تبني تقنيات الذكاء الاصطناعي عالميًا: تحليل مقارن للدول الرائدة والمتأخرة

photo 2025 07 03 08 31 25

مقدمة

أصبح الذكاء الاصطناعي محركًا أساسيًا للابتكار والنمو الاقتصادي في مختلف أنحاء العالم. ومع توسع تطبيقات هذه التقنية، برز تفاوت واضح بين الدول في مدى تبنيها واستخدامها للذكاء الاصطناعي. يهدف هذا التقرير إلى تقديم تحليل مقارن شامل لتبني تقنيات الذكاء الاصطناعي عالميًا، مسلطًا الضوء على الدول الرائدة في هذا المجال من حيث الاستثمار والبحث والتطوير ودمج الذكاء الاصطناعي في القطاعات الحيوية (مثل الصحة والصناعة والتعليم والأمن)، ومقارنة ذلك بدول لا تزال متأخرة أو محدودة في توظيف هذه التقنيات. كما يناقش التقرير الفجوة الرقمية الناتجة عن هذا التفاوت وتأثيرها على التنمية الاقتصادية، مستعينًا بأحدث الإحصائيات والبيانات المتاحة.

الدول الرائدة في تبني الذكاء الاصطناعي

تتصدر الولايات المتحدة والصين قائمة الدول الأكثر تقدمًا في مجال الذكاء الاصطناعي. فقد استثمرت هذه الدول مبالغ طائلة في تطوير تقنيات الذكاء الاصطناعي وبنيته التحتية، إلى جانب بناء منظومات بحثية وتعليمية قوية تدعم الابتكار في هذا المجال. على سبيل المثال، خلال السنوات الخمس الماضية يقدّر أن الولايات المتحدة أنفقت حوالي 328 مليار دولار على تقنيات الذكاء الاصطناعي – متفوقةً بذلك بفارق كبير على الصين التي قدّرت استثماراتها بنحو 133 مليار دولار خلال نفس الفترة. ويأتي بعدهما بفارق شاسع كل من المملكة المتحدة والهند ثم كندا وكوريا الجنوبية كأكبر المستثمرين عالميًا في هذا القطاع. يوضح الجدول التالي حجم الاستثمار في الذكاء الاصطناعي لدى أبرز الدول الرائدة:

الدولة إجمالي الاستثمار في الذكاء الاصطناعي خلال آخر 5 سنوات (مليار دولار أمريكي)
الولايات المتحدة  328.5
الصين  132.7
    المملكة المتحدة  25.5
الهند 16.1
كندا  12.5
كوريا الجنوبية  10.3

إلى جانب الاستثمارات الضخمة، تتمتع الدول المتقدمة بقدرات بحث وتطوير عالية في مجال الذكاء الاصطناعي. فالولايات المتحدة والصين معًا تنتجان الجزء الأكبر من الأبحاث العلمية وبراءات الاختراع المتعلقة بالذكاء الاصطناعي عالميًا. الصين تحديدًا تقود العالم في عدد براءات الاختراع والأوراق البحثية المنشورة في هذا المجال، في حين تبرز الولايات المتحدة بتطوير النماذج والخوارزميات الرائدة (وخاصة نماذج الذكاء الاصطناعي التوليدي) وبوجود بيئة ريادية تحتضن أبرز الشركات التقنية. كما أن دولًا أوروبية متقدمة مثل المملكة المتحدة وفرنسا وألمانيا إضافةً إلى اليابان وكوريا الجنوبية تسهم بشكل كبير في البحث والتطوير، مدعومةً بجامعات ومختبرات رائدة.

تعكس المؤشرات العالمية هذه الصدارة أيضًا. فوفقًا لمؤشر جاهزية الحكومات للذكاء الاصطناعي لعام 1445هـ (2024م)، تحتل الولايات المتحدة المرتبة الأولى عالميًا بدرجة تقارب 87 من 100، تليها الصين بدرجة نحو 82، ثم سنغافورة في المرتبة الثالثة بحوالي 81 نقطة. وتأتي بعد ذلك المملكة المتحدة والهند ضمن المراكز الخمسة الأولى. من اللافت أن دولًا صغيرة نسبيًا مثل سنغافورة والإمارات العربية المتحدة حققت مراتب متقدمة في هذه المؤشرات، بفضل استراتيجياتها الوطنية الطموحة واستثماراتها المركزة في بناء قدرات الذكاء الاصطناعي.

خصائص الدول الرائدة: تشترك الدول الأكثر تقدمًا في الذكاء الاصطناعي بعدة عوامل تدعم ريادتها، أبرزها:

  • إنفاق ضخم على البحث والتطوير والبنية التحتية الرقمية: توفر هذه الدول ميزانيات كبيرة لتمويل أبحاث الذكاء الاصطناعي وإنشاء مراكز متخصصة وتحديث البنية التحتية الحاسوبية (مثل الحوسبة السحابية وأشباه الموصلات المتقدمة).
  • توفر المواهب والخبرات التقنية: تستقطب الدول المتقدمة أبرز العلماء والمهندسين في مجال الذكاء الاصطناعي، سواء من خلال تطوير التعليم العالي STEM محليًا أو اجتذاب الخبرات العالمية. هذا التركيز على رأس المال البشري المتخصص يضمن استمرار التفوق البحثي والتطبيقي.
  • دعم حكومي واستراتيجيات وطنية واضحة: لدى معظم هذه الدول سياسات وطنية واستراتيجيات ذكاء اصطناعي شاملة تتضمن رؤى طويلة المدى. على سبيل المثال، أنشأت الإمارات أول وزارة للذكاء الاصطناعي، وأطلقت الصين خطة وطنية طموحة بقيمة 150 مليار دولار، كما خصصت دول أوروبية وآسيوية صناديق وتمويلات ضخمة لدعم الابتكار في المجال.
  • قطاع خاص قوي وشركات تقنية رائدة: تمتلك الاقتصادات المتقدمة شركات عملاقة تستثمر بكثافة في تطوير تقنيات الذكاء الاصطناعي (مثل شركات التكنولوجيا الكبرى في الولايات المتحدة والصين). هذه الشركات لا تطور حلولًا للاستخدام المحلي فحسب، بل تقود أيضًا سوق الابتكارات عالميًا من خلال منتجات وخدمات ذكاء اصطناعي متقدمة.
  • بنية تحتية رقمية متطورة: تتميز الدول الرائدة بشبكات اتصال عالية السرعة وانتشار واسع للإنترنت ومعدل مرتفع لاستخدام الحوسبة السحابية والبيانات الضخمة. هذه المقومات التقنية الأساسية تسهّل تبني الحلول المعتمدة على الذكاء الاصطناعي في مختلف القطاعات بسرعة وكفاءة.

دمج الذكاء الاصطناعي في القطاعات المختلفة بالدول المتقدمة

توظف الدول الرائدة تقنيات الذكاء الاصطناعي على نطاق واسع عبر مختلف القطاعات الحيوية، مما أحدث نقلة نوعية في طرق العمل والخدمات ضمن هذه المجالات:

قطاع الصحة: يشهد المجال الصحي في الدول المتقدمة اعتمادًا متزايدًا على حلول الذكاء الاصطناعي في التشخيص والعلاج. على سبيل المثال، وافقت هيئة الغذاء والدواء الأمريكية على 950 جهازًا طبيًا مدعومًا بالذكاء الاصطناعي بحلول عام 1445هـ (2024م) (مقارنةً بـ6 أجهزة فقط في عام 1436هـ (2015م)، مما يعني انتشار أدوات التشخيص المعتمدة على التعلم الآلي في المستشفيات والعيادات. في الصين، تُطبق تقنيات الذكاء الاصطناعي في حوالي 76% من المستشفيات لتحسين دقة التشخيص وسرعة تحليل الصور الطبية. كما تستخدم المملكة المتحدة خوارزميات الذكاء الاصطناعي في نظامها الصحي الوطني (NHS) لاكتشاف الأمراض مبكرًا وإدارة سجلات المرضى بكفاءة (حيث تبنى أكثر من نصف المستشفيات البريطانية تقنيات ذكاء اصطناعي لدعم خدماتها). هذه التطبيقات أدت إلى تحسين جودة الرعاية الصحية وتسريع عمليات اكتشاف الأمراض وتطوير الأدوية.

قطاع الصناعة: تعتمد الدول الصناعية المتقدمة على الذكاء الاصطناعي لأتمتة خطوط الإنتاج ورفع الكفاءة في سلاسل التوريد. تعتبر كوريا الجنوبية واليابان من أبرز الأمثلة في مجال التصنيع الذكي، حيث تمتلكان أعلى معدلات لكثافة الروبوتات الصناعية عالميًا (بعدد يقدّر بمئات الروبوتات لكل 10 آلاف عامل). تُستخدم أنظمة الذكاء الاصطناعي في هذه الدول لمراقبة الجودة بشكل لحظي في المصانع، والتنبؤ بالأعطال قبل وقوعها (الصيانة التنبؤية)، وكذلك لإدارة المخزون وعمليات التوريد بذكاء استنادًا إلى تحليل البيانات. وفي ألمانيا، التي تقود مبادرات “الصناعة 4.0″، تتبنى أكثر من نصف الشركات الصناعية تقنيات ذكاء اصطناعي في عملياتها، مما أدى إلى زيادة الإنتاجية وتقليل التكاليف عبر الأتمتة والروبوتات المتقدمة.

قطاع التعليم: استفادت المنظومات التعليمية في الدول الرائدة من تقنيات الذكاء الاصطناعي لتحسين أساليب التعليم والتعلم. تُوظَّف منصات التعلم الذكي والتطبيقات التكيفية لتقديم محتوى شخصي يناسب مستوى كل طالب، ولمساعدة المعلمين في تتبع تقدم الطلاب بشكل أدق. على سبيل المثال، انتشرت تطبيقات المدرّس الافتراضي والمساعد التعليمي الرقمي في مدارس الولايات المتحدة وعدد من الدول الأوروبية لتقديم الدعم الإضافي للطلاب خارج الصفوف التقليدية. إلى جانب ذلك، بدأت العديد من هذه الدول إدراج مفاهيم الذكاء الاصطناعي وعلوم البيانات في مناهج التعليم العام لإعداد الجيل القادم لوظائف المستقبل؛ فبحلول عام 1445هـ (2024م) أصبحت حوالي ثلثي الدول تدمج علوم الحاسب (بما فيها الذكاء الاصطناعي) في مقررات التعليم قبل الجامعي – وهو ضعف العدد مقارنة بعام 1440هـ (2019م). هذه الجهود التعليمية في الدول المتقدمة تهدف إلى سد فجوة المهارات وضمان توافر كوادر محلية قادرة على تطوير واستخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي.

قطاع الأمن والدفاع: تخصص القوى العالمية المتقدمة موارد هائلة للاستفادة من الذكاء الاصطناعي في تعزيز قدراتها الأمنية والدفاعية. الولايات المتحدة على سبيل المثال تستثمر بشكل مكثف في تطوير أنظمة أسلحة ذاتية التشغيل مدعومة بالذكاء الاصطناعي، وفي منصّات لتحليل البيانات الاستخباراتية الضخمة بهدف التنبؤ بالتهديدات وتعزيز الأمن السيبراني. كما تعتمد وكالات إنفاذ القانون في الولايات المتحدة وأوروبا على خوارزميات التعلّم الآلي لتحليل أنماط الجريمة وتوجيه موارد الشرطة بفعالية أكبر (ما يعرف بالشرطة التنبئية). من جانب آخر، نشرت الصين شبكات مراقبة ذكية واسعة النطاق تستخدم تقنية التعرف على الوجه وتحليل الفيديو الفوري في المدن، مما أدى إلى رفع مستوى المراقبة الأمنية (وإن أثار ذلك جدلاً حول الخصوصية). عمومًا، فإن استخدام الذكاء الاصطناعي في مجال الأمن والدفاع يمنح الدول المتقدمة تفوقًا تقنيًا في حماية حدودها ومصالحها، ويعزز قدرتها على التعامل مع التهديدات الحديثة في الفضاءين الواقعي والإلكتروني.

الدول المتأخرة والفجوة الرقمية

في المقابل، تواجه العديد من الدول النامية تحديات كبيرة في تبني واستخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي، مما أدى إلى ظهور فجوة رقمية واضحة بين الدول المتقدمة والدول الأقل تقدمًا في هذا المجال. لا تزال نسبة كبيرة من البلدان منخفضة ومتوسطة الدخل في المراحل الأولى من اعتماد الذكاء الاصطناعي، حيث تقتصر الاستخدامات غالبًا على مشاريع محدودة النطاق أو تجريبية، بينما تغيب تطبيقات الذكاء الاصطناعي واسعة الانتشار عن معظم القطاعات الحيوية في هذه الدول. تنعكس هذه الفجوة في المؤشرات الدولية بجلاء. فمعظم الدول التي تقع في ذيل الترتيب العالمي من حيث جاهزية الحكومات للذكاء الاصطناعي هي دول نامية تعاني من محدودية في الموارد والبنية التحتية. على سبيل المثال، سجلت دول مثل اليمن وجمهورية الكونغو الديمقراطية وجنوب السودان بعضًا من أدنى الدرجات على مؤشر جاهزية الحكومات للذكاء الاصطناعي (حوالي 15 درجة من 100 فقط في حالة اليمن)، مما يوضح مدى التحديات التي تواجهها هذه الدول في بناء قدراتها الرقمية.

العديد من البلدان الأقل نموًا تفتقر حتى إلى استراتيجية وطنية للذكاء الاصطناعي؛ إذ تشير بيانات الأمم المتحدة إلى أن أقل من ثلث البلدان النامية فقط لديها سياسات أو استراتيجيات رسمية في مجال الذكاء الاصطناعي. وبالإضافة إلى ذلك، يبقى صوت معظم تلك الدول خافتًا في الساحة الدولية لوضع سياسات وحوكمة الذكاء الاصطناعي – حيث أن 118 دولة (غالبيتها من العالم النامي) لا تتمتع بأي تمثيل يُذكر في المنتديات العالمية التي تناقش وضع أطر تنظيمية ومعايير للذكاء الاصطناعي.

هناك جملة من العوائق والعوامل التي أسهمت في تأخر هذه الدول عن ركب الثورة الرقمية والذكاء الاصطناعي، من أبرزها:

1- ضعف البنية التحتية الرقمية الأساسية: الكثير من الدول المتأخرة تفتقر إلى شبكات إنترنت موثوقة وسريعة تغطي كامل السكان، وتعاني من نقص في توفر الكهرباء والمعدات الرقمية في المؤسسات التعليمية والصحية. على سبيل المثال، لا يزال معدل انتشار الإنترنت في الدول منخفضة الدخل متدنيًا (فقط ربع السكان متصلون بالإنترنت في المتوسط)، مقارنةً بأكثر من 90% في الدول مرتفعة الدخل. هذا الضعف في البنية التحتية يجعل من الصعب تشغيل أنظمة الذكاء الاصطناعي التي تتطلب اتصالاً قويًا ومستقرًا وكميات ضخمة من البيانات.

2- نقص المهارات والخبرات البشرية المتخصصة: تعاني الدول النامية من فجوة في رأس المال البشري الماهر في تقنيات المعلومات عمومًا والذكاء الاصطناعي خصوصًا. إذ أن عدد خبراء تعلّم الآلة ومهندسي البيانات في هذه الدول محدود جدًا، وغالبًا ما تستقطب الدول الغنية المواهب المحلية فيما يُعرف بـ”هجرة العقول”. ضعف منظومات التعليم العالي والتدريب الفني في مواكبة أحدث التطورات التقنية يؤدي إلى نقص الكفاءات القادرة على تطوير أو حتى تطبيق حلول ذكاء اصطناعي في القطاعات المختلفة.

3- محدودية التمويل والاستثمار في التكنولوجيا: ترزح كثير من الدول المتأخرة تحت ضغوط تنموية تجعل الاستثمار في مجالات كالذكاء الاصطناعي أقل أولوية أو خارج المتناول. نصيب هذه الدول من الإنفاق العالمي على البحث والتطوير التقني ضئيل جدًا. كما أن الشركات الناشئة والمبتكرة في مجالات التقنية بهذه البلدان تواجه صعوبة في الحصول على التمويل اللازم، ما يؤدي إلى بيئة أعمال غير مواتية لتبني الحلول القائمة على الذكاء الاصطناعي. على سبيل المثال، يشير خبراء اقتصاديون إلى أن 100 شركة كبرى فقط (معظمها في الولايات المتحدة والصين) تستحوذ على حوالي 40% من إجمالي الإنفاق البحثي والتطويري الخاص بالذكاء الاصطناعي في العالم – مما يوضح هيمنة عدد قليل من اللاعبين الكبار وندرة الاستثمار في بقية الدول.

4- غياب الاستراتيجيات والسياسات الداعمة: بخلاف الدول المتقدمة التي تبنت استراتيجيات وطنية واضحة، تفتقر الكثير من الحكومات النامية إلى رؤى استراتيجية في مجال الذكاء الاصطناعي. البعض منها لا يزال يفتقد إطارًا تشريعيًا أو تنظيميًا ينظم عمل التقنيات الحديثة أو يشجع على تبنيها. هذا القصور في التخطيط الاستراتيجي يجعل جهود تبني التقنيات متفرقة وغير مستدامة. حتى على مستوى التوعية المجتمعية، هناك نقص في فهم صناع القرار والجمهور لفوائد الذكاء الاصطناعي وتطبيقاته، مما ينعكس سلبًا على الدعم المقدم لهذه المشاريع.

5- ضعف المشاركة في الحوكمة الدولية والتعاون العالمي: مع تسارع وضع قواعد ومعايير أخلاقية وتقنية للذكاء الاصطناعي على المستوى العالمي، لا تشارك معظم الدول النامية بفعالية في هذه العملية. وبالتالي قد تجد نفسها لاحقًا مجرد متلقٍ لقواعد أُقرّت دون مراعاة لاحتياجاتها الخاصة. عدم انخراط هذه الدول في الهيئات والمنصات الدولية المتعلقة بالذكاء الاصطناعي يحرمها من فرص التعلم من الآخرين ونقل المعرفة، ويجعلها تابعة بدلًا من أن تكون شريكة في تشكيل مستقبل التقنية.

ولتوضيح حجم الفجوة الرقمية، يبيّن الجدول التالي الفارق في متوسط جاهزية الذكاء الاصطناعي بين فئات الدول حسب مستوى التنمية:

فئة الدول متوسط مؤشر جاهزية الذكاء الاصطناعي (من 0 إلى 1)
الدول المتقدمة 0.68
الاقتصادات الناشئة0.46
الدول منخفضة الدخل 0.32

تؤثر هذه الفجوة في تبني الذكاء الاصطناعي على مسارات التنمية الاقتصادية بشكل عميق. فمن جهة، الدول التي تمكنت من إدماج الذكاء الاصطناعي في اقتصادها تجني بالفعل ثمارًا كبيرة على شكل زيادة في الإنتاجية وخلق فرص ابتكار جديدة. تشير إحدى الدراسات إلى أن الذكاء الاصطناعي قد يُساهم بحوالي 15.7 تريليون دولار في الاقتصاد العالمي بحلول عام 2030؛ لكن جزء الأسد من هذا العائد سيتركز في أمريكا الشمالية وشرق آسيا (خاصةً الصين)، بينما ستكون المكاسب أكثر تواضعًا في الدول النامية بسبب تبنيها البطيء للتقنية. بمعنى آخر، هناك خطر حقيقي أن يؤدي انتشار الذكاء الاصطناعي إلى اتساع الهوة الاقتصادية بين من يملكون التقنية ومن يفتقرون إليها.

الدول المتقدمة التي تزيد فيها معدلات اعتماد الذكاء الاصطناعي ستشهد على الأرجح نموًا اقتصاديًا أسرع وتحسنًا في كفاءة قطاع الأعمال الحكومي والخاص، في حين قد تتخلف الدول الأضعف رقميًا أكثر فأكثر مع مرور الوقت. ومن جهة أخرى, يمكن أن يؤثر بطء تبني الذكاء الاصطناعي سلبًا على الميزة التنافسية للدول المتأخرة. فعلى سبيل المثال، يعتمد الكثير من الاقتصادات النامية على وفرة الأيدي العاملة الرخيصة في مجالات التصنيع والخدمات كثيفة العمل. لكن مع أتمتة العمليات عبر الذكاء الاصطناعي والروبوتات في الدول المتقدمة، قد تفقد العمالة منخفضة التكلفة أفضلية السعر والإنتاج، مما يهدد قطاعات صناعية كاملة في الدول النامية ويقوّض قدراتها التصديرية وفرصها لجذب الاستثمارات.

وتشير تقارير الأمم المتحدة إلى أن التقنيات الذكية تميل إلى تعزيز العائد على رأس المال أكثر من تعزيزها للعائد على العمل البشري، مما يفاقم تفاوت الدخل. وبالفعل يُقدّر أن ما يصل إلى 40% من الوظائف عالميًا قد تتأثر بدرجة ما بالذكاء الاصطناعي والأتمتة خلال العقدين القادمين، وهو ما يستدعي تحركًا استباقيًا من الدول الأقل استعدادًا لضمان تأهيل عمالتها وتكيّف اقتصاداتها مع الواقع الجديد. رغم هذه الصورة المقلقة، هناك بوادر أمل في تقلص الفجوة الرقمية في المستقبل إذا اتُخذت خطوات جادة. فقد بدأت بعض الدول النامية الصاعدة تولي اهتمامًا أكبر بالذكاء الاصطناعي كتقنية استراتيجية لمستقبلها. على سبيل المثال، الهند تمتلك معدل تبنٍ مرتفع نسبيًا للذكاء الاصطناعي في قطاع الأعمال (تشير استطلاعات حديثة إلى أن حوالي 57% من الشركات المتوسطة والكبيرة في الهند تستخدم الذكاء الاصطناعي بشكل أو بآخر)، مما يعكس استثماراتها في هذا المجال ووفرة كوادرها التقنية.

كذلك تضخ دول الخليج العربي كالسعودية والإمارات استثمارات ضخمة لتطوير قدراتها في الذكاء الاصطناعي؛ حيث أعلنت المملكة العربية السعودية عن مبادرة بقيمة 100 مليار دولار لتعزيز البحث والتطبيقات القائمة على الذكاء الاصطناعي ضمن رؤيتها التنموية، وأنشأت الإمارات مراكز تميّز جامعية ومسرّعات أعمال متخصصة بالذكاء الاصطناعي. هذه التحركات تشير إلى إمكانية ردم الهوة جزئيًا إذا ما اتبعت بقية الدول النامية النهج ذاته بالاستثمار في البنية التحتية الرقمية وبناء القدرات البشرية والمشاركة في وضع قواعد الحوكمة العالمية.

في الختام، يمثل تبني تقنيات الذكاء الاصطناعي وتعميم استخدامها عالميًا ضرورة لتحقيق تنمية شاملة ومستدامة في عصر الاقتصاد الرقمي. إن تضييق الفجوة الرقمية بين الدول المتقدمة والمتأخرة يتطلب جهدًا دوليًا مشتركًا: استثمارات موجهة لبناء البنية التحتية في الدول النامية، ونقل المعرفة والتكنولوجيا إليها عبر الشراكات والتعاون، وصياغة سياسات وطنية تُعزز الابتكار المحلي وتحمي في الوقت نفسه المجتمعات من مخاطر التقنيات الجديدة. بهذا فقط يمكن ضمان أن فوائد ثورة الذكاء الاصطناعي ستعود على الجميع، وأنها لن تصبح سببًا في تعميق عدم المساواة بين دول العالم.

المصادر:

Essential AI Investment Stats Every Investor Must See

Stanford HAI’s 2025 AI Index Reveals Record Growth in AI Capabilities, Investment, and Regulation

Stanford Report: US Dominates Global AI Rankings

AI’s $4.8 trillion future: UN Trade and Development alerts on divides, urges action | UN Trade and Development (UNCTAD)

The State of AI: Global survey | McKinsey

The ‘AI divide’ between the Global North and Global South | World Economic ForumHow Many Companies Use AI? (New 2025 Data)

اشترك في نشرتنا البريدية للإطلاع على ملخص الأسبوع

Blank Form (#5)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

طالع أيضا