الذكاء الاصطناعي والإعلام: بين إشراقات الثورة وتحديات التوازن
في عصر تعيد فيه التكنولوجيا واقعنا، على الجهة الأخرى يبرز الذكاء الاصطناعي كعملاق جديد من أعمق التحولات التي طالت حيز الإعلام وصناعته كفاعلٍ جوهريٍ يُعيد تعريف مفهوم الإنتاج، والتوزيع، وحتى استهلاك المحتوى. لم يعد تقنيةً عابرةً تمر مرور الكرام بإنتاجها لبعض الصور الترفيهية أو النصوص، بل أصبح بين الفرص والتحديات، فمنذ أن بدأت الأخبار تُكتب بخط الآلة والمحتوى يُصنّف وفق أبنائها من الخوارزميات، صار لزاماً على كل إعلامي أن يفهم هذه الثورة ليس كخط يهدد مهنته، بل كفرصة لإعادة تمركز دوره في عالم يتسارع نحو التعقيد.
الثورة الخفية: مجالات الذكاء الاصطناعي في الإعلام
لا تقتصر يد الذكاء الاصطناعي على كتابة الأخبار الآلية أو ترجمة الصور، بل طالت لتشمل عوالم أوسع تُعيد هيكلة العملية الإعلامية برمتها، ففي صناعة المحتوى يسهِم الذكاء الاصطناعي في توليد تقارير رياضية ومالية سريعة كتلك التي تنتجها واشنطن بوست باستخدام أداتها هليوغراف مما يتيح للصحفيين التفرغ للتحقيقات الاستقصائية المعمقة، وفي تخصيص المحتوى، فمعظمنا قد لاحظ تشابه المحتوى الذي يشاهده على اليوتيوب، فاليوتيوب ومثله نتفلكس يستخدمان خوارزميات الذكاء الاصطناعي؛ لتحليل البيانات الضخمة وفهم سلوك المشاهدين، ومن ثم تقديم توصيات حولت المشاهد من متلقيٍ سلبيٍ إلى شريكٍ تفاعلي.
وفي مجال التضليل ظهرت أدوات الذكاء الاصطناعي كحليف أساسي؛ للتحقق من سمعة وصحة الأخبار، فشركة فيسبوك لديها برنامجها الذي يُحلل ويكتشف أنماط الأخبار والمعلومات المشبوهة، بل إن بعض المنصات تستخدم نماذج لغوية متقدمة؛ لرصد نوع الخطاب الموجه وتحديده في إحدى الفئات من فئات الكراهية والمحتوى المسيء مما يفتح باباً جديداً للأخلاقيات الرقمية.
نقاط القوة: حين تصنع الآلة ما يعجز عنه البشر
تكمن قدرة الذكاء الاصطناعي على تحليل كميات هائلة من البيانات والتي يعجز عن فعلها الإنسان، وهو ما يترجم كفاءة غير مسبوقة في مجالات مثل:
السرعة والدقة: في تحليل نتائج الانتخابات والمباريات الرياضية والتقارير المالية في خلال ثواني أمرٌ خارج قدرات الإنسان، بينما تنتج الخوارزمية عدداً كبيراً من المحتوى قد يستغرق فيه الإنسان وقتاً كبيراً مستقطعاً من يومه.
التكلفة والاستمرارية: يقلص الذكاء الاصطناعي تكاليف الإنتاج ويعمل دون كلل، وهذا يسمح بالتطرق إلى شمولية نطاقات واسعة خلال أحداث اليوم، ويظهر هذا الأمر في الأزمات التي تحتاج تتبع فوري ولحظي لمجريات الأمور.
التفاعل الذكي: عبر تطبيقات الدردشة الذكية والذي قلصت بعض الأدوار بداخلها، فأصبحت تقدم أخباراً مخصصةً، أو تقرأ ردود فعل الجماهير ما يُثري الحوار بين الوسيلة الإعلامية وجمهورها.
الوجه الآخر: حدود الآلة وأسئلة الهوية
لكن هذه القوة لا تخلو من ثغرات تفرض تحديات وجودية على المهنة، فأولاً، كتابة تقارير عن أزمة إنسانية تحتاج إلى الفهم السياقي بإحساسٍ إنساني، وهو ما تفتقده الخوارزميات. وثانياً، التحيز الذي يطرأ كثيراً حول انحدار نماذج الذكاء الاصطناعي لإحدى الجهات، وهذا ناتجٌ دون قصد؛ بسبب التدريب على بيانات قد تحتوي تركيزاً أكثر لجهة عما سواها، أما التحدي الأكبر فهو إشكالية الهوية الإعلامية، فبينما تصبح الآلة مقدمةً وكاتبةً ومحررةً، أين يذهب دور الإعلاميين كحرّاس الكلمة وحاميين لعرين الحقيقة؟ وكيف لنا بمخرجٍ للحفاظ على الحس الإنساني والبصمة الإعلامية الحقيقية التي تميز الإعلام الجاد عن زيف المحتوى الرقمي؟
نحو توظيف حكيم كيف نحول التحدي إلى ميزة؟
لا يمكن الحل في رفض الذكاء الاصطناعي أو الحكم عليه بأنه المفسد للنكهة الإعلامية، بل النظر إليه بهذا المنطلق هو باب التهور في تبني الأمور، ويمكن الحل في إعادة التعاون بين الآلة والإنسان وهذا يتطلب:
- توزيع الأدوار بحكمة: في أن تتولى الآلة المهام الروتينية قليلة الأخطاء ويُترك الأمر الاستقصائي والتحليلي والنقدي الإعلامي.
- بناء أطر أخلاقية: عبر تشريعات تُلزم المنصات بالشفافية في عرض محتواها، وتُجرّم استغلالها للخوارزميات في التلاعب بمشاعر الجماهير وتحريك الرأي العام نحو مصبٍ مغلق.
- استثمار في التعليم: بتدريب الصحفيين على أدوات التحليل والتوليد؛ لتكتمل طاولة الإعلام بين الإنسان والآلة، مما يزيد من إنتاجية الصحفيين ويصبحوا شركاء واعيين بالثورة الرقمية.
الخاتمة: الإعلام بين سلطة السرد ومآزق الأخلاقيات
على مر التاريخ، لم يكن الإعلام دائماً مرآة تعكس الواقع، بل كان ساحةً لتسارع الروايات، حيث توجّه الأخبار وتُصاغ بكل دهاءٍ لخدمة إيديولوجيات معينة، أو خلق وعي جماعي على كيْف صاحبه، من بروباغندا الحروب الباردة إلى خطابات التحييز والكراهية في عصر السوشيال ميديا، ومن تزييف الحقائق في الحروب إلى تضخم الإشاعات لأغراض سياسية، ظل الإعلام أداةً قويةً لتشكيل الوعي لا مجرد أداة ناقلة.
اليوم، يضاعف الذكاء الاصطناعي هذه الإشكالية فتحليل بيانات ملايين من المستخدمين وخلق محتوى مخصص لكل فرد يخلق فقاعات إعلامية تعزز الانقسام وتخدم الأنظمة السلطوية والجهات الخفية، والترويج لقصص مزيفة وروايات باطلة تقدم الأخبار الأكثر إثارة والأكثر صدقا تحول الإعلام إلى ساحة استقطاب.
لكن الذكاء الاصطناعي نفسه قد يكون الحل، فبينما تستخدمه دول لمراقبة الصحفيين يمكن استخدامه لتعقب مصادر التضليل وفضحها وكشف خبثها للجماهير، وبينما يتم استخدامه لخلق أخبار مزيفة تزعزع أمن الشعوب يمكن استخدامه ليصبح آليةً لتدفق الحقائق على كافة نطاقها.
ولذلك، فإن الخطر الحقيقي للإعلام ليس خطراً تقنياً بل وجودياً في عصر الذكاء الصناعي، فهل سنسمح لأدواته أن تُعمق من جراحنا في قلة وعينا بالواقع وكثرة الزيف أم سنُعيد تعريف مهنة الإعلام ليصبح حصناً ممكناً ضد مضاعفة شاشتنا المجتمعية القابلة للتوجيه؟ وهل سيُصاغ مهام هذه الأدوات لتعزيز الشفافية ونزع الأقنعة عن الروايات المزوّرة وإعادة الإعتبار الإنساني المُغيب خلف زخم البيانات؟
الإجابة لا تكمن في الآلية، بل في إدارة البشر الذين يتحكمون بها، فالتاريخ يُعلمنا أن التكنولوجيا في بوصلة القوة، لكن الصحافة تذكرنا أن مهمتها هي أن تكون بوصلة الحقيقة … حتى عندما تجاهر ضد التيار.
المصادر:
سياسات تدقيق الحقائق على فيسبوك وInstagram وThreads | مركز مساعدة الأعمال من Meta
How Netflix’s Recommendations System Works | Netflix Help Center
اترك تعليقاً