مؤخرًا أعلنت وكالات الائتمان الدولية مثل “ستاندرد آند بورز” رفع التصنيف الائتماني السيادي لمصر إلى “B”، مع نظرة مستقبلية مستقرة، في إشارة –رسمية– لتحسن الأداء الاقتصادي الكلي بفضل حزمة من الإصلاحات المالية وتحرير سعر الصرف، وتزايد الاستثمار الأجنبي، ونمو الناتج المحلي. تظهر التقارير ارتفاع النمو الاقتصادي، ووفرة الاحتياطات الأجنبية مع توقعات بزيادة التدفقات المالية وتحسن الإيرادات العامة بدرجات ملحوظة في الأعوام القادمة.
النمو على الورق… وتجربة المواطن
رغم هذه الإشادات، يبقى التحدي الأكبر: أين ينعكس هذا التحسن في حياة الناس اليومية؟
في قرى الصعيد مثلًا، واقع الخدمات للطبقات الفقيرة والمتوسطة لا يقترب من معايير حياة المدن الجديدة. استخراج وثيقة حكومية قد يستغرق يومًا كاملًا بسبب الزحام الشديد وقلة الموظفين، في حين يفترض أن يتم الإجراء خلال دقائق.
الخلل هنا لا ينحصر في مجرد الإدارة، بل يتجاوز إلى أعمق ظواهر المحسوبية والرشوة والواسطة، بحيث يصبح المال أو السلطة المحلية المحدودة هي الوسيلة الوحيدة لتسهيل أبسط الحقوق.
ليست الخدمات الحكومية وحدها بل حتى جودة البنية التحتية العامة شديدة التواضع في أغلب القرى: لا صرف صحي، ولا إنترنت أو شبكة اتصالات محترمة، ولا مستشفيات أو حتى مراكز طبية بالمستوى المقبول، ومدرسة وحيدة هي مركز الخدمة الوحيد، وسط ضعف لكفاءة جهاز الدولة في التعامل مع النمو السكاني ومتطلبات القرى الواسعة.
فساد توزيع الفرص وغياب العدالة
أوضح مظاهر الفساد المنتشر هو غياب تكافؤ الفرص، و”سيادة الواسطة والمحسوبية”: من بيده المال أو السلطة يمر، فيما ينتظر الآخرون بالأيام، سواء في المؤسسات أو حتى في الانتخابات أو الجمعيات أو الحصول على أي خدمة حياتية. هذه المشكلة ليست وليدة اليوم، لكنها باتت أكثر وضوحًا مع تزايد الشكوى، وتراجع مستوى الخدمات مع تصاعد الأعباء.
المدن الجديدة: مستقبل للأغنياء فقط؟
تُبنى مدن فائقة الحداثة ومعيشة لا مثيل لها في مصر، لكنها تظل موصدة الأبواب أمام الغالبية الساحقة من المصريين؛ إذ إن أسعار شققها بالملايين ولا يمكن للفقراء أو حتى غالبية الطبقة المتوسطة بلوغها. هذه المدن رمز لعزلة طبقية متزايدة، ويصبح التطور فيها سببًا لتعميق شعور القرى والمدن الريفية بالتهميش واللاعدالة.
بينما تستمر الحياة في قرى الصعيد ومحافظاته على حالها، وربما تزداد المعاناة، تبدو مظاهر الرفاهية في المدن الجديدة استفزازًا لمشاعر من لم تصلهم بعد أبسط الخدمات.
الاستفادة من التصنيف: دعاية أكثر من واقع
لا شك أن ظهور مصر في تصنيف دولي جديد قد يكون له وقع إيجابي على الأمن والسياحة والاستثمار الخارجي؛ حيث تعطي هذه المؤشرات انطباعًا بالحكم الرشيد والاستقرار المالي للدولة، لكن حتى يتحول هذا التحسن إلى واقع ملموس فاعل “يجب” أن تتغير الثقافة الإدارية من الجذور، وأن يتم إرساء نظم عادلة لتوزيع الموارد، مع محاربة كل صور الفساد والمحسوبية والرشوة، بحيث يشعر المواطنون بالفعل بأنهم محور الإصلاح وليسوا متلقين فقط للأخبار أو الدعاية الرسمية الطموحة.
الإصلاح الحقيقي يبدأ من الأخلاق والخدمة المتساوية
حتى ينعكس التصنيف الجديد بشكل إيجابي على حياة غالبية المواطنين وليس فقط في المدن الجديدة أو الأحياء الراقية، فإن أبرز ما يحتاجه المواطن البسيط هو تطوير “حقيقي” في مستوى الأخلاق الإدارية والمسؤولية والعدالة في توزيع الفرص والخدمات. الإصلاح ممكن، لكنه مرهون بقبول مجتمعنا كاملًا لتبني قيم جديدة تجعل المال ليس هو الفارق الرئيسي في كل شيء، وتجعل المحسوبية والواسطة استثناءً لا قاعدة، ويشعر المواطن بذلك كلما ذهب إلى مصلحة حكومية أو تقدم بشكوى أو حتى بنى مشروعًا صغيرًا في قريته.
كلمة أخيرة
ربما الصعود في التصنيفات الائتمانية والدولية يفتح أبواب أمل لتحسن حقيقي في المستقبل، لكن الأهم أن تتم الاستفادة من هذه الإنجازات لتطوير حياة الغالبية، لا أن تظل أرقامًا يحتفى بها في الإعلام بينما يعيش جزء كبير من المواطنين –خاصة في الصعيد– بعيدًا عن أي إنصاف أو عدالة اجتماعية على أرض الواقع.
بقلم: مواطن مصري.
اترك تعليقاً