ننقل لكم في وصل شهادة وصلتنا من غزة، بقلم كاتبتها.
إهداء إلى
غزة الأبيّة، وأخواتها
إلى كل متشوّق لعدالة الإسلام
إلى كل عاشق للكرامة والحرية
إلى الأخت أميرة شُرّاب التي لم أعد أعلم عن مصيرها شيئاً
الرجوع إلى الوطن
في صبيحة الثامن من ربيع الأول/ 1445هـ، الموافق: الثالث والعشرين من شهر أيلول/ سبتمبر/ 2023م رجع خالد ومحمد من تركيا، وقد أتما مرحلة الماجستير في الطبّ بتفوّق، كانت كل العائلة مجتمعة في بيتنا، أردنا أن نحتفل برجوعهما إلى الوطن سالمين، وبحصولهما على الشهادة، بالإضافة للاحتفال بإتمامي وبنتي عمي حفظ القرآن بعد ستّ سنوات من الاجتهاد.
خالد هو أخي الأكبر، بيني وبينه أحمد الإمام، وبعدي أربعة صبية آخرين، فأنا كما ترون فتاة فردية، مدللة ــ دونما إفساد ــ، محببة من الجميع.
كان يوم السبت ذاك من أروع أيام حياتي، فقد كان آخر اجتماع سعيد يذكر لعائلتنا الكبيرة. كان جدي يقصّ قصص صباه المليئة بالحروب، والثورات، والجهاد، والاعتقالات، وجدّتي بدورها تعاتبه وتقول: (يا رجّال كفاية نكد، خلينا ننسى الحرب اشوي، ونفرح برجعة الأولاد)، وأذكر كلمات جدي لها جيداً: (من قال إنه نكد، هاد تاريخنا راح انضلنا نحكيه في الأفراح، والأحزان)، وظلا يتشاجران فترة من الزمن ــ حال غالب الأزواج عند الكبر ــ.
لقد كان البيت صاخباً، حتى لا يكاد أحدنا أن يميز ما يقوله جليسه! لكنني كنت ومحمد في عالم آخر، لا أسمع فيه إلا كلماته التي تتحدّث بها عيناه، ثمّ رأيت عيناه تتجه إلى الهاتف، ولمّا أعادهما إلي رأيت نظرات استغراب منه حيّرتني!! فغضضت بصري عنه، حتى جاءني فاضل ــ ابن عمي ذي السنوات الأربعة ــ ليقول: (بيقولك محمد فوتي عالمطبخ)، وما أن دخلت حتى تبعني، (وين جوالك ابعتلك رسالة)، (آسفة! انسيتوا عالصامت)، أراد أن يمسك يدي لكنّه استحى؛ لأن المطبخ كان مكشوفاً، وكل من بالصالة ينظرون إلينا، أخبرني أنه تمنى لو قرب موعد عرسنا ليكون الخميس القادم، بدل الثاني عشر من تشرين الأوّل/أكتوبر، فقلت: (مستعجل! إلك صابر سنتين بعد الخطبة، وكتب الكتاب، مش قادر تصبر ها المدة القصيرة)، (أنت عارفة يا بنت عمي كلما حددنا موعد للفرح صار أشي وتتفركش الحكاية، أنت قوليلي: كم مرة تأجل فرحنا؟)، (يا راجل خلي ظنّك بالله قوي، وبعدين أنا مش طايرة ههههه) ….
غادر الجميع البيت وجلست وأسرتي في هدوء، ننظر إلى ما أحضره لنا خالد من تركيا، ولأنني الأخت الوحيدة فقد كانت هداياه لي كثيرة، كلها ملابس شتوية فاخرة، أخذت ملابسي إلى الغرفة، وقرّرت أن أنظر إلى هدية محمد، فتحتها فإذ بها ساعة من أروع ما يكون، معها إسورة مكتوب عليها اسمي واسمه، بالإضافة إلى دفتر صغير كتب لي فيه أشعاراً منه ــ لقد كان محمد شاعراً متقن العبارة، حي المشاعر ــ، لكم سعدت بالدفتر أكثر من كل شيء.
نمت تلك الليلة بسعادة غامرة؛ فمحمد لن يرجع إلى تركيا بعد اليوم، وسيظل في الوطن، وكنت أحتضن الدفتر الصغير، لقد قرأته كله ثلاث مرات، وأردت الزيادة لكن النعاس غلبني.
كنت أقف في حيّنا حيّ الرمال العريق، وأحمل بيدي اليسرى عصاً أتوكّأ عليها، وباليمنى كيساً من الحلوى أوزّعه على الناس، كان المظهر يبدوا كما لو أن أهل الحي كلهم بالخارج يحتفلون بشيء ما، لقد رأيت محمداً من بعيد حان يرتدي ثياباً بيضاء، ولم يكن الوحيد المتوشّح والبياض كانت طائفة كبيرة من الناس ترتديه فضلاً عن خالد، وحمزة أصغر إخوتي.
ركضت مسرعة صوب محمد وقلت له: (خذ هاي حلوى فرحتنا)، (يا بنت عمي مبديش أكسر بخاطرك بس أكلنا أحسن منها)، وصرف وجهه عني وهمّ بالذهاب لكنّه سرعانما التفت إليّ ووضع يده على كتفي وقال: (مبديش إشي إلا أنك اتكوني بخير، واتكوني مؤمنة قوية)، ثمّ دخل بين جموع الناس ولم أعد أراه.
استيقظت على أذان الفجر، ونظرت إلى غرفتي! يا إلهي لقد كنت أحلم، لم أعرف أهو حلم خير أم شر، ولذا سألت الله خيره، واستعذت به من شرّه، وكان قدر الله فوق الجميع، وسنّة الابتلاء ماضية في طريقها لا يصرفها أحد. مع مرور الأيام نسيت هذه الرؤيا، وكان نسيانها نعمة من الله، لكنني تذكّرتها لمّا أن رأيت تفاصيلها في الواقع عياناً.
الانتصار الكبير
في يوم السبت الثاني والعشرين من ربيع الأول/ 1445هـ، الموافق للسابع من تشرين الأوّل/ أكتوبر/ 2023م اكتسح غزّةَ طوفان.. لكنه ليس كما تظنّ أيّها القارئ، إنّه طوفان الأقصى، طوفان النّصر والعزّة، كانت غزّة في ذلك اليوم تبدو كعروس في ثوب الزّفاف سعيدة نشطة. لا زالت أصوات الزغاريد، والهتافات، وأهازيج النسوة تسكن أذني حتى هذا الحين….
لقد كانت الضربة التي تلقّاها الكيان الصهيونيّ قاسية جداً، حقاً إنّه طوفان.. طوفان اكتسح المستوطنات الحدودية للقطاع، والثكنات العسكريّة المتاخمة له، فجرف عداداً كبيراً من الجنود، والمستوطنين بين قتيل، ومأسور، لقد كانوا كجرذان تسحب من مخابئها.. ــ أظنّ أنّ الجرذان ستتقزّز من هذا التشبيه الذي لا يتمتع بالإنصاف ــ.
وإذا قلت: إنّ طوفان العزّ، والكرامة، والحرية هذا لم تكتسح بهجته غزة فقط، ولا نقمته الكيان الصهيوني فقط لم أكن مبالغةً، فإنّ المنتسبين إلى الإسلام بحق، وكذا كل أحرار العلم كانوا يشاركون غزّة فرحتها، وفي المقابل شارك المنافقون من صهاينة العرب، وأمة الكفر المتغطرسة كيانَ القذارة عزاءه.
جاء خالد عند الساعة الثانية ظهراً من ذلك اليوم يحمل صينية بقلاوة كبيرة، كان قد وزّع منها على من لقيَ من الناس في الشارع، أذكر أني أكلت منها من شدّة الفرح حتى صار ريقي حلواً.. إنّه يوم من أيام الله الخالدة في زمن كثرت فيه محن المسلمين، وهزائمهم في كل قطر من العالم.
أظهرت المقاطع التي نشرتها كتائب القسّام عدد هائلاً من الأسرى الصهاينة، رجالاً ونساءً وحتى أطفالاً، لقد كان إنجازاً عظيماً، وعجيباً في آنٍ واحد! لقد استخدموا أسلحة حيّرت العالم، كيف لقطاع صغير محاصر منذ زمن أن يطور قدراته العسكريّة، والقتالية؟! كيف استطاعوا أن يجهّزوا لهذه العميلة دونما شعور من أحد؟! إنّها بلا أدنى شكٍ معية الله ــ سبحانه ــ وتوفيقه، وبها يكون المستحيل ممكناً.
لقد كنّا جلوساً نتحدّث عن هذا الإنجاز، وكلٌ منّا يحلل تحليلاته الفلسفية، سألني عمر: (روان أيش راح يعملوا بكل ها الأسرى)، (أيش راح يعملوا فيهم يعني حيستفيدوا منهم في صفقة تبادل أسرى)، (والله ها القسّام فظيعين، راح يطلعوا بها الملاعين كثير من أبطالنا المسجونين)، (تعرف في صفقة “وفاء الأحرار” إلي كانت في 2011 فرضوا القسّام على الاحتلال إنّهم إيحرروا 1027 أسير فلسطيني مقابل صهيوني واحد، كان من بين الأسرى الفلسطينيين يحيى السنوار إلي ذوّقهم الويل ويما حيشوفوا منو).
لقد أعلنت كثير من الدول الغربية كامل تعازيها للاحتلال، وخالص دعمها له في محنته تلك، وهذا لم يكن في نظري شيئاً غريباً على الغرب فالكفر ملة واحدة، أمّا أمريكا الأمّ الحاضنة للاحتلال فقد اعتبرت الهجوم على الكيان هجوماً على سيادتها، فبدأت تحرّض الولد المطيع للثأر منّا، وما هي إلاّ ساعات حتى بدأ القصف الصهيوني على القطاع.
إنّ الطفل الجبان في الصفّ السادس إذا ضربه أحد زملائه في الصفّ، لم يستطع الانتقام إلا من أخي ضاربه الذي يدرس في التمهيدي، وهكذا فعل الكيان المحتل بدل أن يواجه الرجال، قرر أن يقتل النساء والأطفال، وأن يهدم المنازل على رؤوس ساكنيها، ويدمّر المدينة، وهو سبيل كل جبان.
ضريبة العزّة والجهاد
وكما أسلفت بعد ساعات بدأت طائرات الاحتلال ومدفعيّته تقصف غزّة، وهم لا يزالون سُكارى من أثر الصدمة، ولا أبالغ إن قلت: لا يزالون سكارى حتى هذه اللحظة!
إنّ بعض الناس قد يقول لهم خيالهم: لا بدّ أنّ أهل غزّة معتادون على الحروب، وسماع أصوات الغارات، والقصف، والنزوح، فحروب غزّة عديدة، وآخرها “سيف القدس” كانت قبل سنتين تقريباً، لكن هؤلاء ينسون، أو يتناسون أننا بشر، لنا قلوب ومشاعر، لنا أهل وعوائل، لنا أحلام وآمال، يفكر المرء منّا مَن مِن أهله سيفقد في هذه الحرب؟ وكم سيطول أمدها؟ وما الذي ستحمله له الأيام القادمة؟ غيب لا يعلمه إلا الله وحده.
اشتدّ القصف في اليوم التالي، واضطرّ جداي، وأعمامي الثلاثة وعائلاتهم، أن يتركوا منازلهم ــ والتي كانت في منطقة من حي الرمال كثر فيها القصف ــ ويأتوا إلينا، كما تمكن عمي الأصغر من الذهاب إلى رفح حيث أهلُ زوجه.
وما هي إلّا يومان حتى اضطررنا إلى الخروج جميعاً، اتفق أبي وأعمامي على الذهاب إلى عمتهم في حيّ النُصيرات، وكنت قبل هذا قد جهّزت حقيبتين مدرسيّتين بأغراضي، وضعت في واحدة منهما مصحفي وكتبي التي أستغني عن كل شيء إلا هي، وخرجنا من دارنا بُعيد صلاة الفجر مباشرة.
لقد قبّلت حيطان غرفتي، ودّعت منضدتي وسريري، وودّعت بيتنا كلّه، لم يكن قصف الاحتلال يراعي حرمات المساجد، ولا المستشفيات، فضلاً عن البيوت، كان كأسراب الجراد لا يسلم منه أخضر ولا يابس؛ ولذلك كنت أتوقع أن بيتنا لن يكون إلّا أطلالاً.
وركبنا في ثلاث سيّارات، السيارة التي ركبت فيها كانت تقلّ أحد عشر راكباً، لقد أصابني شد عضلي استمر أربعة أيام نتيجة الجلوس فوق بعضنا في السيارة.
ونحن في الطريق نظرت إلى الأفق الذي بدأ إسفاره يبدو، وبدأ الضوء شيئاً فشيئاً يُري العين أكدار الصبح الطالع، ويطلع القلب على المستقبل المجهول، لم يكن لي من سلوان إلا تلاوة القرآن:
﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُون َأُولَٰئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ﴾ (البقرة:155- 156)
وصلنا بأمان الله وحفظه إلى النصيرات، وأقمنا عند عمة أبي كلنا، كان عدد النازحين في بيتها قرابة الخمسين، هذا عدا أهل البيت الذين كانوا خمسة عشر فرداً.
أمّا الأطبّاء خالد ومحمد، ومعهم سلمى ابنة عمي فقد ذهبوا إلى مستشفى الشفاء الطبي لمعاونة الأطقم الطبية هناك، فقد كان عدد المصابين كبيراً جداً.
لم يكن حال النصيرات بأحسن من أحياء غزّة الأخرى، هو أيضاً تجرّع مرارة القصف، والتدمير، والإبادة الوحشية، ولذا كان ليلنا كنهارنا لا نقدر على النوم من شدّة أصوات القصف، ومن التساؤل الذي يؤرق عقولنا: يا ترى كم شهيداً سقط في هذه الغارة؟
كنا نصوم كل يوم نظراً لشح المأكل والمشرب ــ ولا زلنا حتى الآن على حالنا هذه ــ، نكتفي بوجبة واحدة على الإفطار، ونأثر على أنفسنا الأطفال بأكثرها، فهم أحوج منّا وأضعف.
ومع كل تلك المصاعب فإنّ الإيمان بالله لا يزال في قلوبنا نيّراً متألقاً، بل ازداد ارتباطاً وتوثّقاً، وشعلة النصر لم تخبُ أبداً، فلا يزال السابع من أكتوبر عزيزاً، لا تغرقه دماء الشهداء، بل ترفع من قدره حتى عنان السماء.
خيبة
كلّ إنسان في قلبه ذرة من كرامة، سيشعر أنّ طوفان الأقصى ليس انتصاراً لغزة فقط، بل له أيضاً، فإذا كان مسلماً فهو أولى الناس بالكرامة، والمروءة وعزّة النفس، وهو أولى الناس بنصرة الحقّ وأهله، ولكنّ سنّة الله في تقسيم الناس إلى ثلاثة أحزاب: “حزب مجتهد في نصرة الدين، وآخر خاذل له، وآخر خارج عن شريعة الإسلام”[1] لا تتبدل مهما توالت الأعصر، ومرّت الأزمان.
ونحن في النصيرات رأيت من المقاطع، والكتابات ما يشيب لقرفها رأس الوليد، ليست مقاطع أشلاء، ولا دماء، بل مقاطع لمخذّلة سعوا بكل جهودهم لتوهين قوى العباد، ولصرف الناس عن معاناتنا، إلى ما يزد الهوّة بين أبناء الأمة الواحدة.
أحدهم يرى أن طوفان الأقصى سفك لدماء المسلمين، وأن حماس هي المتسبب الرئيسيّ في موت كل هؤلاء الناس؛ لأنّها أيقظت الكلب النائم ــ على حدّ وصفه ــ، وآخر يقلل من شأن التظاهرات التي تقام في عدد من بلاد المسلمين تضامناً مع أهل غزة، ويحرّمها للاختلاط ولست أجيزه لكنني أستنكر النفاق، فأغلب من ينكر التظاهرات لنصرة فلسطين، يصمت على حفلات الفجور التي تقام في بلادهـ، وثالث يحرّم المقاطعة الاقتصادية للشركات الداعمة للكيان دون إذن وليّ الأمر ــ كأنّ وليّ الأمر له دخل في مأكلنا ومشربنا حتى؟! ــ، أمّا الطامة الكبرى فهي القول أنّ حماس أنشأها الكيان الصهيونيّ نفسه!! ألا ليت شعري ما الدليل؟
قل لي بربّك متى نام الكلب حتى نُتّهم بإيقاظه؟ إنّه في كلّ يوم يدنّس مسرى الرسول ــ صلى الله عليه وسلّم ــ بقدميه النجسة، ويعيث فيه فساداً، وأنتم نيام، وهل نسيت سجونه التي تكاد تتقيّأ من الأسرى الفلسطينيين، إن لم تأسف على حال الرجال، فعلى النساء اللائي هنّ عرض كلّ مسلم، تنتهك أعراضهنّ في سجون الكفر فلا يفزع منكم رجل رشيد، تستكثرون علينا التظاهرات؟ نحن نعلم أنّها لن تحرر الأقصى، ولكنّها دعم نفسيّ لنا، وحقّاً صدّقني أنا لا آسف على حالي، بل عليك، وعلى أمثالك، وعلى من يراك رجل دين ويتّبعك دون علم ولا هدى ولا كتاب منير.
يقول النبي ــ صلى الله عليه وسلّم ــ: (من قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون أهله فهو شهيد، ومن قتل دون دينه فهو شهيد، ومن قتل دون دمه فهو شهيد)، نحن مع كل هذا نقتل دون مسرى النبي ــ عليه الصلاة والسلام ــ. ما من عاقل يظنّ أن الجهاد الذي فرضه الله علينا خال من المشاقّ، وأنّ النصر يتحقق دون تضحيات، والسيرة العطرة ــ على صاحبها الصلاة والسلام ــ والتاريخ كله شاهدان على مقالتي، فهل يجهل هؤلاء هذا؟
الجواب: لا، إنّهم يتّبعون سياسة: “دع ما لقيصر لقيصر، وما لله لله”، لكنّهم جعلوه كلّه لقياصرتهم، فالجهاد، والكرامة، والحرية، والتظاهر، ورحيل الكيان الصهيونيّ عن بلادنا كابوس يؤرّق مضاجع الحكّام، لذا وجب القضاء عليه وإن كان على حساب المسجد الأقصى. إنّها قواعد الفاتيكان بدأت تظهر في بلاد المسلمين، ومن أين؟ من…. تركتها لك عزيزي القارئ لكن لا تكتبها فإنها مرارة.
حالنا كحال المسلمين المضطهدين في كل مكان: تركستان الشرقيّة– الروهنجيا– كشمير- سوريا- اليمن- السودان- ليبيا- مصر وغيرها، لسنا غرباء، ولا متفرّقين، بل وحّدتنا الألآم، والواقع، ولا بد أن يوحّدنا المآل.
قررت بعد فترة ألا أتعب نفسي بترّهاتهم، ولا أتوجّع من خذلانهم، بل سأنتظر المرحلة المقبلة بهدوء:
(فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ) [الأعراف:165].
سنلتقي
الحرب لا تزال في أوّل أيّامها، والأخبار تتوالى عن عزم جيش الاحتلال شنّ توغّل بري على القطاع، لا أخفيكم أنني كنت نوعاًّ ما أتضايق من سماع تلكم الأخبار؛ فأنا بشر لا بدّ لي من التأثر، وأتساءل: ماذا سيفعل هؤلاء الهمج أكثر ممّا فعلوه؟ كنت أهرع دائماً للصلاة عند سماع ما يُضيق الصدر، فليس للمرء أنيس في الشدائد إلا ربّه، أشكو إليه حالنا، ووحدتنا، وظلم العدوّ، وأسأله الثبات على الحقّ مهما اشتدّت المحن.
جلست على كرسيٍ قرب النافذة أتأمل نجوم السماء وكأنني أوّل مرّة أراها، وأنظر إلى الهلال الذي بدا حزينا متضامناً معنا، وأتلوا سورة “الحجر” التي أسمّيها سورة الصبر، كانت ولا زالت مزيلة الأكدار عن قلبي، وإذ بزوجة عمي تناديني وتقول: (روان.. محمد بدو ياك)، (السلام عليكم.. محمد كيف حالك؟)، (أنا بخير يا الغالية، أنت كيفك؟)، (مشتاقالك والله، وينك ما عاد طليت)، (وأنا كمان، إيش بدنا نعمل مش قادر أتنفس من الشغل، المصابين الله يعينهم كثار)، (بتنام، بتشرب، بتاكل كويس؟)، (أكل أيش يا بنت الحلال؟، مش قادر، مناظر الأشلاء والأطفال المقطّعة مش مخليالي نفس، بس متقلقيش أنتِ متفكريش فيّا كثير)، (مأفكّرش؟، أنا بفكر فيك كل ساعة، بل كل دقيقة)، (اسمعي أنا ببشرك يمكن بعد ثلاث أيام حيتم نقلي لمستشفى شهداء الأقصى بدير البلح، وأنا رايح حمر عليكوا)، (والله…. حستنّاك)، (بس اسمعي إياك تقولي لأمي بدي أفاجئها، وهالقيد لازم أسكر)، (دير بالك عحالك، الله يحفظك)، (وأنت كمان ديري بالك عحالك، وما تنسيش خليك قوية).
انتهت المكالمة، ووددتها لا تنتهي لكنّ الله غالب على أمره، جمد قلبي بعد أن كان دافئاً بصوت محمد، رحت لجدّتي ونمت على فخذها والدموع تنسكب من عينيّ حتى بللت ثيابها، وهي الحنون تمسح على رأسي وتهوّن علي، حتى نمت بعمق لأوّل مرّة بعد خروجنا.
وصلنا في اليوم التالي نبأ استشهاد عمّتي الصغرى مع زوجها وبناتها الثلاث، ونجى ابنها الذي يبلغ من العمر سنة واحدة، كما استشهد كثير من عائلة زوجها. كان نبأً صادماً، وألماً لا مثيل له، والذي زادنا ألما أنه لم يستطع أحد أن يذهب لتوديعهم قبل أن يواروا تحت الثرى؛ بسبب اشتداد القصف ذلك اليوم، باستثناء خالد ومحمد وسلمى، فقد كانت عمتي مقيمة في بيت قرب مستشفى الشفاء.
وبعدها بيوم تمكنوا من إرسال الطفل مع إحدى العوائل النازحة من هناك، كان وجه الصغير مليءً بالجروح، والكدمات، كان يبكي من الألم، وينادي أمّه بلسان لا يكاد يفهم، لكنه لا يدري أنّ أمّه لن تعود له أبداً. ما ذنب ذاك الطفل حتى يقتلوا كامل أسرته بكل انتقام؛ فقط لأنّه من غزّة الأبيّة، لأنّه سيكبر بكرامة في صدره، وشجاعة تجهر بالحرية. حملته وحاولت اسكاته، لكنّه لم يسكت حتى غلبه النعاس فنام، ومنذ ذلك الحين لا ينام إلا في حضني، ولا يهرع عند حزنه إلّا إلي.
لقد رجوت الله أن تكون هذه آخر الأحزان، وألّا نفجع بفقيد آخر، فكأس الفقد مُرٌّ، لكنّ الحكمة الإلهية كان لها قضاء آخر، لا شك أن في بواطنه الخير، ولذا وجب التسليم.
لقد كنت أنتظر لقاء محمد بفارغ الصبر، لعل رؤيته تزيل بعض أحزاني، لكنّه لم يأتي، ذهب مباشرة إلى دير البلح ولم يتمكن من المرور بنا. لقد عذرته ليس الذنب ذنبه، فالواجب أكبر مني ومنه، لقد اكتفيت بدفتر أشعاره، والساعة والإسورة اللتين لا أنزعهما إلّا قليلاً، أجد قربه بها، وتصبّرني على فراقه.
دير البلح
في الرابع والعشرين من ربيع الآخر، الموافق للسابع والعشرين من تشرين الأول/ أكتوبر بدأ الاجتياح البريّ لجيش الاحتلال، كان الهدف المعلن عنه هو القضاء على حماس، وتحرير أسراهم منها! وكم كانت طرفة سخيفة. إنّ حركة المقاومة الإسلاميّة حماس لم تولد في السابع عشر من ربيع الآخر سنة 1408هـ، الموافق للتاسع من كانون الأول/ ديسمبر سنة 1987م، بل ولدت منذ الغزوة الأولى التي خاضها المسلمون ضد قوى الكفر الغاشمة في السنة الثانية للهجرة، وإن كان قد أعلن عن اسمها في ذلك الحين، فهل يستطيع النتن-ياهو ومن معه من الحثالة، أو غيرهم أنّ يقضوا على فكر الجهاد؟!
إنّ الجهاد وإن تعرّض لحرب ضروس من قبل أعداء الخارج، ومنافقي الداخل إلّا أنه سيبقى حيًّا في قلوب الطائفة المنصورة، التي لا يضرّها من خالفها، ولا من خذلها حتى يأتي أمر الله. الفكرة ليست متجسّدة في رجال متى ماتوا ماتت الأفكار معهم، فقد استشهد عزّ الدين القسّام، وأحمد ياسين، والرنتيسي وغيرهم من مجاهدي فلسطين لكن المقاومة لم تمت معهم، لم؟ لأنّها عقيدة، ليست في قلوب الفلسطينيين فحسب، بل في قلوب المسلمين جميعاً.
ولأنّ جيش الاحتلال جبان هزيل فقد دعّم هجومه بسلسلة من الغارات الجوّية واسعة النّطاق، مما أدّى إلى وقوع الكثير من الشهداء، والمصابين، وقطع الاتصالات، وازدياد عدد النازحين.
بعد قصف أحد المنازل القريبة منّا اضطررنا للخروج، ومواصلة رحلة النزوح المفروضة علينا، وقررنا المسير صوب دير البلح، وبعد الفجر مباشرة خرجنا جميعاً، أكثر من خمسين فرداً كلنا نسير على الأقدام، باستثناء جدي وجدّتي وعمة أبي وزوجها وعجوز أخرى قريبة لهم؛ وذلك لأنّ الوقود قد نفد منّا ولم يبقى سوى ما يكفي سيارة واحدة.
لقد قطعنا مسافة خمسة كم تقريباً سيراً، ولم نصل إلى وجهتنا إلّا ونحن منهكي القوى، ولم نصم يومنا ذاك، وإن كنّا شبه صائمين، كنت أحمل إحدى حقائبي على ظهري، وأحمل الصغير يحيى ــ ابن عمتي الشهيدة ــ في حضني مما زاد تعبي وإعيائي، كان صوت القصف لا يتوقّف، والأدخنة السوداء بدت بوضوح عند شروق الشمس، كانت عوائل كثيرة تسير معنا كأننا ذاهبون إلى المحشر، وكأنّنا نحاكي بعض مشاهد مسلسل “التغريبة الفلسطينيّة”، مشاهد قاسية لا أقوى على نسيانها، ولن أنسى بالطبع كلّ من تسبب بها.
وصلنا أخيراً إلى دير البلح لكن أين سنمكث؟ ذهبت عائلة عمة أبي إلى أقارب لهم، وظلت عائلتنا تبحث عن ملجئ. وأخيراً تمّ العثور على فصلين فارغين في إحدى المدارس التابعة للأونروا، والتي اتّخذها النازحون ملجأً لهم.
كانت المدرسة مكتظّة بالناس، بدت وكأنها خلية نحل في كثرتهم، وضجيجهم، لكن بدل العسل يوجد الحنظل. انقسمنا على فصلين واحد للرجال وآخر للنساء، كما حصلنا على بعض الأغطية وبعض الضروريات الأخرى من موظفي الأونروا المتواجدين بالمدرسة.
وبعد ترتيب المكان جلسنا جميعاً خائري القوى، وكانت زوج عميّ بجانبي، رمقتني بنظرة حانية، وهزّتني بكتفها وقالت: (أكيد محمد حيجي اليوم)، فنظرت إليها نظرة استحياء، واستمرت هي تقول: (انبسطي حتصيري تشوفي حبيب القلب كل يوم، وأنا بشوف ابني الغالي، قولي يا روان: بتحبيه كثير؟)، (أيش ها السؤال يا مرت عمي، حتى الصغار بعرفوا قديش بحبو لمحمد)، (طيب بتلومي طوفان الأقصى إلى تسبب في تأخير فرحكو؟)، (لا والله، طوفان الأقصى كان نصر كبير، وحيظل، أمور الدنيا بتتعوّض يا أم محمد، وعادي تتأجّل، لكن نصر الدين، وحماية المقدّسات، وإغاظة العدو مبتتحمّلش التأجيل، ولا تتعوّض إذا فات وقتها)، (والله إنّك أصيلة يا مرت ابني، وهاد حشمي فيك). رغم التعب، وثقل الأحزان إلّا أنني كنت أشعر بدغدغة تسري بقلبي، ونشاط يعم جسدي، وسكينة تضمّني كلّما ذكر اسم محمد.
إبادة
وقفت أمام الغرفة أشاهد ساحة المدرسة، والتي كانت مكتظّة بالناس، رجال جلوس هنا وهناك، وأطفال يجرون ويلعبون، لكم اغتبطت الأطفال على نعمة الطفولة، صحيح أنّهم ليسوا بلا مشاعر، وأنّهم يتألّمون كما نتألم، لكنّهم يتمتّعون بخاصيّة الاندماج مع كل الظروف، والتكيّف مع كلّ المستجدّات أكثر منّا، لقد قاطع مشاهدتي صوت يهتف: (روان هاي أنت)، إنّها الخالة لطيفة أمّ صديقة روحي ميسون، أخذتها بالأحضان وأنا أقول: (كيف يا خالتي؟)، (حبيبتي روان من ريحة الغالية أنت)، ورمقتها بنظرة صادمة، ما الذي تقصده بـ (ريحة الغالية)؟ وسألتها: (كيفها ميسون يا خالتي؟)، (ميسون عطاتك عمرها، استشهدت من أول الحرب)، لقد شُوّشت عينيّ، وشعرت ببدني يتمايل يميناً وشمالاً، ولم أنتبه إلّا وأنا مستلقية في فصلنا.
ميسون أيّها القارئ هي الأخت التي لم تنجبها أمي، هي الصديقة الوفيّة منذ أوّل عهدي بها، وهي رفيقة الدراسة منذ الصفّ الأوّل الابتدائي حتى تخرّجنا من كليّة أصول الدين بالجامعة الإسلامية، عاشت يتيمة في ظروف قاسية، لم يمنعها الفقر من تحقيق أحلامها، وإتمام دراستها بتفوّق، لقد كانت أفضل منّي دائماً إيماناً، وصلاحاً، وثقافةً، وتفوّقاً، كما أنّها ختمت القرآن وهي لم تتجاوز الثالثة عشر من عمرها، لطالما كانت أعظم مشجّع لي على كل برٍّ وإحسان. ويوم زفافها الذي كان قبل السابع من أكتوبر بثلاثة أسابيع ضممتها بشدّة وقلت لها مازحة: (الصاحبات بينسو بعضهم لمن يتجوّزوا، إذا عملتيها ونسيتيني حقتلك، واقتل إلي نساني من فكرك)، فأجابتني: (يا أختي أنا أنسى إسماعيل ولا أنساكي، وبظن أن إسماعيل حيظل كل عمرو غيران منك)، (آه لازم يتعوّد).
لم أصدّق ما قالته لي الخالة لطيفة لذا عند إفاقتي سألتها: (استشهدت ميسون بجد، ما تمزحيش معي يا خالتي؟)، أجابتمي دموعها المنسكبة بأنه لا مزاح في مثل هذه الأمور، ثمّ قالت: (استشهدت بعد طوفان الأقصى بأسبوع، كانت هي وزوجها وبيت احماها عند قريبينهم، بس أولاد الكلب قصفوا البيت بكل إلي فيه، أربعين نفر استشهدوا كلهم إلّا راجل ظلو عايش).
لقد أضيفت ميسون إلى القائمة الطويلة التي كنت أكتب فيها أسماء الأحبّة الذين استشهدوا من أقاربنا وأصحابنا، فبالإضافة إلى عمّتي وأسرتها، استشهد اثنان من أخوالي وإحدى خالاتي مع كامل أسرهم، في مجزرة لن تُمحى آلامها من ذاكرة التاريخ المعاصر، المجزرة التي راح ضحيّتها خمسمائة شهيد أكثرهم أطفال ونساء في ليلة واحدة، بل قل في دقائق، إنّها مجزرة المستشفى المعمداني.
في ليلة الرابع عشر من ربيع الآخر 1445هـ، الموفق للسابع عشر من تشرين الثاني/ أكتوبر 2023م قصف الاحتلال الصهيونيّ مبنى المستشفى الأهلي العربي، المعروف بالمستشفى “المعمداني”، الذي كان يعجّ بالمرضى، والمصابين، بالإضافة للنازحين الذين كثرت تجمّعاتهم في المستشفيات والمدارس؛ اعتقاداً منهم أنّها المكان الآمن بالنسبة لهم.
لكنّ الصهيونيّ لا فرق عنده بين مستشفى ولا بيت، بين مدارس ولا جوامع، فعينه لا تريد أن ترى سوى الدم، ولأنهم جبناء لا يقوون على مجابهة المقاومة، اتّجهوا نحو الناس قتلاً، وتهجيراً، وتنكيلاً، وكما قال الشاعر:
أسد عليّ وفي الحروب نعامة فتخاء تجفل من صفير الصافر
ليس بأقلّ من وقاحة الصهاينة وقاحة من دافع عنهم ذاك الحين، ونفى أيّ علاقة لهم بقصف المستشفى! السؤال: إن لم يكونوا هم، فمن قصف المستشفى؟ المقاومة؟! يا إلهي صبرني على مجانين، وعجائز خرفين، وقمامات عفنة ابتلينا بها.
خمسمائة إنسان قتلوا، كثير منهم دفنوا أشلاءً، وكثير من لم تستطع عائلاتهم التعرف عليهم، ابن خالتي الذي كان بالصفّ الثالث الابتدائي لم يجدوا منه سوى رأسه، وزوجة خالي أكلت النيران معظم جسدها. كانوا أسراً سعيدة، متكاتفة سليمة، لها أحلام وآمال، ومستقبل مشرق تسعى له، لكنّ الاحتلال وأذنابه لا يرضيهم فرحنا، بل شقوتنا غايتهم.
استشهد كثير من أساتذتي، ومعلّماتي، كثير من أبناء حيّنا، حتى المرأة الصالحة التي كانت تحفّظني القرآن انتقلت إلى جوار ربّها شهيدة بعد عمر أمضته في حلقات تحفيظ القرآن، لم يكتفي الأوغاد بقتل هؤلاء فقط، لكنني أودّ أن أخفف عليك الجرعة عزيزي القارئ، وسأسقيك إيّاها بالتقسيط على دفعات حتى لا تغصّ.
من الخاتمة
شعرت بيده الحنون تمسح خدّي، والأخرى تمسك بيدي، ويحدّثني تارة ويقبّلني أخرى، ولا تتصوّر أيّها القارئ كم كان يعيد لي الروح بأفعاله تلك، وكم كان حنانه البريء يهوّن عليّ آلامي وأحزاني، وإذ بصوته الندي يناديني: (ماما…. ماما)، (أيش بدك يا حبيبي؟)، ولم يكن يحسن الحديث بل كل ما في الأمر حروف مبعثرة، لكنني شعرت أنّه عطش، وبحثت عن قارورة الماء فوجدتها فارغة، إذن يتوجب عليّ النهوض والخروج من الخيمة لأحضر له الماء، لبست حجابي، وتحسست مكان عكّازي، ووقفت بصعوبة محاولة ألا أطأ أحد النيام، وألا أوقظهم، وخرجت فإذ بها ليلة باردة جداً، والرياح العاصفة تكاد تُقلع الخيام، والظلام دامس، والسماء عبوس فالغيوم غطّت نجومها المتلألئة، ونحن في أوّل شهر رجب لذا لا بدر ينير ليل الكون، ولا ليل الروح.
كان البرميل بجانب الخيمة عبّأت منه الماء، ثمّ أعدت غطاءه، ودخلت وبصعوبة، ووصلت لمكان نومي دون وطء أحد. وعندما نظرت إلى يحيى وجدته قد نام، المسكين! لا بدّ أنّه نام من شدّة الخوف من الظلام وأني لست بجواره، وبالرغم من أنني تعبة، ومريضة إلّا أنني لم أستطع أن أعود للنوم ثانية، لذا قررت بعد عدة محاولات للنوم الجلوس خارج الخيمة، وأعدت مشهد الخروج المرهق لي.
جلست على كرسي داخل الفناء الصغير الذي صنعناه من مجموعة لافتات وبعض النايلون الغليظ، وشرعت أستمع إلى ألحان الرياح وهي تنشد أناشيداً حزينة، وما إن أغمضت عيني حتى تذكرت جمال صوت محمد، وتذكرت كيف أنشد مجموعة من القصائد ــ وهو في تركيا ــ وبعث لي بها، كانت إحداها قصيدة أبي فراس الحمداني التي تقول:
تقرّ دموعــــــي بشوقي إليك ويشهد قلبــــي بطول الكــــرب
وإنّـي لمجتهــــــد في الجمود ولكنّ نفســـيَ تأبــــــى الكــذب
وإنّي عليك لجـــاري الدموع وإنّي عليـــــك لصـــبٌّ وَصـِب
وما كنت أبقـــي على مهجتي لو أنّـي انتهيت إلى مـــــا يجب
ولكن سمحــــت لهـا بالبقـــاء رجاء اللقـــــاء علـــى ما تحب
ويُبقــــي اللبيـــــب له عـــدّة لوقت الرضى في أوان الغضب
آه يا محمد لكم أتألّم لفراقك، ولكم أشعر بحرقة في الكبد من غيابك، لكنّه القدر الذي لا شكّ في حكمة القاضي به، وصرت أردد: (رضينا، رضينا يا رب. لك الحمد على ما أعطيت، ولك الشكر على ما قضيت، أستغفرك من جميع الذنوب والخطايا، وأتوب إليك).
وورد في خاطري تساؤل: (لو قدّر لمحمد أن يراني بحالتي هذه، هل كان حبه لي سيستمر؟ ورغبته في العيش معي ستظلّ كما كانت قبل هذا؟)، ثم أجبت نفسي: (لم يحبني محمد لجمال ــ فأنا لم أكن جميلة أصلاً، وهو كان أجمل مني بكثير ــ، ولم يرض بي لمال ــ فنحن لم نكن بأكثر منه مالاً ــ، ولا توجد أيّة مصلحة ماديّة تُرجى من قِبلي، لكنّه اختارني دون غيري لديني، وأخلاقي، وفكري، وطباعي التي كان يهواها، إنّه أعظم من أنْ يُقلع شجرة الحبّ التي تجذّرت عروقها في قلبه لمجرد ما وصل إليه حالي، لا بدّ من أنّه كان سيبذل كل جهده من أجلي)، وصرت أردد:
أبني أبينا نحـــــن أهل منــازل أبداً غــــراب البين فيها ينعقُ
نبكي على الدنيا وما من معشر جــمعتـــهمُ الدنــيا فلم يتفرّقوا
(روان حبيبتي يمَّا في عاقل بقعد برى بهالليلة الوحشة، وها السقع)، (مليت قلت أغير جو في حديقتنا هاي)، (يلّا خُشّي يا حبيبتي)، وما إن وضعت رأسي على الوسادة حتى أخذني النوم، ورأيت محمداً كثيراً في ليلتي تلك؛ لكنّها كانت أضغاث أحلام.
لن يبرحَ الوطنَ
(وأخيراً قدرنا نسمع صوتَك)، (والله مشغول كثير، الحمد لله إلي قادرين نتنفس)، (والله بفكّر فيك أربعة وعشرين ساعة)، (أنا بخير في المستشفى متقلقيش عليّ، أيش أجواء القعدة في المدرسة؟)، (بتقهر والله، أنت عارف الضجيج، والمشاكل، والضيق، والحمامات خليني ساكتة)، (أيش عاملين في الأكل؟)، (والله إذا حصنا كيسين دقيق ــ بهذاك الحساب في اليوم ــ مفيش أحسن منّا، بعدين أنت متّصل عشان اتنكّد عليّ؟)، (ههههه، طيب تتذكّري قصيدة تُقرّ دموعي بشوقي إليك؟)، (الله…. وأنا يمكن انساها؟)، (بترضى القمر تسمعها مني؟ ولا صوتي مش عاجبها؟)، (صوتك يا حبيبي مفيش زيّو اثنين في الدنيا)، أنشدني القصيدة بتمامها، وقال لي في الختام موصياً: (متنسيش يا روان اتحمّلي واصبري، كل هاد إلي عايشينوا دليل على إنّا انتصرنا، وقهرناهم، وإنْهم خايفين منّا، وأنت خريجة أصول الدين، وحاملة القرآن لازم اتكوني قدوة لغيرك، وإيّاك تتحسّري على دنيا ضايعة، إلى بيفهم يتحسّر على كرامة ضايعة، يتحسّر على وطن ضايع. بعرف احنا عندنا مشاعر، وأحاسيس زينا زي الناس، لكن اتذكّري الله ميبتليش العبد إلى على قدر طاقتو، وعلى قدر محبتو إلو، واحنا حنصبر لين يجي الفرج. بحبك، وبعشقك، وراح ظل كل عمري هيك، وإن شاء الله الملتقى قريب).
كم أراحني صوته، وطمأنتني كلماته، وشعرتُ أنني سأراه قريباً. وجلست في ذاك المساء أنا وبنات عمّي نحفّظ الأطفال القرآن الكريم، ونفسر لهم بعض آياته بما يناسب عقولهم، فأنا أودّ لهم مستقبلاً مشرقاً، وحياة في ظلّ عدالة حقيقية، ولن يكون هذا إلّا إذا رُبوا على الكتاب، والسنّة. إنّ هذا العالم الكئيب لن يتنفّس الصعداء إلّا إذا عاد المسلمون إلى دينهم، وعملوا بأوامر ربهم، واجتنوا نواهيه، وجعلوا قدوتهم خير البرية ــ صلى الله عليه وسلّم ــ، ومن اتّبعه بإحسان، عندها لن ينتعش المسلمون فقط، بل الغرب كذلك سيتعلمون كيف يعيش الإنسان.
في تلكم الليلة اتّصل أحد أصدقاء محمد به ــ والذي كان يقطن في إحدى أحياء دير البلح ــ وطلب منه المجيء إلى بيتهم لفحص والده المريض، ولم يكن البيت بعيداً عن المستشفى، لكنّ الشيخ المسن لم يرد رؤية الجرحى، والنازحين المكدّسين في المستشفى، لقد أصابه الإعياء من ثقل أكدار السنين، منذ النكبة وحتى الآن، فلم يرد زيادة الهمّ على نفسه.
لم أستطع النوم تلك الليلة، ليس لأنّي كنت سكرى من سماع صوت محمد ذاك اليوم، أو غارقة في أحلام رومنتيكيّة، بل لاشتداد القصف على دير البلح، لم ينم أحد في المدرسة تلكم الليلة، لا يمكنني أن أصف لكم ذاك الرعب الذي عاناه الجميع. إنّ المدارس، والمنازل وحتى المستشفيات ملآى بالناس، فلو سقطت قذيفة على أيٍّ من هذه المباني فلا شكّ أنّها ستحصد كثيراً من الأرواح. أذكر أنّنا ودّعنا بعضنا تلك الليلة، فالقصف قريب، والعدوّ حقير، ولا منجاة لنا إلّا أن يتغمّدنا الله برحمة من عنده.
وأخيراً أشرقت الشمس، وخفّت وطأة القصف، واستطعنا أن نتنفّس الصعداء، لكنّ المجرم إمّا أن ينكّل بك، أو أن ينكّل بأحبابك، فلا مفرّ لك من انتقامه.
دخل أبي علينا وعيناه مغرورقتان بالدموع، وما إن رآني أمامه حتى أخذ يضمّني دون أيّ تعليل، (أيش في يابا؟)، جدتي: (احكي يا فاضل إن شاء الله خير)، ولم نعلم الخبر حتى دخل علينا أحمد ــ أخو محمد الصغير ــ يبكي ويقول: (محمد استشهد)، وبدأ الهرج والمرج في غرفة الصفّ، أمّا أنا فقد شعرت أنّ الزمن توقف، ولم أعد أشعر بمن حولي، فقط دفعت بأبي وخرجت نحو عمي سائلة إياه: (أنت متأكد من لسمعتو؟)، اكتفى بهز رأسه، وعندها شعرت بجمرة تتوقّد في صدري، وألم في عنقي كأنني أختنق، شعرت أنّ عيناي ستنفجران، لكنّ الدمع أبى الهطول….
ذهبنا إلى المستشفى في سيارة أحد جيراننا في المدرسة، أنا ووالديَّ، وأسرة عمي، ونحن في طريقنا ــ والكلّ يبكي ــ كنت أفكّر، وأتساءل: ماذا أفعل؟ هل أصرخ وأندب حظي؟ أم أكمد القهر حتى أصاب بسكتة قلبية؟ كيف أعبّر عن مشاعري؟ كيف أعبّر عن ألمي لفقد الغالي؟، بقيت هكذا أفكّر حتى وصلنا إلى المستشفى، وما إن دخلناها حتى فاحت رائحة الدماء، والموت، وأنستك مشاهد الأشلاء، والأطفال ما جئت لأجله، وليس من رأى كمن سمع، فليس الخبر كالعيان. وبدأنا في البحث عن جثمان الشهيد، وبعد عناء وجدناه، كان كل جسده مخضّباً بدمائه، إلا وجهه فقد كان مشرقاً كأنّه عريس يوم زفافه، كدتّ أصرخ، وأولول، لكنّني تذكّرت: (إنّما الصبر عندما الصدمة الأولى)، وتذكّرت: (إنّ العين لتدمع وإن القلب ليحزن وإنّا على فراقك يا إبراهيم لمحزونون)، فوضعت رأسي بجانب رأسه وانهمرت عينايَ: (إنّا لله وإنّا إليه راجعون، إنّ العين لتدمع وإنّ القلب ليحزن وإنّا على فراقك يا محمد لمحزونون، الله اختارك للشهادة، فهنيءً لك، اللهمّ تقبّله شهيداً عندك فقد كان يرجوها، اللهمّ هوّن علينا فراقه، اللهمّ أؤجرنا في مصيبتنا واخلف لنا خيراً منها، اللهمّ اجعلنا من المخبتين، ولا تجعلنا ممن يعبدك على حرف). كلّما تذكّرت ذاك الموقف تعجّبت كيف صبرت كلّ ذاك الصبر؟! الحمد لله أنّنا مسلمون، وإلّا كيف سيكون حالنا؟!
تذكّرت كلمات الشهيد حين قال لي: (لازم اتكوني قدوة لغيرك)، فحاولت أن أصبّر الجميع وأنا المكلومة، حاولت أن أذكّرهم أنّ ما هو فيه خير مما نحن فيه، وأنّه بجوار خير من جوارنا، وبصحبة خير من صحبتنا، فهدؤوا، واحتسبوا، وحمدوا الله على ما قضى.
إنّها الدنيا دار امتحان، الابتلاء فيها مكتوب على كل بالغ، وكلّما كبُر حلمك، واستوثقت عقدة الإيمان في قلبك، وعظمت غايتك، عظم امتحانك، وكثرت أعداؤك، وازدادت أجورك. والذي ابتلاك ألطف بك من نفسك لذا ابتلاؤه رحمة، وهو العدل لذا ابتلاؤه على قدر طاقتك، وفوق كلّ هذا ستجد أن صبرك على المصاب، ونجاحك في الاختبار ليس من عندك بل: (وَاصبِرْ وَمَا صبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ) [النحل: 127].
الهدنة
وارينا الشهيد تحت الثرى في مقبرة دير البلح، التي أصبحت الآن لا تتسع للشهداء كبقية مقابر غزّة، وكنّا قد علمنا أنّه في تلك الليلة الصاخبة تمّ قصف البيت الذي كان محمد يعالج فيه الشيخ العجوز، والصادم أنّ كل من في البيت استشهد باستثناء طفل في السادسة من عمره مع أخته ذات السنوات الأربعة.
هذه غزّة غرناطة فلسطين، لكن أعدكم لن يتكرر سيناريو الخاتمة، بل ستكون العاقبة للمتّقين.
بعد ثلاثة أيّام نُبّأنا أنّ مرتزقة الاحتلال اقتحمت مجمّع الشفاء الطبي، بعد حصار دام عدّة أيّام، كما قاموا باعتقال مديره الدكتور محمد أبو سليمة، وعدداً من الفرق الطبّية، كان من بينهم أخي خالد، أمّا سلمى فقد حفظها الله من شرّهم، ومكثت مع المرضى والجرحى ــ الذين عجزوا عن الخروج مع من أجبر على مغادرة المجمع من مرضى ونازحين ــ حتى انسحاب المرتزقة، وما انسحبوا حتى فجّروا مرافق مهمة للمستشفى، يريدون أن يقضوا على مظاهر الحياة في غزّة، يريدون تهجيرنا منها، ولم يتعلّموا يوماً من تجاربهم، فأنّى لهم النصر؟!
كان انسحاب قوّات الاحتلال من المجمّع الطبي عقب توقيع اتفاق بين فصائل المقاومة، وحكومة الكيان الغاصب يقضي ببدء هدنة “إنسانية” مدّتها أربعة أيّام، وذلك في العاشر من جمادى الأولى 1445هـ، الموافق للرابع والعشرين من تشرين الثاني/ نوفمبر 2023م، فرضت المقاومة فيها شروطها بكل شجاعة، ورضي الاحتلال بها بكلّ ذل وخنوع.
شملت بنود الاتفاق: وقف إطلاق النار بين الطرفين ــ وإن كان الاحتلال قد أخل بهذا في اليوم الثاني ــ، ووقف العمليات العسكرية لجيش الاحتلال بكافة مناطق القطاع، مع إطلاق سراح مائةً وخمسين امرأةً وقاصراً من الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال، مقابل أن تفرج المقاومة عن خمسين من الأسرى الصهاينة عندها، ووقف حركة الطيران فوق شمال القطاع من العاشرة صباحاً حتى الرابعة مساء، ووقفه تماماً فوق جنوب القطاع طيلة أيام الهدنة، كما فرضوا عليهم ضمان حرية حركة الناس من الشمال إلى الجنوب، وعدم التعرض لهم، ودخول شاحنات محمّلة بالمساعدات والوقود إلى القطاع.
وبشكل مجمل لا يتوقّع مسلم يتدبر القرآن أن اليهود سيوفّون بالعهد كاملاً، إذ لا بدّ أن يفتعلوا المشاكل، والخزعبلات، ويعطّلوا بعض البنود، وهذا خلقهم، أمّا المقاومة فقد برهنت للعالم مدى وفائها، وعدلها، وإحسانها، ومدى إنسانيّتها، سواء فيما يخصّ الوفاء بالعهد المقطوع، أو معاملتها للأسرى الصهاينة، ولا حاجة لأن أبسط لكم الأدلّة فأنتم كلّكم شهود على ما قلت، بل الأسرى نفسهم شهدوا على عِظم أخلاق المقاومين.
في كل يوم من هذه الملحمة يكتشف أبناء العالم الغربي، والمهووسين من أبناء جلدتنا بالغرب مدى زيف الحضارة الغربية، يكتشفون مدى زيف عدالتها، ومدى دجل إعلامها، يكتشفون عنصريّتها، وإجرامها، ودكتاتوريتها، والأكثر من هذا مدى حقدها على الإسلام وأهله.
بعد مضيّ الأيام الأربعة من الهدنة قُرّر تمديدها يومين آخرين، ليتمّ الإفراج عن المزيد من الأسرى من الجانبين، كانت ستّة أيام هادئة، لكن هل تهدأ القلوب المكلومة؟ وهل تسكن الجراح الثخينة؟ وهل يهدأ المتربَّص به؟ لقد وصل عدد الشهداء زمن الهدنة إلى أكثر من خمسة عشر ألفاً، بعد انتشال العشرات من الشهداء من تحت الأنقاض والطرقات. وكل العجب من هذا المصطلح: “هدنة إنسانيّة”!! هل يمكن أن تكون الإنسانيّة مؤقتة؟! قولوا ما شئتم فإنّ أصغر طفل عندنا بات يعلم كم أن ألفاظكم فارغة لا تغني ولا تسمن من جوع.
انتهت الإنسانية
في زمن الهدنة أطلعنا أحد الأصحاب على صور التقطها لبيتنا، وبيت جدي وأعمامي، أتعلمون ما حلّ بها؟ لقد صارت جميعها هباءً منثوراً. بيتنا الذي بناه أبي بعرق جبينه، والذي عشنا فيه ذكرياتنا الحلوة والمرّة، بيتنا الذي كان السكن والطمأنينة والأمان، لم يعد له وجود. لقد صبّرني ما رأيت في دير البلح من البيوت الكثيرة المنسوفة، عندما خرجت في أيام الهدنة لزيارة قبر محمد، رأيت من الدمار الشيء الكثير، بيوت ومرافق حيويّة منهارة كلياً أو جزئياً، نظرت إليه وأنشدت في كمدٍ كلمات البرغوثي:
قف بالديار الخاليـــــات وحيّـها مهدومها يبكــي على مبنيِّها
تبدو البيوت تهدّمــــت أنصافُها مثلَ القصائد بعد محو رويِّها
دورٌ كأشعار القدامى في الثرى مكتومُها يَربُو على مرويِّــها
فاقرأ سطوراً من حطام لم تزل تهذي بغامض حِكمة وجلِيِّـها
كلماتهــــا متشابـــــهات كلّـــها في السطر نابت أيُّها عن أيِّها
“الحمد لله” و”حسبنا الله” ليس لنا كلام بعدها، إنّ الذي أعطى، هو الذي أخذ، وما كان من البشر فمجرّد أسباب، وهي لهم ابتلاء وفتنة، “الحمد لله” الأرض باقية وإن زالت بيوتها، والله ــ سبحانه ــ سيعوّضنا خيراً مما فقدنا، ثقة في الله وتوكلاً عليه.
مخطئ من يظنّ أنّنا قد اعتدنا على المواجع! نحن لسنا مخلوقات من العالم العلوي، نحن بشر مثلكم، نتألّم لفقد الأحبّة، نتألم لفقد المسكن والمأوى، نتألم لخيانة أولي القربى، يفزعنا القصف، تفزعنا الدماء، ولكنّنا مؤمنون فلا يليق بنا الجزع، إمّا أن نصبر فننال رضى الله ــ سبحانه ــ وفرجه ونصره، وإمّا أن ننهار ولن يغني عنّا هذا شيئاّ، لقد آمنّا بقوله عزّ مِن قائل: (مَن كَانَ يَظُنُّ أَن لَّن يَنصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ) [الحج:15].
وانتهت الهدنة “الإنسانيّة” ــ على حدّ زعمهم ــ وعدنا من حيث توقّفنا، بل عاد الوضع أشدّ ممّا كان عليه، لقد شدّد الاحتلال قصفه على القطاع، مما زاد في عدد الشهداء والنازحين، ولم تعد المدرسة التي لجأنا إليها تطاق، فقد اضطر الرجال لترك فصلهم لعائلة نازحة من الشمال، وبقوا هم معنا.
ومما زاد متاعبنا دخول فصل الشتاء، وهطول الأمطار، وبرودة الطقس ونحن لم نكن نتوقع أن الحرب ستطول، ولذا الكلّ بملابس صيفيّة، الصغار والكبار، ونظراً لهذا وما معه من قلّة الماء النظيف وسوء التغذية انتشرت الأمراض المعدية في المدرسة بين الأطفال والكبار، وأين الدواء؟ لا وجود له.
في تلك الفترة قدمت سلمى إلينا وهي منهكة، من العمل والجوع، وحدّثتنا عن اقتحام الصهاينة للمستشفى، وعن اعتقال مديره وخالد وغيرهم. أخي الأكبر قدم من تركيا ليعاني قسوة الواقع…. قسوة المحتلّ…. قسوة الخيانة…. لله درّه كل عمره نضال.
وبعد معاناة في المدرسة دُعينا جميعاً إلى خان يونس للإقامة في بيت خالي قاسم ــ بالرغم من أنّ المدينة كانت تتعرّض لقصف شديد، وتدور فيها معارك ضارية بين المقاومة ومرتزقة الاحتلال، إلا أننا لم نكن نملك خياراً آخر، فالموت في كل مكان ــ فانطلقنا إلى هناك سيراً على الأقدام، أمّا كبار السنّ والمرضى فعلى “الطنبور”، لقد أضحت هذه الأخيرة من أكثر المواصلات رواجاً الآن في غزة، والأكثر من ذلك أنها صارت تستخدم في إسعاف الجرحى، والمرضى.
خان يونس
خان يونس لكم كنت أعشق زيارة هذه المدينة الجميلة، والتي سمّيت بهذا الاسم نسبة إلى الخان الذي بناه الأمير يونس التوروزي الداودار، كان لي فيها ذكريات عديدة كلّها سعيدة، ولم أتصوّر يوماً أنّ في قدري أن يكون لي فيها بعد ذلك ذكريات مريرة، لا يمكن أن تُمحى من الذاكرة أبداً.
مكثنا هناك نحن وعائلة أبي، بالإضافة لخالتي سحر التي اندلعت الحرب وهي في مصر للعلاج، ولمّا أن فُتح معبر رفح زمن الهدنة رجعوا إلى الوطن، كان عدد أفراد أسرتها عشرة، أكبرهم فتاة في الثانويّة، أمّا أسرة خالي فعددها تسعة عشر، ما بين أبناء وكنائن وأحفاد، وما أدري كيف اتّسع لنا ذاك البيت الصغير؟! إلّا أنّها قدرة الله التي باركت في ملجئنا ومطعمنا ومشربنا.
التحقت سلمى فور وصولنا بمستشفى ناصر الطبّي، وآثرت واجبها، وأرواح العباد على راحتها، فكانت تداوم كل يوم، تخرج باكراً ولا نراها إلا ليلاً، هذا ثغرها، فليس الجهاد أن تحارب بالسيف فقط، بل بكل ما هو في جُهدك وقدرتك العقلية والجسدية والمالية.
سلمى هذه ابنة عمي حسام، تكبرني بخمس سنوات، استشهد زوجها في معركة سيف القدس، مع أطفالها الثلاثة، عندما قُصف بيتها. كنت كلّما أسمع بفقد أحد الأحبّة تذكّرت صبرها، فتهون عليّ المصيبة، إنّها قدوة في الصبر والكفاح والذكاء، وصدّقني ستجد في غزّة وغيرها مؤمنات فقدن أكثر من ذلك فاحتسبن وصبرن وصمدن صمود الجبال الراسيات.
أمّا أنا فقد تشبّثتُ بالصبر واليقين والاحتساب، تمسّكت بالأمل رغم قسوة الأوضاع، طلبت جوار الله، مجير كل خائف ومكروب، موئل الباحثين عن السكينة وسط الأمواج المتلاطمة، كنت أصوم كل يوم بنية الفرج والنصر ــ ولا أزال ــ، قوّيت علاقتي بالصلاة والقرآن، اغتنمت الفرصة لزيادة الإيمان، والتقرّب لله ــ سبحانه ــ. لا أكذبكم فقد كنت منكسرة الفؤاد لاستشهاد محمد، وأسر خالد، ولحالنا، لكل الشهداء الكثر الذين سقطوا في هذه المعركة، كنت منكسرة لما رأيت من خذلان، وتقاعس لنصرتنا، لحال أمّتنا المعقد الذي تشيب لهوله الرؤوس، لكن ما عساي أن أفعل؟ لن ينفعني الانكسار، وسأظهر التجلّد والصبر ما حييت.
كان في اعتنائي بيحيى وقع جميل على قلبي وروحي، كان هذا الصغير يسلّيني، يملأ أوقاتي، ويضحك الدنيا في عيني، عوّضه الله بي، وعوّضني به.
مضت الأيّام رويداً رويداً، كانت أيّاماً قاسية حقاً، القصف والمعارك كل يوم تشتدّ أكثر فأكثر، والمأكل والمشرب كل يوم يتناقص، وليس لنا إلّا الله، إخواننا قيّد العجزُ أغلبهم، حبستهم الأنظمة الغاشمة عن نصرتنا، أو أنهم يعانون قسوة ما نعاني، أما التافهين من أبناء جلدتنا فأنا لا أحسب لهم حساباً، أموات غير أحياء، وسنظل نؤمن دوماً ألا نافع لنا إلا الله، ورحمات ربي وفرجه كلها تأتي عند انقطاع الأمل من الخلق، فعسى أن يكون الفرج قريباً.
أبطال المقاومة يبذلون ما في وسعهم متوكّلين على الله، ففي كل يوم يبشّروننا بالفجر القادم، يعيدون لنا الروح من جديد، ينقّون لنا الهواء الملوّث بالخيانة والجبن، لم تصمد أمامهم مركافة ولا غيرها، وجنود الاحتلال أمامهم كالحمر الوحشية في مقابلة السباع، لقد دعس على رقابهم “ولعت”، و”حلل يا ادويري”، و”الفتى الأنيق”، ومن قبلهم “الملثم”. ويقيناً لن يخيّب الله طائفة تجاهد ولو بعد حين.
لكل عبد ابتلاء
اشتدّ القصف في إحدى ليالي كنون الثاني/ يناير، وامتلأ مستشفى ناصر الطبي بالشهداء والجرحى، وأصاب الأطقم الطبية اعياء شديد من كثرتهم، وكانت سلمى تُجْري العمليات المستعجلة للجرحى الأكثر حاجة. وفي حدود الساعة الرابعة ليلاً كانت تجري عمليّة لامرأة مصابة بشظايا في الظهر، لكنّها توتّرت كثيراً عندما كثرت الاتصالات على هاتفها، طلبت منها زميلاتها أن تترك العملية لغيرها وتردّ على هاتفها حتى تطمئن، لكنها رفضت أن تترك واجباً منقوصاً غير كامل، وعند الانتهاء من العملية بنجاح خرجت سلمى من غرفة العمليات لتجد أحد الأطبّاء بصحبة ممرضة في انتظارها، قال الطبيب: (دكتورة قولي لا إله إلا الله)، (لا إله إلا الله…. أيش في شغلتلي بالي)، (انقصف البيت إلي فيه أهلك وقريبينك)، (يا الله.. يا الله.. سترك يا رب…. وها القيد وينهم)، (هما في الطريق.. الإسعاف جايبة جزء منهم قدروا ايطلعوهم من تحت الأنقاض، والدفاع المدني لسى شغال)، شرعت تبكي وتدعو الله أن يسلمنا، الممرضة: (خلي أملك بالله قوي.. وادعي.. يمكن ايكونوا كلهم سالمين).
وما هي إلا لحظات حتى وصلت سيارتي الإسعاف لتفرغ مَن فيها مِن المصابين، ثم تعود لإسعاف الباقي، نظرت سلمى فإذ بها ترى دماءً وأشلاءً، وأجساداً محروقة، حاول الأطبّاء إسعاف الأحياء بسرعة، والشهداء وُضعوا في مكان منفصل، وماذا عن سلمى؟ هل انهارت لفظاعة ما رأت؟ لا، بل سارعت مع زملائها تسعف الجرحى، رغم كمدها، ودموعها المنسكبة.
سأترك سلمى وصبرها، وقوّة عزمها، لأروي لكم حكاية ما حلّ بنا، وأخبركم عن مصيري:
عند الساعة الواحدة والنصف استيقظ أهل البيت على صوت قصف قريب جداً، تبين أنّه لبيت في آخر الشارع الذي كنّا نقيم فيه، خرج الرجال لتفقد الوضع، وتبعهم بعض الأطفال الذين ظلوا واقفين عند الباب، وما هي إلا دقائق حتى قُصف بيت خالي قصفاً مباشراً دون سابق إنذار، لا أذكر شيئاً عن ذلك الحين إلا أنني ضممت يحيى وأمسكت بيد جدّتي، وكان الصراخ يملأ المكان، ولا يُرى شيء بسبب الغبار الشديد، ثمّ فقدت الوعي، ولم أنتبه إلا بعد حوالي ساعتين حيث كان يحيى يصرخ بشدّة، لم أستطع أن أحرّك شيئاً من أطرافي بسبب الركام، كنت أشعر بألم فظيع في ساقي، ولم أستطع أن أرى شيئاً، بدأت أكلم الصغير ليهدأ: (حبيبي خلاص اسكت أنا هان متخافش)، وكانت يدي اليمنى لا تزال تمسك يبد جدّتي: (ستّي أنت بخير…. ردّي علي طمنيني) لكن دون جدوى، ثم سمعت صوتاً ينادي: (مين يتكلم؟)، (هاي أنا روان، أنت مين؟)، (خديجة)، عندها شعرت بسعادة فها هي زوجة عمي حسام حيّة، فلا ينبغي أن أفقد الأمل من نجاة البقية، (خالتي خديجة ستي بتردّش علي)، (ما اتخافيش يا روان يمكن فاقدة وعيها بس)، وعندها سمعنا أصواتاً فوقنا فبدأنا بالصراخ بأعلى أصواتنا: (يا جماعة ساعدونا احنا هان…. ساعدونا الله ايخليكوا)، وعندها سمعنا رجال الدفاع المدني فشرعوا بكل جهدهم لإخراجنا، وبعد زمن ليس بيسير أخرجت زوجة عمي ثمّ جدّتي ثم يحيى فأنا، وُضعنا في سيارة الإسعاف، وما أن وُضعت في سيارة الإسعاف حتى فقدت الوعي، فقد كانت رجلي اليسرى تنزف بشدّة.
استيقظت بعد يوم من الحادثة، وجدت أمّي بجانبي يدها مكسورة، ووجهها مليء بالجروح، (أمي أيش صار…. من أمتى وأنا هان؟)، (حبيبتي الحمد لله على سلامتك)، حاولت الجلوس فساعدتني، شعرت بشيء غريب في جسدي، أين ساقي اليسرى؟ أزلت الغطاء عنها، فإذ بها مقطوعة من الركبة، (وين ساقي يا أمي؟)، (هاد قضاء الله وقدرو يا بنتي، أول ما جابوك عالمستشفى عملولك عملية مستعجلة عشان ايوقف النزيف، ساقك صابتها شظية، مكانش في حل ثاني)، صحيح أني بكيت وبكيت لكنّه لم يكن بكاء سخط، ولا انعدام رضىً بالقضاء، بل بكاء الإنسانية، بكاء الفطرة الضعيفة، بكاء الأحياء.
لقد كانت حصيلة ذاك القصف مروّعة جداً، إخوتي الثلاثة، وجديّ واثنان من أعمامي (والد محمد ووالد سلمى)، واثنان من بنات عمي، وخمسة من أبناء عمومتي، وزوجة خالي وكنتاها وثلاث من بناتها، وأربعة من أحفادها، وثلاثة من أبناء خالتي سحر.
من بين إخوتي الثلاثة حمزة الذي يبلغ من العمر ثلاث سنوات، كان هذا الصغير نور بيتنا، وسرور أسرتنا، لا ينام إلا في حضن أبي، ولا يأكل إلا جالساً على فخذيه، لم نتصوّر يوماً أن عمره سيتوقّف عند الثالثة فقط، هؤلاء الصهاينة ليست في قلوبهم ذرة من رحمة، ولا طابع من طباع البشرية، أحد أحفاد خالي الشهداء كان يبلغ من العمر شهرين نائماً في حضن أمّه، لماذا يُقتل مثل هذا؟ ولم يصمت العالم لكل هذا الفظائع؟ ولِمَ لَمْ يستفق كثير من الأمة حتى هذه اللحظة؟
وارينا الشهداء الثرى، وقلب كلٍّ منّا متألم موجوع، فشهداؤنا ليسوا مجرّد أرقام، بل قصص وحكايات، أحلام وآمال، تضحيات وبطولات، صمود وثبات، ومع كل هذا صبر وإيمان.
أودعكـــم بدمـــــعات العيون أودعكــــم وأنتم لـــي عيونــي
أودعكـــم وفي قلبـــــي لهيب تجــود به من الشوق شجونــي
أراكم ذاهبين ولن تــــــعودوا أكاد أصيـــح إخواني خذونــي
فلست أطيـــق عيشاً ما تراكم به عينـــــي وقد فارقتمونـــــي
ألا يا إخوة فـــي الله كنتـــــــم على المأســــــاة لي خير معين
وكنتم في طريق الشوك ورداً يفوح شذاه عطراً من غصوني
لإن لم نلتـق في الأرض يوماً وفـــرّق بيننا كــــأس المنـــون
فموعدنا غــــداً فــي دار خلـدٍ بها يحيا الحنــــون مع الحنون
ليست النهاية
اشتدت وتيرة القصف على خان يونس، وبدأت قوّات الاحتلال تقترب من مستشفى ناصر الطبي ــ الذي حوصر بعد فترة من خروجنا ــ، لذا قررنا النزوح إلى رفح التي تجمّع فيها نصف أهل القطاع بالرغم من أنّ جراحنا لم تبرأ بعد، إلا أنها الظروف القاسية التي تجبرك على المرّ دفعاً لما هو أمرّ منه.
قمنا بإنشاء خيمتين صغيرتين، أمامهما فناء صغير، لم يكن مكاننا بعيداً عن البحر، وكان مزدحماً بالناس، إلا أنّه خير من زحام المدرسة، صحيح أن خيامنا لا تقارن ببيوتنا، كما أنها لا تقي من البرد، ولا تمنع مياه الأمطار من الدخول إلا أنّها خير من البقاء في العراء، والأكثر من هذا خير من العيش خارج الوطن، فأنا يمكنني أن أحتمل قساوة هذه الحرب، وآلامها لكنني لا أحتمل أن أفقد كرامتي وعِزّتي وغَزّتي.
بسبب تلوّث المياه، وقلّة النظافة، وسوء التغذية انتشرت الأوبئة والأمراض بين النازحين، زد على ذلك الأمراض الناتجة عن البرد، وسوء التدفئة. مياه الأمطار تدخل الخيام فتفسد كل ما فيها من متاع، وفي بعض الأحيان تشتدّ الرياح فتقلع الخيام، كلّ ثيابنا صارت تحت الهدم في بيت خالي لذا لسنا نملك إلا ما أُنقذنا به، أو ما حصلنا عليه من هنا وهناك من أهل الخير. كبر الأطفال قبل عمرهم فصاروا يتحملون المسؤوليات الضخمة، والأعباء الثقيلة، حتى يحيى الصغير صار يتحمل ما لا يتحمّله أمثاله من البرد والجوع والسقم.
بعد تحسّن صحّتي قررت ومجموعة من الأخوات الحافظات للقرآن أن نجتمع في مكان نُحفّظ فيه النساء القرآن، والحمد لله المشروع في تقدّم ونجاح، كما قام بعض الإخوة بتحفيظ الأولاد، وهذا ما يجعلنا نصبر على الألم، ونقف شامخين في وجه المعاناة، القرآن حياة الروح، وسعادة الدارين، وأنيس الوحشة. وفي أوقات فراغي كنت أتحسّر على كتبي التي حملتها معي من بيتنا لو أنها سلمت حتى الآن لتسلّيت بها، لكن هل تعلمون ما حلّ بها؟ في إحدى الفترات ــ زمن مكوثنا في المدرسة ــ لم نجد من الحطب إلا القليل الذي أفسدته مياه الأمطار، وكنّا نحتاج لنار تنضج خبزنا وطعامنا، فلم يجدوا إلا كتبي لإحراقها، تخيلوا خبز بنكهة ظلال سيد، والمحرر الوجيز، ومختصر المزني…، حتى الأشياء البسيطة التي أخرجناها معنا فقدناها، حتى الذكريات المحسوسة ذهب جلّها، لم يبق من هدية محمد إلا الإسورة التي كنت ألبسها يوم أن قُصفنا، أما الدفتر والساعة فظلتا تحت الركام، لكنّ الذكريات المعقولة سيظلّ جميلها وقبيحها محفوراً في الصدور ما دام الله منعماً علينا بنعمة العقل.
استشهد أخي خالد على يد مرتزقة الاحتلال، أخبرنا بذلك رجل كان قد أسر معه ثم أفرج عنه، كما أخبرنا أنّ سبب استشهاده ضرب عنيف تلقّاه على رأسه من أحد الجنود. إخوتي الستة لم يتبقّ منهم إلا اثنين: أحمد وعمر، لله درّ أبوي، ودرّ الصابرين على الفقد والوجع، إنني أرى هنا أناساً عاشوا مآسٍ أعظم مما عشناه، حتى أنني أقول في نفسي: لم أر شيئاً…. نكّل الأعداء بهم وبأحبّتهم، وانتقم من كل حر مناضل، انتقم من المجاهدين بقصف بيوتهم، وقتل عائلاتهم، انتقم من الأطباء بأسرهم وتعذيبهم وقتلهم وذويهم، انتقم من الصحفيين باستهدافهم، أو استهداف عائلاتهم كما حصل مع الصحفي البطل وائل الدحدوح، انتقم من المساجد منابر الجهاد، ومشاعل الإيمان بتدميرها، انتقم وينتقم من كل شيء في غزة بشراً وحيوانات ونباتات وجماد، إبادة فوق التصوّر، ثمّ يخرج لك ناعق حقير ليقول: “إنّ إسر…. ــ لن أقولها ولو على لسانه ــ ستحاول بكل ما في وسعها لحماية المدنيين” ههههه يا لها من طرفة سخيفة، فقد اعترف أحد صعالكة الأمريكان بقوله: “نسبة المدنيين في غزة 0%”، فهم لا يعترفون بأننا مدنيون، فلم نزيّف نحن الكلام ونقول عن بعض الصهاينة في بلادنا: “مدنيون”، أليسوا جمعهم رجالاً ونساء محاربون، محتلّون غاصبون!!، لا عجب فالموازين في زمننا انقلبت!.
هذه الليلة هي ليلة السابع والعشرين من شهر رجب، إنّها ليلة مشهودة عندنا معشر المسلمين، فهي ذكرى الإسراء والمعراج ــ على أحد الأقوال عند أهل العلم ــ، جلست في الفناء والبرد يضمّني، متأملة في حالنا فقلت في نفسي: لسنا خيراً من الرسول ــ صلى الله عليه وسلم ــ، ولا خيراً من أصحابه، فقد عانوا وجاهدوا وصبروا حتى أتاهم النصر والتمكين، ونحن إن لم نعانِ ونجاهد ونصبر ونثبت ونستمرّ في النضال، ونقوّي إيماننا بربنا، ونرجع لديننا، ونتمسّك بعراه فلن نفلح، ولن يكتب لنا نصر أو ما شابه.
لقد وعدنا الله بالنصر فقال: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ﴾ [الحج:38]
لكنّ النصر ليس بالأمر الذي يقدّم على صحون من ذهب، بل لا بد من التضحيات لنيله، الله قادر على إكرامنا به دون عناء لكنّه يريد للأمة الخاتمة ألا تعتاد الكسل والتواكل، كما لا يريد لنصرها أن يضيع، فالنصر بلا جهد لا يحفّز أصحابه للحفاظ عليه، بل لن يشعروا بالمسؤولية نحوه. كما أنّ للنصر صور شتى ولو لم يكن للطوفان نصر سوى إغاظة الأعداء لكفى، لو لم يكن له نصر سوى أن ميّز الخبيث من الطيّب لكفى، لو لم يكن نصره سوى أن أعاد للأمة بعضاً من صحّتها وروحها لكفى، أو أعاد لبنيها بعض الوعي، والالتفاف حول القدوات الحقيقية لكفى، لو لم يكن نصره سوى أن كشف أقنعة الغرب المزيفة لكفى، لو لم يكن نصره سوى أن حرر بعض الغربيين من مافية مدعي الديمقراطية والحرية، وأظهر الصورة الحقيقية للإسلام والمسلمين، مما أدخل جموعاً منهم في الإسلام لكفى، فماذا لوقلنا أن كل هذه الانتصارات وغيرها اجتمعت في الطوفان ألا يكفي؟
إننا في حاجة لجهود إصلاحية متكاثفة، تذوب بين العاملين عليها العصبيات والقوميات واللهجات واللغات، لا يجمع أصحابها إلا أخوة الإسلام، والرغبة فيما عند الله، يكون هدفها إعادة الأمة لدينها، وتصحيح مفاهيمها، وبث الوعي بين بنيها، وإعداد المرجعيات الدينية الحقيقية المخلصة، وبيان المرجعيات المزيفة التي ولاؤها للسلطان لا للخالق. أما الغرب ومكائدهم فإنني أقولها: أنا لا أؤمن بنظرية المؤامرة، فهم لم يكن لهم علينا سلطان إلا عندما انسلخنا عن ديننا، وفتحنا لهم أبوابنا، فمتى عدنا سترون هذا الوحش يستحيل لقطة أليفة.
إن الأيام تمر ولا يعلم ما في غد إلا الله وحده، وأعداد الشهداء حتى الآن تجاوزت تسعة وعشرين ألفاً، والاحتلال على مشارف رفح يطمع في عملية عسكرية فيها، وهي التي يتجمع فيها مليون ونصف المليون من النازحين، كلهم كوتهم الجراح، وكوتهم نار المجاعة والبرد، المعبر مغلق أمامنا خلفه ألفي شاحنة إغاثة، والبحر من يميننا، والعدو من شِمالنا، لا ملجأ ولا منجي لنا إلا الله، لا مغيث لنا سواه، ولا راحم لأمتنا إلاه.
السلام على غزة، السلام على القدس، وتركستان، وسوريا، والسودان، وليبيا، ومصر، السلام على مسلمي الروهنجيا، وكشمير، وأراكان، السلام عليك أمتي، وعلى بنيكي في المخيمات، أو الغربة، أو خلف القضبان …
يا أمتـــــــي وجب الكـــفاح فــــدعي التشدّق والصــياح
ودعي التقاعس ليس ينصـر من تــــقاعس واستـــــراح
(وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ)
تمت بحمد الله الاثنين الموافق:
السادس عشر من شعبان/1445هــ
السادس والعشرين من شباط/ فبراير 2024مصفية الشابّية
للتحميل بصيغة بي دي أف
([1]) اقتباس من رسالة الإمام ابن تيميّة في حادثة غزو التتار لبلاد الشام.
اترك تعليقاً