن إنفاق المال في الحملات الانتخابية “شكل من أشكال حرية التعبير” التي “يحميها الدستور”.
بهذا القرار، فُتحت أبواب الجحيم التشريعي:
• أُلغيت القيود على تمويل الشركات للحملات الانتخابية.
• أُنشئت لجان Super PACs التي تنفق بلا سقف لدعم مرشحين.
• صار بوسع المليارديرات والشركات أن يُغرقوا المشهد السياسي بالدعاية الموجّهة دون أن يُعتبر ذلك رشوة.
لقد تحوّل “الحق في التعبير” إلى حق في شراء الأصوات، وتحولت “الانتخابات الحرة” إلى مزاد علني للنفوذ.
رابعاً: عوائد الاستثمار السياسي: عوائد تقدر بنحو 760 دولاراً مقابل كل دولار يُنفق!
لماذا يدفع الأثرياء والشركات هذه المبالغ الهائلة؟ الجواب واضح: لأنها استثمار ذو عائد مرتفع.
وفق دراسة لجامعة شيكاغو (2019)، فإن الشركات التي تنفق على جماعات الضغط السياسي (Lobbying) تحصل على عوائد تقدر بنحو 760 دولاراً مقابل كل دولار يُنفق، عبر عقود حكومية، أو إعفاءات ضريبية، أو تعديلات تنظيمية تخفف القيود عليها.
أمثلة:
• شركات الطاقة والنفط مثل ExxonMobil وChevron تموّل بشكل منتظم أعضاء الكونغرس المحافظين الذين يعارضون تشريعات المناخ، وقد نجحت في تأخير قوانين خفض الانبعاثات لعقود.
• شركات السلاح مثل Lockheed Martin وRaytheon هي من أكبر الممولين للجان الدفاع في الكونغرس، وتستفيد من كل حرب جديدة تُعلنها الإدارة الأميركية.
• شركات الأدوية الكبرى (Big Pharma) أنفقت أكثر من 400 مليون دولار في عام 2023 وحده على جماعات الضغط، ما أسهم في تعطيل قوانين خفض أسعار الأدوية.
إنها دائرة مغلقة: يدفع رأس المال ليُنتخب المشرِّع، ثم يسنّ المشرِّع قوانين تُدرّ على رأس المال أضعاف ما أنفق.
خامساً: السيطرة على القوانين والإعلام
منذ ثمانينات القرن العشرين، ومع صعود “النيوليبرالية”، شهدت أميركا خصخصة تدريجية للمجال العام: الإعلام، التعليم، الصحة، وحتى السجون. القوانين صيغت لتُطلق يد الشركات بحجة “تحرير السوق”، لكن الواقع أن تلك الشركات اشترت المشرّعين.
• قانون Telecommunications Act of 1996 مثلاً سمح باندماج كبريات شركات الإعلام، فنتج عنه احتكار ست مؤسسات فقط لـ90% من وسائل الإعلام الأميركية (مثل Disney, Comcast, News Corp, Warner Bros.).
أي أن الوعي الجماهيري نفسه أصبح ملكًا لرأس المال.
• قانون Financial Modernization Act (1999) ألغى القيود الفاصلة بين البنوك التجارية والاستثمارية، ما مهّد لأزمة 2008 التي دمرت الاقتصاد العالمي، ثم أنقذت الحكومة تلك البنوك من أموال دافعي الضرائب!
وفي أوروبا تتكرر الصورة ذاتها: في بريطانيا، أنفق لوبي المصارف أكثر من 100 مليون جنيه إسترليني للتأثير في قوانين “البريكست المالي”؛ وفي فرنسا، موّلت كبريات شركات الطاقة الحملات الانتخابية للرؤساء لتأمين استمرار امتيازاتها النووية.
سادساً: سقوط الأخلاق في الممارسة الديمقراطية
ما يبرّر هذا الانحراف ليس “خللاً طارئًا” بل نتاجٌ طبيعي لفلسفة الديمقراطية الغربية نفسها التي تفصل بين الأخلاق والسياسة. فطالما أن القانون يسمح، فالفعل “شرعي”، ولو كان مفسدًا للضمير العام.
لكن حين يصبح التمويل الانتخابي أداة لشراء الولاء، والإعلام خاضعًا للمعلنين الكبار، والقوانين تُكتب في مكاتب الشركات لا في البرلمان، فلا معنى للحديث عن “إرادة الشعب”.
إنها ديمقراطية بلا روح، تسير آليًا وفق منطق السوق. يتبادل فيها السياسي ورجل الأعمال الأدوار: أحدهما يُشرّع، والآخر يُموّل، وكلاهما ينهب الدولة باسم “الحرية”.
سابعاً: أزمة النموذج الغربي بأسره
تظهر المشكلة في أوروبا وأميركا على السواء: في ألمانيا، تبرعت شركات السيارات الكبرى لأحزاب الائتلاف الحاكم، مما أبطأ تشريعات الانبعاثات. وفي إيطاليا، تحوّل سيلفيو برلسكوني إلى “رئيس ـ ملياردير ـ مالك إعلامي” يجمع السلطة والثروة. وفي كندا، أُجبرت حكومة ترودو عام 2019 على التراجع عن ملاحقة شركة SNC-Lavalin بعد ضغط من لوبياتها المالية.
هذه النماذج كلها تكشف أن الخلل ليس في الأشخاص بل في البنية الفلسفية للنظام نفسه: نظام يقدّس “الحرية الفردية” بمعناها الاقتصادي حتى لو دمّر المصلحة العامة، ويخلط بين “حرية التملك” و“حرية الحكم”،
حتى غدا صوت المال أعلى من صوت الضمير.
خاتمة
لقد تحوّلت الديمقراطية الغربية من وسيلة “لتحقيق العدالة والمشاركة” إلى آلية لتجميل سيطرة رأس المال.
صناديق الاقتراع لا تغيّر السياسات بقدر ما تُعيد تدوير الوجوه التي تخدم المنظومة ذاتها. وكلما ازداد المال في السياسة، انكمش الشعب في القرار.
من هذا المنظور، فإن نقد الفكر الغربي لا يعني إنكاراً لتاريخه السياسي فحسب، بل كشف تناقضه البنيوي:
يدّعي أن الحرية للجميع، لكنه يمنحها لمن يملك، ويتغنّى بالمساواة، لكنه يسخّر القانون لحماية الأقوياء،
ويزعم تمثيل الشعب، لكنه لا يرى الشعب إلا كتلة أصوات تُشترى بالإعلانات.
وهكذا ينتهي “حكم الشعب بالشعب” إلى حكم الشعب بالمال، وتتحول الديمقراطية إلى بلوتوقراطية (حكم الأَثرياء).
صورة المليارديرة الصهيونية مريام أدلسون التي دفعت ثمن تحويل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس، وشن حرب على الأونروا وغير ذلك من خلال المال السياسي الذي هو “حرية تعبير”!




اترك تعليقاً