“الجميع كانوا على علم” : الإبادة الجماعية المنسية في إقليم صوماليلاند

somaliland.png 1

في ظهيرة يوم صيف حار ورطب، كان بعض الصبية يلعبون كرة القدم على الأرض المسطحة الحمراء التي يحيط بها مجرى نهر مالكو دوردورو، وهو نهر موسمي جاف يقع على مشارف هرجيسا، عاصمة إقليم صوماليلاند الانفصالي.

للوهلة الأولى، بدت قطعة الأرض هذه كملعب نموذجي في هذه المنطقة القاحلة.

ولكن الأمطار الغزيرة التي كانت قد هطلت مؤخرًا كشفت عن سبب تسمية المنطقة ب “وادي الموت” – حول اللاعبون الصغار، كانت هناك مجموعة من العظام بشرية بارزة من الأرض.

ولكن هؤلاء الصبية بالكاد لاحظوا تلك العظام البارزة؛ فقد نشأوا وهم يلعبون كرة القدم محاطين ببقايا هياكل عظمية.

في الفترة ما بين عامي 1408 و1410هـ‍  (1987 و1989)، ارتكب نظام الدكتاتور الصومالي سياد بري مذبحة راح ضحيتها ما يقدر بنحو 200 ألف فرد من قبيلة إسحاق.

وفي ذلك الوقت، كان بعض أفراد قبيلة إسحاق يقاتلون من أجل الاستقلال، وللقضاء على التهديد، حاول سياد بري إبادتهم جميعًا.

ويقول الخبراء الآن إن هناك أكثر من 200 مقبرة جماعية في صوماليلاند، معظمها في المكان المسمى ب “وادي الموت”.

إن هذا العام يصادف الذكرى الثلاثين لما يطلق عليه عادة “محرقة هرجيسا”، عندما دُمر نحو تسعين في المائة من المدينة وقُتِل عشرات الآلاف من أفراد قبيلة إسحاق.

في الماضي، اعترفت بعض المنظمات الدولية بالمجازر.

وخلص تقرير للأمم المتحدة صدر في عام 1422/1421هـ‍ (2001) للتحقيق في الهجمات ضد قبيلة إسحاق إلى أن “جريمة الإبادة الجماعية خططت لها وارتكبتها حكومة الصومال ضد شعب إسحاق في شمال الصومال”.

ولكن الأحداث أصبحت في أغلبها طي النسيان؛ لذا فلم يكن الصبية الذين يلعبون كرة القدم يعرفون القصة وراء العظام.

وحتى في هرجيسا، لا يدرك كثيرون مدى الدعم الأميركي خلال الإبادة الجماعية.

فلم يعتذر، أو بعاقب، أي أمريكي قط عما حدث في أرض الصومال.

وكيل الحرب الباردة

تأسست دولة الصومال في 7 محرم 1380هـ‍ (1 يوليو 1960)، عندما نالت صوماليلاند البريطانية استقلالها عن بريطانيا وانضمت إلى جارتها الأكبر حجمًا إلى الشرق والجنوب، أرض الصومال الإيطالية.

وبعد تسع سنوات، تولى الجنرال سياد بري السلطة في انقلاب غير دموي، وقاد الدولة الناشئة نحو التقارب مع الاتحاد السوفييتي.

رحب السوفييت بوكيل جديد في منطقة القرن الأفريقي، خاصة والصومال تتمتع بموقع استراتيجي على طول أطول ساحل في أفريقيا

ولكن كل هذا تغير في عام 1397هـ‍  (1977)، عندما غزا بري منطقة أوغادين ذات الأغلبية الصومالية في جنوب شرق إثيوبيا.

وكانت إثيوبيا في السابق متحالفة مع الولايات المتحدة، ولكن بعد استيلاء المجلس العسكري الحاكم على السلطة في عام 1394هـ‍ (1974)، بدأ السوفييت في دعم الجارة الشيوعية للصومال.

واضطر السوفييت إلى الاختيار بين الحلفاء، فانحازوا إلى المجلس العسكري الحاكم، وأرسلوا الأسلحة والمستشارين العسكريين. كما قدم فيدل كاسترو الكوبي 13 ألف جندي إضافي، وصدت إثيوبيا الجيش الصومالي في عام 1398هـ‍ (1978).

في صفر 1401هـ‍ (يناير 1981)، زار وزير الخارجية الأميركي الأسبق هنري كيسنجر القصر الرئاسي في مقديشو، على أمل تعزيز العلاقات بين الولايات المتحدة والصومال.

وكان بري قد انتقد الرئيس جيمي كارتر لعدم دعمه لبلاده ضد السوفييت. ولكن كيسنجر نجح في إقناع الرئيس رونالد ريجان بالنظر إلى الصومال باعتبارها مسرحًا حاسمًا للمواجهة بين الولايات المتحدة والسوفييت.

وبعد عام واحد، قام بري برحلة إلى واشنطن العاصمة للقاء ريجان في المكتب البيضاوي.

وتظهر لقطات غير واضحة من اللقاء بري وهو يطلب المساعدة من ريجان. وقال لريغان: “الصومال لا يخاف من أي دولة أخرى في المنطقة، لكنه لا يستطيع التعامل مع قوة عظمى مثل الاتحاد السوفييتي”.

وقال باري إن الولايات المتحدة وافقت على مساعدة الصومال لأن ذلك “يصب في مصلحتها أيضًا”.

وفي ميزانية عام 1403هـ‍ (1983)، طلب ريغان 91 مليون دولار من المساعدات العسكرية والاقتصادية للصومال، بالإضافة إلى 18 مليون دولار أخرى من المساعدات الغذائية للاجئين.

وكان الناتج المحلي الإجمالي للصومال في ذلك العام أقل من 750 مليون دولار.

في ذلك الوقت تقريبًا، بدأ بول مانافورت، الذي أصبح رئيس حملة دونالد ترامب الرئاسية لعام 1437هـ‍ (2016)، تقديم خدماته لحكومة باري.

وفي عام 1400هـ‍ (1980) أسس مانافورت شركة الضغط “بلاك، مانافورت، ستون، آند كيلي” التي كانت لها علاقات وثيقة بالبيت الأبيض في عهد ريغان، وأثناء إدارة جورج بوش الأب.

وقالت ريفا ليفينسون، التي عملت مع مانافورت في الثمانينيات، أنها سألت في ذلك الوقت، “هل نحن متأكدون من أننا نريد هذا الرجل كأحد عملائنا؟” بدا مانافورت مضطربًا وأجاب: “نحن جميعًا نعلم أن باري رجل سيء … علينا فقط التأكد من أنه رجلنا السيء”.

كان مانافورت يتولى العلاقات العامة لصالح سياد بري حتى أثناء مذبحة قبيلة إسحاق.

وقالت ريفا أن بول أرسلها إلى الصومال، لإجبار سياد بري على توقيع عقد بقيمة مليون دولار؛ وكتبت ريفا في  صحيفةالواشنطن بوست في صفر 1439هـ‍ (2017) أن المهمة التالية كانت ” تنظيف سمعة سياد بري الدولية، وهو ما كان يحتاج إلى الكثير من الاهتمام”.

وبسبب عمل بول في مجال العلاقات العامة وتحالف البلاد المناهض للاتحاد السوفييتي، كانت الولايات المتحدة سعيدة بالتغاضي عن انتهاكات باري.

وبحلول عام 1408هـ‍ (1988)، كانت الولايات المتحدة قد قدمت لحكومته مئات الملايين من الدولارات من المساعدات العسكرية والاقتصادية، وأصبح باري معتمدًا بالكامل على الدعم الأمريكي.

الإبادة الجماعية والولايات المتحدة

لقد استهدف بري قبيلة إسحاق ومارس الاضطهاد ضدها لفترة طويلة، وفي عام 1401هـ‍ (1981) في لندن، تم تشكيل الحركة الوطنية الصومالية (SNM)، من قِبل معارضون من قبيلة إسحاق بشمل رئيسي، للإطاحة بحكم بري في شمال البلاد.

ورد بري على هذا التمرد بحملة عسكرية شرسة.

في عام 1408هـ‍ (1988)، ذكرت منظمة العفو الدولية أن نظام بري استخدم “الاعتقالات التعسفية على نطاق واسع، وسوء المعاملة والإعدامات بإجراءات موجزة” وتعذيب المشتبه في تعاونهم مع الحركة الوطنية الصومالية.

ووجدت المنظمة أن أولئك الذين عارضوا نظام بري، تم جمعهم وتقييدهم ونقلهم إلى أماكن مثل وادي الموت، حيث تم إطلاق النار عليهم ودفنهم في قبور مجهولة.

كان تدمير هرجيسا، أكبر مدينة في شمال الصومال، أحد أكثر محطات حملة الإبادة الجماعية وحشية.

ففي رمضان 1408هـ‍ (مايو 1988)، أرسل نظام بري طائرات مقاتلة لتدمير المدينة؛ وكان تدمير هرجيسا شاملاً إلى الحد الذي جعلها تكتسب لقب “دريسدن أفريقيا”.

وأسفرت عمليات القصف الجوي وهجمات القوات البرية عن مقتل أكثر من 40 ألف شخص.

كما تم تدمير مدينة بُرْعُو، ثالث أكبر مدينة في الصومال في ذلك الوقت وثاني أكبر مدينة في شمال الصومال.

أدى العنف المستمر ضد المدنيين من قبيلة إسحاق في 1408هـ‍ (1988) إلى أكبر أزمة لاجئين في العالم.

وفر أكثر من 300 ألف لاجئ إلى إثيوبيا، ووصل معظمهم إلى بلدة هارت شيخ الحدودية الصغيرة في إثيوبيا، والتي أصبحت أكبر مخيم للاجئين منذ عام 1408هـ‍ (1988) حتى إغلاقها في عام 1425هـ‍ (2004).

وقال سعد علي شيري، والذي شغل منصب وزير خارجية صوماليلاند سابقًا: “في عام 1408هـ‍ (1988)، عندما بدأت الحكومة في قصف هرجيسا وغيرها من المدن في أرض الصومال، كان الأمريكيون بالطبع أصدقاء لنظام سياد بري… لأسباب استراتيجية… وقد زودوا سياد بري بالأسلحة ـ وكانت الأسلحة تُفرَّغ في ميناء بربرة ـ وقد أفادت منظمة العفو الدولية ومنظمات حقوق الإنسان الأخرى في ذلك الوقت بذلك”.

وتوقف للحظة ثم قال: “لم تكن الولايات المتحدة متورطة بشكل مباشر في المعاملة اللاإنسانية التي تلقاها شعب صوماليلاند، ولكن مثل العديد من حلفاء النظام آنذاك، كانت يدها هناك بالطبع”.

ولم ترد البعثة الأميركية في الصومال على طلب التعليق.

لقد كانت الولايات المتحدة تعلم ما يجري، وظلت تدعمه.

وفي برقية نشرتها ويكيليكس في تلك الفترة وأرسلتها السفارة الأميركية في مقديشو، جاء: “كان العديد من النازحين (أي من آل إسحاق) ليعودوا إلى ديارهم منذ فترة طويلة لو لم تردعهم عن ذلك قوات الحكومة”.

وتابعت البرقية: “كان آل إسحاق، الذين يعانون من العطش والجوع والمرض وظروف المخيمات البائسة، يطالبون بالعودة إلى ديارهم”.

ولم تكن هناك مناقشة لخفض الدعم لبري مع استمرار الإبادة الجماعية.

ولكن مع تكثيف الولايات المتحدة لحملاتها الجوية في العراق وانتهاء الحرب الباردة، قررت الولايات المتحدة في نهاية المطاف إعادة توجيه مواردها بعيدًا عن حكومة بري، وإلى الشرق الأوسط.

وفي غياب الدعم الأميركي، انهارت حكومة الصومال.

في ذلك الوقت تقريبًا، في 4 ذو القعدة 1411هـ‍ (18 مايو 1991)، أعلنت الحركة الوطنية الصومالية استقلال الجزء الشمالي الغربي من الصومال وتأسيس جمهورية صوماليلاند، أو أرض الصومال.

العواقب الإنسانية

وبعد مرور ثلاثة عقود مضطربة، لا تزال تبعات الإبادة الجماعية تطارد الناجين.

أحد هؤلاء هو يوسف مير، الذي قطعت القوات الصومالية ذراعه اليسرى واختطفت وقتلت عائلته، وذلك خلال حملة قمع شنتها قوات بري عام 1408هـ‍ (1988) في مدينة بُرْعُو.

وهو ما دفعه إلى تكريس حياته لكشف حقيقة ما حدث في “وادي الموت”.

يعمل يوسف مع الناجين وعائلات المختفين، ويساعد أولئك الذين فقدوا، مثله، أناسًا لم يعودوا أبدًا من الحقول التي لاقوا فيها حتفهم.

وقال يوسف أن الولايات المتحدة، ببساطة، ليست مهتمة بالتنقيب عن الماضي، أو تمويل تحقيقات الطب الشرعي في صوماليلاند، وأنها تُفضل بقاء الحقيقة مدفونة.

أما إسماعيل عبدي، والذي شاهد في رمضان 1408هـ‍ (مايو 1988)، من نافذة دار الأيتام حيث كان يقيم، جنود بري وهم يعدمون عائلة، فإنه لا يزال يتذكر صوت صرخات الأطفال.

وأعرب عبدي عن أسفه لكون الشباب الآن لا يعرفون ما حدث، وقال إنه “يريد العدالة”.

في منتصف التسعينيات، قام أول رئيس لصوماليلاند، محمد حاج إبراهيم عقال، بتأسيس لجنة التحقيق في جرائم الحرب في صوماليلاند للعثور على المقابر الجماعية واستخراجها، وتوفير مراسم الدفن اللائقة للضحايا، واتخاذ إجراءات قضائية ضد المسؤولين عن عمليات القتل.

ولم تعرض حكومة الولايات المتحدة أي مساعدة.

وتعاني اللجنة من نقص التمويل بشكل مؤسف، وفقًا لخضر أحمد، رئيس اللجنة.

وهي تفتقر إلى الموارد اللازمة لإجراء تحقيق سليم، أو جمع الأدلة اللازمة لإجراء الملاحقات القضائية.

وعادة ما تحصل اللجنة على معلومات من السكان المحليين حول مواقع المقابر الجماعية، في حالة انكشاف عظام مدفونة جرّاء هطول الأمطار.

ولتنبيه المارة، يقوم الموظفون بوضع أكوام من الحجارة عليها علامات حمراء بجوار القبور.

تم تكليف اللجنة بالتحقيق في هذه القبور، ولكن بسبب محدودية الميزانية، يتم تحديد مواقع القبور، ولكن لا يتم حفر إلا القليل منها.

قامت اللجنة منذ تأسيسها باستخراج 11 مقبرة جماعية وإعادة دفن 318 هيكلاً عظميًا، بما في ذلك هيكل حديث في هرجيسا وآخر في بربرة.

ومع مرور الوقت، تضيع الأدلة.

يؤدي هطول الأمطار إلى اكتشاف هياكل عظمية جديدة، ولكنه يؤدي أيضًا، إلى تآكل العظام وجرفها.

على الرغم من أن حكومة الولايات المتحدة لم تقدم أي دعم، فقد تدخل مركز العدالة والمساءلة (CJA) ومقره سان فرانسيسكو، وقدم اللجنة إلى فريق أنثروبولوجيا الطب الشرعي البيروفي Equipo Peruano de Antropología Forense (EPAF)، بقيادة فرانكو مورا.

منذ عام 1433هـ‍ (2012)، قامت EPAF بحفر المقابر الجماعية في “وادي الموت” وأجزاء أخرى من أرض الصومال، للتعرف على أكبر عدد ممكن من الجثث وانتشالها.

كما أنهم يساعدون اللجنة في توفير عمليات الدفن المناسبة.

وقال مورا: “عملنا يقتصر على محاولة استعادة جثث المختفين، والتعرف عليهم، ودفنهم بكرامة”.

وقال أحمد إن المفوضية يتعين عليها أن تدفع المال إلى EPAF لحفر القبور، لكنه اشتكى من أن الحكومة لا تستطيع تحمل تكاليف القيام بذلك إلا مرتين في السنة على الأكثر.

وأضاف أنه مع وجود ما يقدر بنحو 200 موقع، “ليس لدينا القدرة على تنفيذ العمل بأنفسنا”.

وقال خضر إن العديد من القتلة يعيشون على مرأى من الجميع، في الولايات المتحدة، وكينيا، وكندا، وأماكن أخرى.

على سبيل المثال، تم تصوير الجنرال محمد سعيد هيرسي مورغان، في 26 جمادى الأول 1438هـ‍ (23 فبراير 2017)، وهو يشاهد تنصيب فرماجو رئيسًا في مقديشو، على ما يبدو كضيف.

ويعيش مورغان، المعروف باسم “جزار هرجيسا”، بحرية في كينيا منذ انهيار حكومة بري في عام 1412/1411هـ‍ (1991).

ويحمله العديد من سكان صوماليلاند المسؤولية عن تنفيذ إبادة قبيلة إسحاق؛ ففي عام 1408هـ‍ (1988)، ورد أنه أمر قواته “بقتل كل شيء باستثناء الغربان”.

ومع ذلك، كان سعيد لا يزال يتلقى دعوات لحضور فعاليات سياسية في مقديشو حتى 1440هـ‍ (2018).

ويصر أهالي صوماليلاند أنه لا يمكن لأي شخص كان على علاقة بالحكومة الصومالية في عام 1408هـ‍ (1988) أن يزعم أنه لم يكن يعلم بما يجري.

وقال سعد: “أعتقد أن الجميع كانوا على علم بما كان يحدث؛ وربما لم تكن لديهم الصورة الكاملة لما كان يحدث، ولكن حقيقة أن نظام سياد بري كان وحشيًا وقتل العديد من المدنيين كانت معروفة للجميع… ولكن في بعض الأحيان تغض القوى الكبرى الطرف عن الأمر”.

اشترك في نشرتنا البريدية للإطلاع على ملخص الأسبوع

Blank Form (#5)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

طالع أيضا