تحذّر منظمات الإغاثة من مجاعة تلوح في أفق ولاية راخين المنكوبة بالحرب في ميانمار، فيما يطلق برنامج الأغذية العالمي نداءً عاجلاً لتوفير المزيد من التبرعات تفاديًا لكارثة مكتملة الأركان.
وقد دأبت الوكالة على إطعام الأعداد المتزايدة بسرعة من النازحين في الولاية، ومن بينهم مئة وأربعون ألفًا من مسلمي الروهينجا الذين ما زالوا يقيمون في المخيمات منذ أن هجروا بيوتهم إبّان الاشتباكات الطائفية عام 1433هـ (2012م).
أما الحرب الأهلية التي أشعلها انقلاب الجيش عام 1442هـ (2021م)، فقد دمّرت الاقتصاد في معظم أنحاء ميانمار وخلّفت احتياجات إنسانية هائلة.
غير أن المأساة في راخين، التي عُزلت عن سائر البلاد بفعل الحصار العسكري، أشد فداحةً وأقسى وطأةً من سواها من المناطق.
في العشرين من نيسان، أقدم أب يبلغ الخمسين من عمره، يقيم في مخيم أون تاو كيي، على مزج طعامه وطعام زوجته وطفليه بمبيد حشري. ففارق الحياة، غير أنّ سرعة تدخّل الجيران أنقذت أرواح الباقين.
ويُعَدّ هذا المخيم الأكبر بين المخيمات التي تؤوي مسلمي الروهينجا المهجّرين، وهو قائم على الطريق الممتد غربًا من عاصمة ولاية راخين، سيتوي.
وقد بلغ العوز بالأسرة حدّ المجاعة، حتى كادت تهلك من الجوع. وقد أكّد أربعة أشخاص من سيتوي هذه الرواية في حديثهم إلى هيئة الإذاعة البريطانية.
وفي حزيران، نُقل أنّ أسرة من عرقية الراخين، مؤلفة من خمسة أفراد وتقيم في سيتوي، قضت بالطريقة نفسها.
أفاد برنامج الأغذية العالمي بتراجع تمويله العالمي لهذا العام بنسبة ستين في المئة مقارنةً بعام 1445هـ (2024م)، مؤكّدًا أنّه لم يعد قادرًا على إطعام سوى عشرين في المئة من سكان ميانمار الذين يواجهون انعدامًا حادًّا في الأمن الغذائي.
وفي آذار، اضطر البرنامج إلى تقليص مساعداته لولاية راخين، رغم الارتفاع الكبير منذ مطلع العام في أعداد الأسر العاجزة عن إعالة نفسها.
وقال مايكل دنفورد، ممثل البرنامج في ميانمار: “الناس عالقون في حلقة مفرغة؛ محاصرون بالصراع، مجرّدون من سبل العيش، ومحرومون من أي شبكة أمان إنسانية.” وأضاف: “تبلغنا قصص مفجعة عن أطفال يجهشون بالبكاء من شدّة الجوع، وأمهات يحرمْن أنفسهن من الطعام ليُطعمْن أبناءهن. الأسر تبذل كل ما في وسعها، لكنها عاجزة عن مواجهة هذه المحنة بمفردها.”
لقد كانت راخين مثقلة بجراح العنف منذ عام 1433هـ (2012م)، ثم باغتها عام 1438هـ (2017م) القتل والتهجير الجماعي لمسلمي الروهينجا. وفي عام 1444هـ (2023م)، فرض الجيش حصارًا شاملاً على التجارة وخطوط النقل المؤدية إلى بقية أنحاء البلاد، في محاولة لقطع الإمدادات عن جيش أراكان المتمرّد الذي اندفع سريعًا ليستولي على معظم أرجاء الولاية.
وباتت سيتوي اليوم مدينة محاصرة لا يُمكن الوصول إليها إلا بحرًا أو جوًا، فيما تخلّى المزارعون عن جني محاصيل الأرز بعدما فقدوا القدرة على الوصول إلى المشترين.
أمّا الروهينجا، فقد حُرموا بأوامر عسكرية من ارتياد البحر للصيد، وهو من آخر موارد رزقهم وطعامهم.
وحتى حين يتوافر التمويل، تعجز وكالات الإغاثة الدولية عن بلوغ معظم المناطق الخاضعة حاليًّا لسيطرة جيش أراكان.
قال أحد قاطني المخيم لهيئة الإذاعة البريطانية: “لا أحد يستطيع الخروج. لا أعمال ولا وظائف. الأسعار ارتفعت خمسة أضعاف. لا دخل للناس، فيصارعون بشقّ الأنفس لتأمين قوت يومهم. معظمهم يعيش اليوم على تناول جذور القلقاس المسلوقة.”
وقد أثقلت مطالبة الجيش بتجنيد الإجباريين للقتال ضد جيش أراكان الكاهل بأعباء إضافية؛ إذ جرى استدعاء آلاف من رجال الروهينجا للمشاركة في الدفاع عن سيتوي، وأُلزمت العائلات التي لم تُرسل أحد رجالها بدفع مساهمات لإعالة من التحقوا.
وقال محمد، وهو من الروهينجا المقيمين في أحد المخيمات قرب سيتوي، للـ BBC إن الأسر اعتادت تسديد هذه الأموال من المخصصات التي يتلقونها من برنامج الأغذية العالمي.
غير أنّ هذه المخصصات توقفت في آذار، وحتى حين استؤنفت في حزيران، اضطرّت كثير من الأسر إلى إنفاقها كاملة في سداد الديون التي أثقلتها.
ويقول برنامج الأغذية العالمي إنّه يشهد في مختلف مجتمعات ولاية راخين مؤشرات مقلقة على ضائقة اقتصادية بالغة، مضيفًا: “العائلات تُدفَع إلى اتخاذ تدابير يائسة للبقاء: تفاقم الديون، التسوّل، العنف الأسري، تسرّب الأطفال من المدارس، توترات اجتماعية، بل وحتى الاتجار بالبشر.”
ويؤكد البرنامج أنّ إخفاقه في تلبية احتياجاته التمويلية تتحمّله دول مانحة عدّة، من غير أن يسمّيها. لكن قرار إدارة ترامب تقليص تمويل الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية بنسبة سبعة وثمانين في المئة يكاد يكون السبب الأبرز وراء معضلة البرنامج.
ففي العام الماضي وحده، قدّمت الولايات المتحدة ما يقارب أربعة مليارات ونصف مليار دولار لبرنامج الأغذية العالمي، أي نحو نصف ما تلقّاه من تبرعات الحكومات حول العالم. وكانت الأمم المتحدة قد أصدرت في تشرين الثاني الماضي تحذيرًا صارخًا من “مجاعة تتشكّل” في ولاية راخين.
وأن يكون ذراعها الرئيس للإغاثة الغذائية عاجزًا إلى هذا الحد عن سدّ احتياجاته، مضطرًا لإطلاق نداء جديد بعد تسعة أشهر فحسب، فإنما يدلّ على بيئة قاسية جافة من التعاطف، أضحت الإغاثة الدولية تضطر للعمل ضمن حدودها الصارمة.
بي بي سي.
اترك تعليقاً