الحصاد المر: الرقة بعد 8 سنوات من حكم “قسد”

1000021534

يلخص هذا التقرير، الذي نشرته منصة “سوريا بلاتفورم” الإخبارية، مشاهدة من شخص رقاوي هو الباحث والمعارض السوري احمد مولود طيار والذي عاد الى مدينته الرقة بعد (18) عاماً من الغربة، ليتفاجأ بحال المدينة المأساوي تحت حكم قسد، الطيار في أول زيارة له للرقة منتعه ميليشيا «قسد» SDF/PKK من دخولها، إلا بعد تدخل عدد من الواسطات:

«الرقة، المدينة التي مرّت بكل أشكال العنف، من بطش النظام، إلى بربرية “داعش”، تبدو اليوم — في لحظة كان يُفترض أن تكون مرحلة تعافٍ — أكثر تعبًا وإنهاكًا من أي وقت مضى. بعد ثمان سنوات من سيطرة “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) على المدينة، يتحدث أبناؤها بمرارة عن واقع متدهور في كل شيء: خدمات، أمن، مؤسسات، وحتى الأمل.

منذ لحظة وصولي الى الرقة، ٢٦/٧/٢٠٢٥، لم ألتقِ أحدًا إلا وكان غاضبًا، محبطًا، ساخطًا، أو صامتًا. جميعهم قالوا بصيغ مختلفة: “قسد لا تمثلنا… ولا تهتم بنا”.. لم التق بأحد يحب قسد مطلقا!

مشهد مدينة تُهدر يوميًا

الرقة اليوم ليست المدينة التي عرفناها. شوارعها غارقة في القمامة، ومياهها ملوثة، وكهرباؤها تأتي ساعات قليلة، إن أتت. مشاريع البنية التحتية متوقفة أو تُدار بارتجال، والنظام الإداري بأكمله قائم على الولاء والمحسوبيات، وليس على الكفاءة.

في قلب المدينة، الطرق الرئيسية أشبه بحقول تدريب دبابات، مليئة بالحفر والمطبات. سألت أكثر من مرة إن كانت هذه الشوارع قد تعرضت لقصف، والجواب كان دائمًا: “لا، فقط الإهمال فعل ذلك”. لا بل أن كثيرين قالوا بمرارة: “ربما أيام داعش كانت الشوارع أنظف”.

القمامة متراكمة في كل زاوية. لا سيارات نظافة منتظمة، وإن وُجدت، فهي تعمل بطريقة بدائية. في بعض الأحياء، تصادف كومة قمامة بجانب مدرسة، أو مستشفى.

الكهرباء في الرقة: بين الاحتكار والمحسوبية والتلوث

الرقة اليوم تعيش في ظلام طويل يمتد لأكثر من 20 ساعة في اليوم. الكهرباء لا تزور معظم الأحياء إلا لأربع ساعات، وفي بعض المناطق لا تتجاوز الساعتين. كل من التقيتهم في المدينة أكدوا أن لا أعطال حقيقية في سد الفرات، وأن التراجع في منسوب مياه النهر ليس بالحجم الذي يبرر هذا الانهيار الكامل في الخدمة.

لكن الكهرباء ليست مفقودة تمامًا. في الأحياء التي يسكنها مسؤولون محليون أو أشخاص محسوبون على “قسد”، لا تنقطع الكهرباء أبدًا. هناك أحياء تتمتع بخدمة 24/24 ساعة — حرفيًا — ما أثار سخط السكان الذين يرون في ذلك مظهرًا صارخًا من التمييز والفساد الإداري.

في المقابل، يعتمد معظم سكان المدينة على ما يُعرف محليًا بـ “الأمبيرات”، وهي مولدات كهرباء ضخمة يمتلكها تجّار مرتبطون بقسد، منتشرة في أغلب الشوارع. صوتها مزعج، ودخانها يملأ الأحياء، مسببة تلوثًا كبيرًا ومشاكل صحية، خاصة للأطفال وكبار السن. هذه المولدات تُدر أرباحًا هائلة لأصحابها، وتحوّلت إلى مصدر طاقة بديل باهظ الثمن لا يمكن للجميع تحمّله.

قال لي أحد سكان حي البستان: “ندفع كل شهر أكثر من فاتورة واحدة على الكهرباء: الأمبيرات، بالإضافة الى “فاتورة الدولة” ومع ذلك لا نقدر على تشغيل كل شيء. أما بيوتهم – يقصد مسؤولي قسد- فلديهم كهرباء لا تنقطع ولا يدفعون ليرة.”

ما يفترض أن يكون خدمة عامة، أصبح سوقًا سوداء، وسلعة يتحكم بها المتنفذون. وفي ظل غياب أي مساءلة، تحوّلت الكهرباء من حقٍّ أساسي إلى أداة ضغط، ووسيلة للربح، ورمز صارخ لانعدام العدالة في توزيع الموارد.

مياه الفرات… ملوثة

المفارقة أن الرقة، المستلقية على ضفاف نهر الفرات، باتت اليوم عطشى. المياه حين تصل — بحسب سكان كثر — تكون ملوثة، وتسبّبت في انتشار أمراض جلدية ومعوية، خصوصًا بين الأطفال. بعض الأحياء لا تصلها المياه لعدة أيام. وعندما سألت أحد الفنيين المحليين عن السبب، أجاب:

“لا مشكلة في المحطات… فقط لا توجد صيانة، ولا إدارة، ولا توزيع عادل”.

سكان المدينة، الذين اعتادوا على وفرة المياه، يشعرون اليوم بالمهانة حين لا يستطيعون ملء خزان واحد في يوم صيفي.

من يحرر… يقرر

من أكثر العبارات تداولًا في الرقة اليوم: “من يحرر يقرر”. وهي تعني ببساطة أن من قاتل مع “قسد” أو خدم مصالحها هو من يتولى المناصب، مهما كانت مؤهلاته. أحد الأمثلة الصارخة على ذلك هو مديرة التربية والتعليم، التي — بحسب شهادات متعددة — لا تحمل أي مؤهل تربوي، وكانت قبل دخول “قسد” تمتهن بيع الخضار. وهذا لا يُقال ازدراءً بالمهن، بل احتجاجًا على تحويل القطاع التعليمي إلى مجال للمكافآت السياسية، لا للإصلاح أو بناء الأجيال. كثير من المعلمين المؤهلين أُقصوا، أو انسحبوا، بسبب التمييز السياسي أو ضعف الرواتب، وغياب بيئة العمل.

فساد بنيوي… كل شيء للبيع

كل من تحدثت معهم عن المشاريع والخدمات والموارد أجابوا بالعبارة نفسها: “كل شيء يُدار بعقلية الغنيمة”.

منذ عام 1438هـ (2017م)، دخلت مئات ملايين الدولارات إلى مناطق “قسد” عبر تمويل دولي ومشاريع تنموية، لكن لا أحد يعرف أين ذهبت.

لكن من يعيش في الرقة يرى الحقيقة: لا طرق معبّدة، لا بنى تحتية جديدة، لا مؤسسات شفافة، ولا رقابة. معظم العقود تُسلَّم لشركات يملكها مقربون من قيادات قسد. كل قطاع محكوم بدائرة مغلقة من المنتفعين. سألت الكثير من الناشطين “من أضاء هذا الشارع؟” أو من رمم هذا الأثر التاريخي؟” تأتي الإجابة أن “الفرنسيين” أو “البلجيكيين” هم من مول هكذا أعمال ومشاريع. معظم المباني الحكومية التي تم تدميرها من قبل قوات التحالف الدولي في حربهم على داعش عام 1438هـ (2017م)، قيل لي بأن التحالف اعطى الأموال اللازمة لإعادة اعمار تلك المباني. بدلا من ذلك، أقامت قسد مباني ضخمة عند مدخل الرقة الغربي، مسورة بالكامل ولايمكن من الاقتراب منها، وبعض الأبنية الأخرى على الطريق الواصل الى الجسر القديم على نهر الفرات. أما فيما يتعلق بالأبنية الحكومية القديمة والواقعة في شارع الاماسي، فلقد عاينتها بنفسي، أضحت مكبا للقمامة.

الأمن والسجون: قسد تحكم بالخوف… لا بالقانون

قد تبدو الرقة اليوم أكثر هدوءًا من سنوات الحرب، لكن هذا “الهدوء” هشّ، ومضلّل. فهو لا يعكس استقرارًا حقيقيًا، بل خوفًا مكتومًا يسود المدينة. ففي ظل حكم “قسد”، تحولت الحياة اليومية إلى معادلة خفية: كلما اقتربت من السياسة أو عبّرت عن رأيك، اقتربت من “الخطر الصامت”.

السكان يتحدثون عن شبكة معقدة من السجون والمراكز الأمنية، تشبه إلى حد كبير تلك التي عرفها السوريون لعقود في ظل نظام البعث، لكن بأساليب أقل علنية وأكثر غموضًا.

قال لي ناشط سابق، بصوت منخفض: “اعتُقلتُ لأنني كتبت منشورًا على فيسبوك. مجرد انتقاد صغير عن النظافة… قضيت شهرين دون تهمة، دون تحقيق، ودون أن يعرف أحد أين أنا.”

خارطة السجون في ظل “قسد”

ما لا يعرفه كثيرون خارج المنطقة هو أن “قسد” تُدير شبكة واسعة من السجون، بعضها رسمي، وبعضها سري، وبعضها الآخر لا يُعرف له مكان أو اسم. وفيما يلي قائمة جزئية بالسجون المعروفة حتى اليوم:

  • سجن الأحداث في الرقة: مخصّص كما يقال للقُصّر، لكنه يُستخدم أحيانًا لاحتجاز ناشطين لتجنّب إثارة الانتباه.
  • سجن الأقطان الجديد (الرقة) مركز اعتقال واسع وسري نسبيًا.
  • السجن المركزي في الرقة: يقال إنه يضم معتقلين دون لوائح اتهام.
  • سجن عايد: معروف بظروفه السيئة وتجاوزاته الأمنية.
  • سجن الطبقة المركزي وسجن المنصورة: يضمان معتقلين سياسيين، وبعض من لم تُثبت ضدهم تهم، لكنهم “غير مرضي عنهم”.
  • سجن كوباني (عين العرب): يُستخدم لأغراض أمنية خاصة، ويُحتجز فيه ناشطون أكراد يعارضون “قسد”.
  • سجن غويران المركزي في الحسكة: من أكبر السجون، وسبق أن شهد تمردًا واسعًا لسجناء تنظيم داعش.
  • سجن العزيزية، سجن النشوة، سجن القامشلي، سجن الهول، سجن الشدادي، سجن رميلان: لكل منها طابع خاص، لكنها تشترك في غياب الشفافية، وتعدد الانتهاكات، واحتجاز الأفراد لمدد غير محددة دون محاكمة.

إلى جانب هذه السجون المعروفة، هناك مراكز احتجاز تابعة لكل فرع أمني محلي (قسم أسايش، مركز استخبارات، أمن داخلي… إلخ)، وغالبًا ما تحتوي هذه المراكز على زنازين صغيرة مخصصة لما يسمّى “التحويل إلى القضاء”، لكن غالبًا دون قضاء فعلي.

الأخطر، بحسب شهادات بعض المعتقلين السابقين، هو وجود أقبية سرّية وسجون تحت الأرض، بعضها داخل مناطق مأهولة، وبعضها الآخر في مناطق معزولة تمامًا، لا تصلها الكهرباء أو الإنترنت، ولا يعرف أحد مكانها سوى الدائرة الأمنية الضيقة. هذه المرافق يُعتقد أنها تُستخدم لأخطر الملفات الأمنية، ولتنفيذ إعدامات أو تصفيات لا يُعلن عنها، تمامًا كما كان يجري في سجون النظام السوري.

تقنيات الاعتقال: نفس الأدوات القديمة، لكن بأسماء جديدة

شهادات متعددة من معتقلين سابقين، جميعهم طلبوا عدم ذكر أسمائهم، تؤكد أن أساليب الاعتقال والاستجواب لا تختلف كثيرًا عن تلك التي كانت تُمارس في عهد مخابرات النظام. الضرب، الحرمان من النوم، العزل الانفرادي، التهديد، الإهانة الشخصية، كلها موجودة.

الملفت أن كثيرًا من المعتقلين لا يُقدمون إلى محاكمة، بل يبقون في الحجز “الوقائي” أو “الإداري” لفترات قد تمتد إلى شهور، بناء على تقرير أمني أو وشاية شخصية.

أحد الشبان قال لي: “كنت أعمل مع منظمة مجتمع مدني، وخلال دورة تدريبية تم تصويري وأنا أتكلم عن الفساد. بعدها بأسبوع، اختفيت. لم يُوجهوا لي أي تهمة، فقط قالوا: نشاطك لا يناسب المرحلة.”

إعلام صامت… وقضاء غائب

لا يوجد إعلام مستقل في الرقة يمكنه تغطية هذه الانتهاكات أو طرح الأسئلة. كما لا يوجد قضاء حقيقي مستقل يمكن أن يراجع قرارات الاعتقال أو التحقيق.

حتى اللجان الحقوقية التابعة للإدارة الذاتية، إن وُجدت، لا سلطة تنفيذية لها. والأسايش تظل الجهة الأقوى، والأكثر تحكمًا، ولا تخضع للمحاسبة أو الرقابة.

السجن كأداة للهيمنة

في النهاية، لم تعد السجون في الرقة وسيلة لحفظ الأمن أو محاسبة الخارجين عن القانون، بل أصبحت أداة لإعادة إنتاج السيطرة. الصوت المختلف يُخنق، والكلمة تُراقَب، والصحفي يُلاحَق، والناشط يُختَفَى، والتهمة حسب أحد الناشطين “داعشي”.

وهكذا، باتت المدينة تعيش في ظل “رعب ناعم” لا يُرى في الشوارع، لكنه حاضر في كل بيت وكل هاتف وكل حديث.

[التنشئة الأيديولوجية.. ]

.. فرضت “الإدارة الذاتية” ما يُعرف بالدورات المغلقة، حول “فكر وفلسفة عبد الله اوجلان” وهي دورات إجبارية يخضع لها المعلمون والمعلمات، والموظفون والموظفات، وحتى بعض كوادر المجتمع المدني. الهدف المعلن هو “رفع الوعي”، لكن الحقيقة أنها منصات لتلقين فكر مؤسس حزب العمال الكردستاني، وإعادة إنتاج سردية واحدة، لا تقبل بالنقد أو التعدد.

أحد المعلمين قال لي: “طُلب مني حضور دورة مغلقة تستمر لمدة شهر عن فكر القائد. قلت لهم إنني لا امتلك الوقت، وطلبت التأجيل أكثر من مرة. وعندما استنفدت كل فرص التأجيل، لم ألتحق بالدورة، فما كان منهم إلا أن طلبوا مني تقديم استقالتي فورًا.”

هذا النوع من “الدورات الفكرية” بات شرطًا غير مكتوب للعمل في المؤسسات التعليمية والإدارية، وأحيانًا حتى في المنظمات المدنية المحلية. من لا يخضع، يُقصى. ومن يعترض، يُصنَّف على أنه “داعشي” أو تهم أخرى وفقا لطبيعة المتهم.

المجتمع المدني في الرقة: مؤمم بالكامل وتحت الرقابة الأمنية

إذا كانت السجون هي وجه القمع الخفي، فإن تجفيف المجتمع المدني هو أحد أذرعه الناعمة. ففي الرقة اليوم، لم يعد العمل المدني مستقلًا، ولا حتى ممكنًا، إلا باشتراطات تعجيزية. الجمعيات والمبادرات المحلية والدولية مجبرة على التنسيق مع “قسد” بكل ما تقوم به، ابتداء من اختيار المستفيدين، مرورًا بالمكان، وانتهاء بصيغة الإعلان.

قال لي أحد العاملين في منظمة تنموية محلية، مشترطًا عدم الكشف عن اسمه: “حتى لو أردنا إقامة دورة “تمكين مجتمعي” أو تدريب بسيط في الحوكمة، يجب أن نرسل كتابًا رسميًا، وننتظر موافقة الأسايش أو الاستخبارات. ويأتي الرد دائما بالرفض، والتعليل هو: “هذا عمل سياسي، عمل أحزاب، وليس من اختصاصكم”.

هذا الواقع دفع كثيرًا من الناشطين إلى تجميد عملهم، أو الاكتفاء بفعاليات شكلية لا تحمل أي مضمون حقيقي. لكن من اختاروا الاستمرار يحاولون المناورة ضمن هامش ضيق جدًا.

أحد النشطاء المدنيين في منظمة تعمل على تعزيز الوعي القانوني قال لي: “هم يعملون على تجهيل المجتمع، ونحن نعمل عكس ذلك. ولذلك، يعتبرون كل نشاط توعوي عملًا سياسيًا معاديًا.”

أغلب من تحدثت إليهم أكدوا أن الرقابة لا تقتصر على الأنشطة، بل تطال الأشخاص أنفسهم. في كل منظمة يوجد “عين أمنية”، ترفع تقارير عن طبيعة العمل، والأشخاص المشاركين، والممولين، وحتى طبيعة النقاشات الجانبية داخل الورش.

وهكذا، لم يعد المجتمع المدني في الرقة مساحة للتعبير أو للمبادرة، بل تحوّل إلى جهاز ملحق بالإدارة الأمنية، يعمل في إطار مرسوم سلفًا، ويُمنع تجاوزه تحت طائلة الاتهام بـ “التحريض” أو “العمل لأجندات خارجية”.

قال لي ناشط ثالث من منظمة محلية: “في كل مرة نريد تنظيم نشاط جديد، علينا أن نضع قفازات سياسية، ونختار كلماتنا بعناية، وإلا فسنُتّهم بتخريب الاستقرار. نحن نعيش في رقابة ناعمة لا تختلف كثيرًا عن أجهزة النظام القديمة.

”النتيجة؟ مجتمع مدني مشلول، يشتغل تحت السقف المسموح فقط، بلا حيوية، ولا استقلال، ولا قدرة على إحداث أثر حقيقي. كثير من الطاقات الشابة انسحبت، أو غادرت، أو اختارت الصمت. الرقة اليوم بلا حياة مدنية حقيقية، بل فقط “ديكور” لجذب تمويل خارجي يُعاد تدويره ضمن قنوات السلطة.

أين تذهب الرقة؟

لم يعد سكان الرقة منشغلين بالشعارات الكبرى عن الديمقراطية أو الفيدرالية أو حتى الانتخابات. أسئلتهم أبسط وأكثر إلحاحًا:

• لماذا لا تُنظّف شوارعنا؟

• لماذا تنقطع الكهرباء معظم اليوم؟

• لماذا يتولى إدارتنا أشخاص بلا كفاءة؟

• لماذا يختفي المعتقلون دون أثر؟

• ولماذا لا يرانا أحد؟

وأكثر عبارة تكررت على مسامعي خلال وجودي في المدينة كانت جملة قالها الكثيرون بلهجة عفوية “قسد مثل المستأجر المؤقت، يعرف أنه سيرحل بعد سنة أو سنتين، لذلك لا يصلح شيئًا في البيت.”

هذه ليست أسئلة سياسية نظرية، بل أسئلة حياة تمسّ تفاصيل العيش اليومي. ومع ذلك، تُجاب عادة بالصمت أو التجاهل، أو تُواجه بتصريحات دعائية لا تغيّر من الواقع شيئًا. الخطر هنا أن تراكم هذه الأسئلة بلا إجابة، وتحولها إلى همّ يومي مشترك، يفتح الباب أمام انهيار أي شرعية يمكن أن تدّعيها السلطة. فحين يعجز الناس عن الحصول على أبسط حقوقهم، لن يهمهم أي مشروع سياسي أو أيديولوجي يُفرض عليهم من فوق.

خاتمة: لماذا يكره الرقاويون “قسد”؟

عندما زارني وفد “قسد” في منزلي خلال إقامتي في الرقة، لم أُجمّل الحقيقة، ولم أستخدم كلمات دبلوماسية. قلتها كما سمعتها من الناس، ومن كل من التقيتهم من مختلف الطبقات والخلفيات:

“لم ألتقِ أحدًا يحبكم… الجميع يكرهكم.” وتابعت: “وهذا مؤشر خطير، هل تدركون معنى ذلك؟”.

لم يكن ذلك رأيًا سياسيًا، بل خلاصة ميدانية. هذا الكره الجماعي لم يأتِ من فراغ، بل هو نتاج ثمان سنوات من الإهمال، والتمييز، واحتقار الناس في تفاصيل حياتهم اليومية.

ربما تعتقد “قسد” أن استمرار الفوضى، وغياب البديل، يُطيل عمر سلطتها. وربما تراهن على تعب الناس، وعلى أن لا أحد يريد إعادة الانزلاق إلى الفوضى الأمنية. لكن الحقيقة الأعمق أن هذه الفوضى لن تحميها، بل تُنذر بانفجار قادم. فكل نظام أهمل الناس، وأهان كراماتهم، وسدّ أمامهم أبواب المستقبل، ظنًا أنه الأقوى، انهار حين لم يكن يتوقع.

سكان الرقة لا يحملون السلاح، ولا يهتفون في الشوارع. لكنهم يتحدثون، يتهامسون، يشتكون، يراقبون، ويعدّون الأيام.

الثقة مفقودة، والمشهد قاتم، ولكن الذاكرة حية… والناس، كما يقال، قد يصبرون، لكنهم لا ينسون.»


تنويه: اختصرنا بعض الفقرات دون الإخلال بالمعنى العام.

اشترك في نشرتنا البريدية للإطلاع على ملخص الأسبوع

Blank Form (#5)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

طالع أيضا