في دير الزور، لم تعد شوارع المدينة مجرد مسارات يومية، بل أصبحت ساحات مواجهة بين الأهالي والخوف المستتر. الأطفال، الذين يفترض أن يكونوا الأكثر أمانًا، أصبحوا اليوم الهدف الأسهل لعصابات مجهولة، تحيط بهم المخاطر من كل جانب. وخلال الأشهر الماضية، رصدت شبكة نهر ميديا حالات اختطاف ومحاولات خطف عديدة، انتهى بعضها بدفع فدية، فيما بقيت حالات أخرى طيّ الكتمان.
الوضع لم يأتِ صدفة؛ فالمحافظة تعاني من انفلات أمني حقيقي، تنتشر فيه خلايا متفرقة تعود لفلول النظام السابق، كما تنشط مجموعات مرتبطة بقوات سوريا الديمقراطية (قسد) وتنظيم داعـ.ـش، بينما تجعل المساحات الواسعة من البادية السورية حتى الحدود العراقية والمناطق المتنازع عليها من ضبط الأمن تحديًا شبه مستحيل. هذا الواقع أضاف بُعداً جديداً للجريمة، إذ أصبح كل شيء مرتبطاً بالعملة الصعبة، وأي تأخر أو مقاومة قد يكلّف الطفل حياته.
في هذا التحقيق، نفتح ملف جرائم اختطاف الأطفال في دير الزور، نروي شهادات الأهالي، ونكشف جوانب الانفلات الأمني الذي جعل المحافظة مسرحًا سهلاً للجريمة، في محاولة لدق ناقوس الخطر ودعوة الجهات المعنية لاتخاذ إجراءات عاجلة لحماية الأبرياء.
مفاوضات معقدة
تعرّض الطفل (ع.ن) في بلدة غرانيج الواقعة ضمن مناطق سيطرة “قسد” شرقي دير الزور لجريمة اختطاف قرب منزله في أول أيام شهر مايو. ووفقًا لشهادة عائلته، أرسل الخاطفون مقاطع فيديو يُظهرون فيها تعذيب الطفل، مطالبين ذويه بدفع مبلغ مالي مقابل إطلاق سراحه. ورغم محاولات الأسرة التواصل مع الجهات الأمنية، سواء التابعة لـ”قسد” أو للحكومة، لم تُسفر الجهود عن أي نتيجة.
وبعد نحو أربعة أشهر، اضطرّ أهله إلى دفع مبلغ قدره 150 ألف دولار أمريكي، جُمِع من أقارب الطفل المقيمين في الخارج، ليُطلق سراحه في شوارع مدينة دير الزور. وذكر أحد أقارب الطفل أن الخاطفين تعمّدوا ارتداء حذاء عسكري في الفيديوهات لإيهام الأسرة بأن الطفل محتجز لدى جهة عسكرية، ما زاد من صعوبة تحديد مكانه وحماية حياته.
تعرّض الطفل (ح.ر) من أبناء بلدة الكشكية لمحاولة اختطاف قرب أحد المعابر النهرية في منتصف يونيو. وبحسب إفادة الطفل وأسرته، قامت سيدة مجهولة بتغطية فمه بقطعة قماش، ليجد نفسه بعدها على الضفة الأخرى من المعبر في منطقة صبيخان شرقي المحافظة. وعند استيقاظه، بدأ بالصراخ طلبًا للنجدة، فتمكن الأهالي من الوصول إليه وإفشال العملية، فيما هربت السيدة من المكان. وقد أثارت الحادثة حالة من الخوف بين الأهالي الذين شددوا على ضرورة توخي الحذر قرب المعابر النهرية ومراقبة تحركات الغرباء.
وفي مدينة القورية، أقدم شخص مجهول يستقل دراجة نارية على اختطاف الطفل (ص.ه) من أمام منزله في أواخر يوليو. وقد رصدت كاميرات المراقبة العملية بالكامل، ما ساعد على تحديد هوية الخاطف ومتابعة مساره. وبعد ساعات قليلة، عُثر على الطفل في شوارع مدينة دير الزور، ويُرجَّح أن الخاطف أطلق سراحه بعد معرفة أن الكاميرات التقطت صورته. وتُظهر الحادثة أهمية تعزيز المراقبة في المناطق السكنية والاعتماد على التكنولوجيا لحماية الأطفال من محاولات الاختطاف.
كما تعرّض الطفلان (أ.د) وشقيقته من أبناء بلدة الشنان لمحاولة اختطاف قرب بادية الشنان شرقي دير الزور في نهاية أغسطس. وتواصل الخاطفون مع العائلة مطالبين بمبلغ مالي كبير. وبعد التفاوض، تم دفع جزء منه ليُفرج عن الطفلين بسرعة. وأشار أحد أقارب الطفلين إلى أن والد الأطفال اضطر لدفع المبلغ في اليوم ذاته خشية تعرض ابنته لمخاطر إضافية أو الإضرار بسمعتها. وأدت الحادثة إلى حالة من الرعب بين سكان البلدة، إذ أصبح الأهالي يتحسبون لأي سيارة أو متسولة يُشتبه بصلتها بمحاولات الخطف، ما يعكس حجم الانعكاسات النفسية والاجتماعية لهذه الجرائم.
قلق متواصل
تقول أماني محمود (32 عامًا)، وهي أم لطفلين من حي الحميدية بمدينة دير الزور: “لم يكن الخوف على الأطفال بهذا الشكل من قبل. اليوم، أي خبر عن محاولة خطف يجعل قلوب الأمهات ترتجف. أصبح خروجي مع أطفالي مهمة مرهقة؛ أراقبهم خطوة بخطوة، ولا أسمح لهم باللعب في الشارع وحدهم كما كانوا يفعلون سابقًا. كثيرًا ما أضطر لإلغاء زيارات أو مواعيد خوفًا من أي طارئ. وما يزيد قلقنا هو غياب دوريات واضحة أو إجراءات تطمئن الأهالي. أشعر وكأن سلامة أطفالي مسؤولية شخصية بالكامل، وهذا عبء كبير على أي أسرة.”
وفي حالة مشابهة، يقول حمود العلي (42 عامًا)، وهو يجلس أمام منزله الطيني في قرية الحوايج شرقي المحافظة، يراقب أطفاله يلعبون قرب الباب: “الريف هادئ عادة، لكن الهدوء لا يعني الأمان. نعيش هنا على السمع، وكل خبر يصل ينتشر بسرعة. مؤخرًا صرتُ أحرص على أن يكون أولادي تحت نظري طوال الوقت، وحتى عندما يذهبون إلى المدرسة لا يتوقف قلقي حتى يعودوا. أكثر ما يخيفني أن الطفل لا يستطيع التمييز بين الغريب والجار، خاصة في القرى حيث الجميع يمرّ أمام البيوت وكأنهم أهل. نحن نربّي أولادنا على الطيبة، لكن هذه الطيبة أصبحت تُقلقني. أحيانًا أفكّر أن الخطر قد يأتي من حيث لا نتوقع.”
تحديات أمنية
قيّمت جهة حكومية مختصة لـ”نهر ميديا” وضع حالات خطف الأطفال في المحافظة خلال الفترة الأخيرة، مشيرةً إلى أنّ ازدياد هذه الحالات يعود إلى مجموعة من الأسباب المتداخلة، أبرزها إهمال بعض الأهالي، وعدم توفر عدد من الخدمات الأساسية، إضافة إلى التحديات الأمنية وانقطاع التيار الكهربائي، فضلًا عن خروج الأطفال في أوقات غير مناسبة دون رقابة كافية، وهو ما يستدعي رفع مستوى الوعي والمسؤولية لدى ذويهم.
وأوضحت الجهة أن الأجهزة الأمنية تتعامل بجدية مع جميع البلاغات الواردة، مستشهدةً بحادثة خطف الطفل (ع.ي)، حيث أقدم الخاطفون على تركه لاحقًا بالقرب من كازية الدهموش في مدينة دير الزور. وبيّنت أن بعض المناطق التي تشهد مثل هذه الحوادث تُعد مناطق حدودية وغير مستقرة أمنيًا، ولا سيما مناطق شرق وغرب نهر الفرات، التي توصف بأنها مناطق حساسة تشهد بين الحين والآخر توترات أمنية واشتباكات وردات فعل من قبل قوات “قسد” والميليشيات التابعة لها، ما يسهم في زعزعة الاستقرار ويؤثر على الواقع الأمني العام.
كما لفتت الجهة إلى أن الدوافع المالية تُعد من العوامل الرئيسية التي تقف وراء ازدياد حالات الخطف، حيث تركز الخاطفون في الفترة الأخيرة على العائلات العائدة من خارج البلاد، مستغلين أوضاعهم المعيشية وظروف عودتهم، كما حدث في حالة الطفل (ع.ي) الذي كانت أسرته قد عادت مؤخرًا من ألمانيا، الأمر الذي جعلهم عرضة للاستهداف بدافع الطمع المادي.
وبيّنت أن أساليب الخطف تعددت وتطورت، مؤكدةً أن من يقدم على خطف طفل غالبًا ما يكون مدفوعًا بدوافع مادية بحتة، مع غياب تام للوازع الأخلاقي، مشيرةً إلى تسجيل حالات شاركت فيها نساء بتنفيذ عمليات الخطف عبر استدراج الأطفال بوسائل مغرية، كإعطائهم الحلوى أو السكاكر، ثم اقتيادهم بعيدًا عن ذويهم.
تُظهر حوادث اختطاف الأطفال في دير الزور هشاشة الحماية الأمنية والاجتماعية وما يترتب على ذلك من خوف دائم بين الأهالي، خاصة تجاه أبنائهم. وكل حادثة تؤكد أن الأطفال أكثر الفئات عرضة للخطر، وأن التأخر في التدخل أو ضعف الرقابة يضاعف المخاطر ويزرع القلق في حياة الأسر.
وتكشف الوقائع الحاجة الملحّة لتعاون متكامل بين الجهات الأمنية والمجتمع المدني، إلى جانب برامج توعية للأطفال والأهالي حول سُبل الوقاية من الاختطاف، وضرورة تطوير آليات متابعة فعّالة تشمل الرصد والمراقبة والتدخل السريع، مع ضمان محاسبة المتورطين قضائيًا لإعادة الثقة والأمان للمجتمع.
المصدر: نهر ميديا.




اترك تعليقاً