دخل الموظفون الحكوميون في اليمن شهرهم الرابع دون استلام رواتبهم، رغم الوعود الحكومية المتكررة بإصلاح الاختلالات المالية وضبط عملية الصرف. وبينما أعلن رئيس الوزراء، في الحكومة المعترف بها سالم بن بريك، عن خطوات للحد من الفساد وترشيد النفقات، يجد الموظفون أنفسهم اليوم أمام واقع معيشي خانق، وفي مقدمته المعلمون الذين يواجهون شللاً حقيقيًا في حياتهم اليومية.
في كل صباح، يحمل المعلم كتبه ودفاتره متجهًا إلى فصله الدراسي، لكنه يحمل أيضًا همًا أثقل من حقيبته: أربعة أشهر بلا راتب. مشهدٌ يتكرر في حياة عشرات الآلاف من موظفي الدولة الذين وجدوا أنفسهم في مواجهة العجز المالي واليأس المتنامي من الوعود الرسمية.
“من الوعود إلى الفوضى”
عندما أعلن رئيس الوزراء عن إجراءات لمعالجة الاختلالات المالية، استبشر الموظفون خيرًا بانتظام المرتبات وطي صفحة الأزمات السابقة. بدأ وكأن نافذة أمل قد فُتحت أخيرًا بعد سنوات من التعثر، غير أن تلك الوعود لم تدم طويلاً، إذ تحولت إلى عبء إضافي تصدّعت معه معيشة الأسر واهتزّت معه العملية التعليمية، لتبدأ التساؤلات تتصاعد حول جدوى الخطوات الحكومية ومصير الرواتب المتأخرة.
خطوات لم تكتمل تحولت إلى أزمة
أصدر رئيس الوزراء سلسلة من التدابير شملت تشكيل لجنة وطنية لتنظيم الواردات، وحظر التعامل بالعملات الأجنبية في السوق المحلية، وتوجيهات بترشيد الإنفاق وتوريد الإيرادات إلى الحساب المركزي، إلى جانب تفعيل الرقابة على الأسواق ومراجعة الموازنات العامة.
غير أن هذه الإجراءات التي بدت في ظاهرها محاولة جادة لضبط الصرف، لم تنعكس على أرض الواقع، إذ دخل الموظفون شهرهم الرابع بلا أجور، ما جعلهم يواجهون أزمة معيشية حقيقية تنذر بانهيار الثقة في مؤسسات الدولة.
كيف يعيش الموظف اليمني؟
يواجه آلاف الموظفين الحكوميين، وفي مقدمتهم المعلمون، ضغوطًا معيشية غير مسبوقة. كثيرون اضطروا للاقتراض أو العمل في مهن إضافية لتأمين احتياجات أسرهم، بينما يعاني آخرون من العجز عن توفير المتطلبات الأساسية لأطفالهم.
في المدارس، يواصل المعلمون أداء واجبهم رغم الظروف الصعبة، غير أن نقابة التربويين أعلنت الإضراب احتجاجًا على تأخر الرواتب. وقد انعكس هذا الوضع على جودة التعليم؛ إذ بات المعلمون يوزّعون وقتهم بين التدريس والعمل في مهن أخرى، ما أدى إلى تراجع انتظام الدروس وانخفاض الحضور في عدد من المحافظات.
“40 عامًا من المعاناة في أربعة أشهر”
المعلم عبدالقوي الشيباني، الذي يعاني من إعاقة جسدية، يصف الأشهر الأربعة الماضية بأنها “أربعون عامًا من المعاناة”.
يقول الشيباني في حديث لـ”يمن مونيتور”، إن حياته تحولت إلى صراع يومي من أجل البقاء، وإنه عاجز عن شراء أبسط احتياجات أطفاله مثل دفتر مدرسي أو كيلو سكر، مضيفًا أنه اضطر لاستخدام هاتف أحد أصدقائه للتواصل بعد أن عجز عن شراء بطاقة إنترنت، بينما تتراكم عليه ديون البقالة يومًا بعد آخر.
ويضيف بأسى: “إعاقتي تحرمني من أي فرصة عمل إضافية تخفف العبء، ما جعلني أعيش أزمة نفسية خانقة تتجاوز البعد المادي إلى الإنساني”.
ويختتم حديثه برسالة للحكومة قائلاً: “في كل بلاد العالم يُكرَّم المعلم ويُعزّز، إلا في اليمن حيث يُهان ويُذل. لكن هذا الظلم لن يدوم، وسيشرق فجر العدل والإنصاف مهما طال ليله”.
“انعكاسات الأزمة على التعليم والخدمات”
تجاوزت آثار انقطاع الرواتب حدود الحياة المعيشية للأفراد، لتصيب مؤسسات الدولة بالشلل. ففي المدارس، تقلّصت قدرة المعلمين على الالتزام بالدوام الكامل، وفي المراكز الصحية والخدمية انخفض مستوى الأداء والالتزام.
ويرى خبراء أن استمرار الأزمة من دون حلول جذرية سيؤدي إلى انهيار تدريجي في الخدمات العامة التي يعتمد عليها ملايين المواطنين، في وقتٍ تتسع فيه الفجوة بين الدولة وموظفيها.
“وعود متكررة دون تنفيذ”
رغم الوعود الحكومية المتكررة بإيجاد حلول عاجلة، إلا أن شيئًا لم يتحقق فعليًا. يقول أمين المسني، مدير نقابة التربويين في تعز، في حديثه لـ”يمن مونيتور”: “بعد أكثر من عشرين مسيرة ووقفة احتجاجية ووعود حكومية بلا تنفيذ، ما زلنا نطالب بحقوقنا المشروعة وصرف رواتبنا المتأخرة. خاطبنا الجهات المالية والسلطة المحلية مرارًا، لكن الأمر اقتصر على وعود لم تُنفذ.”
وأضاف المسني أن النقابة كانت تعوّل على وعود رئيس الوزراء سالم بن بريك، غير أن الرواتب انقطعت منذ توليه المنصب وحتى اليوم. وأشار إلى أن آخر إجراء رسمي كان مذكرة رفعتها المحافظة عقب إعلان الإضراب، لكنها لم تتبع بخطوات عملية أو تنفيذية ملموسة.
“شكاوى من ممارسات تعسفية”
إلى جانب أزمة الرواتب، تحدث المسني عن ممارسات وصفها بـ«التعسفية» طالت عدداً من المعلمين ومديري المدارس.
وقال إن النقابة رصدت تغييرات إدارية تعسفية في مديريات الشمايتين والصلو، شملت إقالة خمسة مديري مدارس، ثلاثة منهم قدموا شكاوى رسمية، كما وردت بلاغات عن ضغوط وتهديدات ضد معلمين في المدينة والريف، إلى جانب فرض جبايات ورسوم تسجيل إضافية على أولياء الأمور.
“مناشدات وتصعيد مرتقب”
أدى استمرار تأخر صرف الرواتب إلى موجة مناشدات للجهات الحكومية، تبعها تنفيذ إضرابات وتعليق جزئي للدراسة في عدد من المدارس.
وقال المسني إن النقابة دعت إلى “الوحدة في الموقف وممارسة الحق القانوني بالإضراب حتى صرف الرواتب المتأخرة”، محذرًا من أن “الصبر له حدود، وتجاهل مطالب المعلمين سيقود إلى تصعيد لا رجعة عنه”، مؤكداً أن “كرامة المعلم لا تُهان”.
“متابعات مستمرة من مكتب التربية”
من جانبه، أكد مدير إعلام مكتب التربية والتعليم بمحافظة تعز، محمود طاهر، أن أزمة تأخر الرواتب لا تقتصر على تعز، بل تشمل معظم المحافظات الواقعة تحت سيطرة الحكومة الشرعية.
وقال طاهر لـ”يمن مونيتور”: “القضية تتجاوز صلاحيات أي جهة محلية، وتتطلب حلولًا على المستوى الحكومي المركزي. مكتب التربية يتابع الملف بشكل مستمر مع الجهات المختصة، ورفعنا مذكرات رسمية وعقدنا لقاءات متعددة في العاصمة المؤقتة عدن لتسريع صرف المرتبات وانتظامها.”
وأضاف أن المكتب يقدّر التزام المعلمين وشعورهم العالي بالمسؤولية، لكنه حذر من أن استمرار الأزمة سيترك آثارًا سلبية حتمية على جودة التعليم.
وفي تعليقه على دعوات الإضراب، شدد طاهر على أهمية الحوار والتنسيق بين النقابات التعليمية والجهات الرسمية، داعيًا إلى مراعاة استمرار العملية التعليمية وتحقيق التوازن بين الحقوق والواجبات.
وقال إن المكتب “يعمل على حشد الجهود المجتمعية لدعم استمرار التعليم بالتعاون مع السلطات المحلية والمنظمات الداعمة والمبادرات التطوعية”، مؤكدًا أن متابعة صرف المرتبات ستظل أولوية لضمان استقرار العملية التعليمية.
“أزمة تتجاوز الاقتصاد إلى الكرامة”
تتواصل أزمة الرواتب في مناطق الحكومة الشرعية وسط غياب حلول جذرية وتبادل للاتهامات بين الجهات المالية والإدارية، وبينما يواصل المعلمون والموظفون أداء واجبهم تحت ضغط الحاجة، تظل العملية التعليمية مهددة بالتوقف الكامل إذا استمر التجاهل الحكومي.
لقد تجاوزت القضية حدود الاقتصاد، لتتحول إلى قضية كرامة وإنسانية، ومعها تتآكل ثقة الموظفين في الوعود الرسمية يومًا بعد آخر.
إن تجاهل هذه الأزمة لم يعد مسألة مالية أو إدارية فحسب، بل تحوّل إلى قضية إنسانية تمسّ جوهر العدالة الاجتماعية وثقة المواطنين في مؤسسات الدولة. فالمعلّم الذي يصنع الأجيال لا يمكن أن يظل رهينة الوعود المؤجلة، ولا يُعقل أن تستمر العملية التعليمية في ظل حرمان كوادرها من أبسط حقوقهم. ويبقى السؤال الذي يردّده الجميع: إلى متى ستبقى وعود المعالجات حبراً على ورق؟


اترك تعليقاً