في التلال المتموّجة جنوبي بنغلاديش، حيث تتعانق غابات الخيزران مع رياح لا تهدأ، يمتد أكبر مخيم للاجئين في العالم إلى ما يفوق مدى البصر. مدينة من جدران منسوجة وأسقف بلاستيكية، وُلدت لا عن اختيار، بل عن اضطرار. موطن منفى أبدي، وأملٍ مثخن بالجراح، يأبى أن يزول.
في الصباح، يتجمّع الأطفال الحفاة في مراكز للتعلّم متناثرة بين أرجاء المخيم. فصول دراسية مشيدة من الخيزران والقماش المشمّع، مشرّعة للريح والشمس والمستقبل. تُدرَّس فيها الدروس بإمكانات شحيحة، غالبًا بقطعة طباشير وإرادة صلبة. لا امتحانات هناك، ولا شهادات، بل طموح هادئ لتعلّم القراءة والكتابة والحلم في عالم كثيرًا ما ينهى عن ذلك.

ورغم القيود المفروضة على التعليم النظامي، صارت هذه الزوايا المؤقتة جزرًا للخيال. هنا، يصبح الحرف فعل مقاومة، ويغدو كل لفظة مكتسبة خطوة في درب الكرامة.
يعتمد المخيم على المعونات: أكياس الأرز والعدس وزيت الطهو والحليب المجفف، تُوزَّع في طوابير طويلة تحت لهيب الشمس. لكنها لا تكفي، فقد تقلّصت الحصص، وصارت العائلات تمدّ قوتها على أيام، تمزجه بالصبر والصمت.
شحّ المياه النظيفة يخيّم على بعض المناطق، وأنظمة الصرف الصحي ترزح تحت عبء تعداد يفوق طاقتها وإمكانات أقلّ من أن تسد الحاجة. في هذا المكان، البقاء على قيد الحياة مفاوضة يومية.
الصحة من أوهن خيوط المخيم. العيادات مزدحمة، غالبًا تفتقر إلى التجهيزات. الأدوية تنفد، والمرضى ينتظرون ساعات طويلة تحت أسقف من الصفيح، فيما يكابد العاملون الصحيون معالجة كل شيء، من سوء التغذية إلى أمراض الجهاز التنفسي، ومن جراح الماضي إلى آلام الحاضر.
أمهات يقطعن الأميال وفلذات أكبادهن في أحضانهن، وشيوخ يجلسون في صمتٍ أرهقهم السؤال. الدعم النفسي موجود، لكن الحاجة أوسع بكثير من المتاح. فالألم هنا ليس جسديًا فحسب، بل دفين في الذاكرة، غارق في الفقدان والصمت.
الطقس في المخيم سيّد الموقف. في الصيف، يتحول المأوى إلى فرن خانق، وتذوب البلاستيكات تحت الشمس، وكل خطوة تثير غبارًا أشبه برماد حريق خفي.
ثم يحلّ موسم الأمطار، غاضبًا صاخبًا. تنهمر السماء في شلالات، تغرق الممرات وتهدم الأساسات. تنزلق التلال، وتتجمع العائلات في الأركان، بينما تختبر الرياح والمياه صلابة المساكن.
ويأتي الشتاء فلا يجلب إلا بردًا ينخر العظام، وأغطية واهية. ومع ذلك، مع كل فصل، يتأقلم الناس، لا لأنهم ينبغي أن يفعلوا، بل لأنهم مضطرون.

مع الليل، يتبدّل وجه المخيم. الظلام يحلّ باكرًا ويشتد في غياب الكهرباء عن معظم المناطق. مصابيح شمسية خافتة تومض على الأبواب، والهواء يهمس بأحاديث هادئة، وحرائق الطهو، وضحكات أطفال تلاحق النوم.
إنه وقت الحكايات، همسًا وذكرى، عن وطن مفقود، عن أنهار قديمة وحقول أرز ذهبية. بعضهم يذكره، وبعضهم وُلد بعيدًا عنه، لكنهم جميعًا يحملونه في صدورهم كفانوس مضيء.
والليل أيضًا يعيد الخوف—من المجهول، ومن الغد. لكنه يعيد كذلك شيئًا آخر: الدعاء، والسكينة، والمحبّة. فالحياة تمضي، حتى في العتمة.

لا ترف في هذه المخيمات، ولا يقين. ومع ذلك، هناك كرامة هادئة في طريقة استمرار الناس. امرأة تنسج الحصير من سعف النخيل، رجل يرمم السقف بعيدان الخيزران المستعملة، أطفال يصنعون ألعابهم من المهملات، وشباب يتطوعون في المراكز الصحية أو في تعليم الآخرين.
هذه ليست الحياة التي طلبوها، لكنها الحياة التي شيّدوها، معًا، يومًا بيوم، بشجاعة وُلدت من رحم الضرورة.
الناشط الأركاني رو ياسين.
اترك تعليقاً