لقد رأينا بأم أعيننا كيف يتم تزييف الحقائق، وتعديل الشكل العام، بل أصبح الأطار الخارجي يُصاغ حسب أهوائنا، فكيفما شاءت اليد المالكة، نفذت التقنية كل المطلوب بالسمع والطاعة. من الرسم والآلوان، مروراً بمستحضرات التجميل، وصولاً ببرامج التعديل – فوتوشوب وأخيراً بالذكاء الاصطناعي، لا يخفي على أحد كيف تُعاد هيئة الإنسان وشكله، والذي يمكن تطبيقه على كافة جوانب الحياة، وليس على النمط الاجتماعي فحسب.
تُلخِّص هذه السطورُ حكايةً طويلةً عن قدرة البشر – والآلات من بعدهم – على ثَـنْيِ المعنى وكسر المرآة قبل أن تصل الصورة إلى عيوننا. فمن أوّل قصاصةٍ أُضيفت يدويًّا على لوحٍ زجاجي في القرن التاسع عشر، إلى خوارزمياتٍ تستطيع اليوم أن تُعيد كتابة ملامح العالم بضغطة زر واحدة، تمتدّ رحلةُ التلاعب بالخلفيّات والفلاتر والأشكال الزائفة؛ رحلةٌ بدأت بخدعٍ بصرية بريئة وانتهت إلى هندسةٍ دقيقةٍ للوعي الجمعي في عصر الذكاء الاصطناعي.


ما قبل الرقمنة: ظلالٌ تُعيد ترتيب المشهد
في ستينيات القرن التاسع عشر، أي بعد عقودٍ قليلة من اختراع التصوير، اكتشف المصوّرون أنّ للضوء وجهاً مُطاوعًا؛ فبدأوا يقصّون ويُلصقون ويُفرِّغون اللوحات الفوتوغرافية لتزييف وقائعَ سياسيةٍ واجتماعيةٍ وتذكارية. ولمّا استبدّ الخوفُ بالسلطة، عمد جوزيف ستالين إلى محو خصومه حرفيًّا من الصور الرسميّة؛ أشهرها حذف نيكولاي يِجوف من صورة على ضفاف نهر موسكفا، فأمست اللقطةُ شهادةً على كيفية تزوير التاريخ بالريشة الكيميائية والقصّ المقصود.
الثورة الرقمية: «فوتوشوب» يفتح الباب للجميع
حين أُطلق الإصدار 1.0 من «أدوبي فوتوشوب» في 19 فبراير 1990، لم يكن مجرّد برنامج بل وعدٌ بتعميم مهارةٍ احتكرتْها معاملُ التظهير لعقود؛ صار تعديل الألوان، وإزالة الأشخاص، وإضافة سماءٍ أكثر زرقة، إجراءٌ لا يستغرق إلا بضع نقرات. وهكذا انتقلت سلطةُ تشكيل الحقيقة من بضعة محترفين إلى ملايين المستخدمين، فابتُذِلَ التلاعب وصار جزءًا من صناعة الجمال والإعلان.
فلاتر الشبكات الاجتماعية: جمالٌ مفلتر وحقيقةٌ مُعاد تعريفها
مع بزوغ إنستغرام وسناب شات، صارت العدسةُ مرآةً «راغبةً» في الإطراء؛ تُراوغ التجاعيد وتُطوِّع الألوان بقوالب جاهزة. دراسةٌ حديثةٌ وجدت أنّ انخفاض احترام الذات يدفع المستخدمين للتمسّك بالفلترات كدرعٍ ضدّ التقييم السلبي. وباتت ظاهرة «سناب شات ديسمورفيا» – حيث يطلب بعض الشباب جراحاتٍ تجميليةً تُقارب صورهم المفلترة – قضيةً طبيةً واجتماعيةً مُلحّة.
حتى الخلفية الافتراضية في مكالمات «زووم» قادرةٌ على تغيير انطباعات الثقة والكفاءة، كما بيّن بحثٌ نُشر في PLOS ONE عام 2023. ولعلّ أبلغ مثالٍ على قوة الفلتر ما أثارته «Bold Glamour» في تيك توك عام 2023، إذ بدت البشرةُ بلا مسام، والعظام أرفع ممّا يحتمل الواقع، فاندلع نقاشٌ عالميٌّ عن معايير الجاذبيّة المصنوعة.
الذكاء الاصطناعي يُعيد كتابة الواقع: من GAN إلى الوسائط التركيبية
المنعطف الحاسم جاء في 2014 مع تقديم إيان غودفِلو لشبكات الخصومة التوليدية (GAN)، ما أتاح للحواسيب تعلّم «الحلم» بصورٍ لا أصلَ لها. وبحلول انتخابات 2024، صار القلق من «ديب فيك» سياسيٍّ مبرّرًا؛ تحليلٌ لمركز نايت وجد عشرات المقاطع المضلِّلة تحاول التأثير في القرار الانتخابي. ولاية مينيسوتا سنت قانونًا يُجرّم نشر مثل هذه المقاطع، لكن المنصّة «إكس» (تويتر سابقًا) سارعت إلى الطعن فيه أمام المحكمة الفيدرالية، بذريعة حرية التعبير.
ولأنّ القانون يركض خلف التقنية، أقرّ الاتحاد الأوروبي عام 2024 قواعدَ تُلزم بوضع ملصقٍ صريحٍ على المحتوى المُنشأ آليًّا، تمهيدًا لتطبيق شامل عام 2026. في المقابل تعمل مختبرات MIT وآخرون على أدواتٍ تمزج ذكاء الإنسان بالآلة لكشف الخدع بدقّةٍ أكبر.
وفي الخلفية، تتطوّر «حقول الإشعاع العصبي» (NeRFs) لتوليد مشاهدَ ثلاثيةِ الأبعادٍ واقعية، موسِّعةً هامش التضليل إلى الفضاء العميق.وفي برامج التحرير الشائعة ظهر «التعبئة التوليدية» من أدوبي، فأصبحت إزالة الأجسام أو استبدال السماء مُؤتمتةً وفق جملٍ نصيّة، ما أعاد إشعال النقاش حول حقوق الملكية وصدق الوثيقة البصرية.
الاقتصاد المفلتر: تجربة الشراء قبل أن تكون حقيقية
لم يعد خيال المرآة مقتصرًا على الوجوه؛ فمتاجر الأزياء تعتمد الآن خوارزميات «التجربة الافتراضية» التي تكسو جسدك بالثوب قبل أن تُسَدِّد ثمنه، كما تفعل منصّاتٌ ناشئة حصدت تمويلًا ضخمًا خلال 2025. وبينما تزيد هذه التقنية من كفاءة التجارة الإلكترونية، فهي توسّع كذلك هامش التزييف: فأنت ترى ما قد لا يكون قابلًا للتحقق على أرض الواقع.
أثر التشويه الجديد على الإدراك الجمعي
التقنية لا تُعيد تشكيل الصورة فحسب، بل تهندس التصوّر؛ إذ تشير دراسات علم النفس الرقمي إلى علاقةٍ وثيقةٍ بين كثافة استخدام الفلاتر وارتفاع معدلات القلق واضطراب تشوّه الجسد. وعلى المستوى السياسي، تُهدّد النسخ المُبهَرة أو المُفزِعة من الواقع بتقويض الثقة في أيّ وثيقةٍ مرئية، فيقع المواطن بين فكي التشكُّك الزائد أو التصديق الأعمى.
كيف نتحصّن؟
- تعليم محو الأمية البصرية: إدراج دروسٍ في المدارس والجامعات حول تاريخ التلاعب وأساليبه.
- تقنيات الكشف التعاوني: توظيف خوارزميات تحليل المصدر الضوئي والبصمة العصبية مع مراجعة بشرية، كما تقترح دراسات MIT.
- تشريعات متدرجة: تمييزٌ دقيقٌ بين المحتوى الساخر والمضلّل، وتغليظُ العقوبات على من يستهدف الأمن العام أو نزاهة الانتخابات.
- شهادات ثقة رقمية: حفْر بيانات المصدر وسِلسلة التعديل (provenance) داخل الملف الأصلي عبر بروتوكولاتٍ مثل C2PA، حتى يُتاح للمستهلك تتبُّع تاريخ الصورة.
خاتمة: مراياٌ تتكسّر وتلمع
قد يخدعُنا الفلتر فلا نعرف على أيّ وجهٍ نُسلِّم بأعيننا، لكنّ الخدعة في حدّ ذاتها ليست وليدة البرمجيات؛ إنّها استمرار لنوازع بشريةٍ قديمة: الرغبة في السيطرة على سردية الواقع. ومع كل ابتكارٍ يُكثّف لمعان المرايا ويُبدّل انعكاساتنا، يظلّ السؤال معلَّقًا في الهواء: هل سنمتلك الجرأة على مواجهة صورتنا الحقيقيّة حين تُزال الفلاتر كلّها؟
فالذكاء الاصطناعي، مهما علا شأنه، ليس كائنًا طليقًا خارجنا؛ هو صدىً مُضخَّمٌ لرغباتنا ومخاوفنا. وإذا كان قد وسّع نطاق التزييف، فهو يمنحنا في الوقت نفسه أدواتٍ أدقّ لكشفه. وبين المرآة والانعكاس، تبقى المسافةُ الفاصلة رهينة وعيٍ إنسانيٍّ حرّ، يختار – كلّ يوم – أيَّ نسخةٍ من الحقيقة سيُصدّق، وأيَّ خلفيةٍ سيُطوِّع لتكون مسرحًا لقصته القادمة.
المصادر:
Censorship of images in the Soviet Union – Wikipedia
Snapchat filters changing young women’s attitudes – PMC
Virtual first impressions: Zoom backgrounds affect judgements of trust and competence | PLOS One
اترك تعليقاً