في ولاية راخين المضطربة في ميانمار، تتكشّف فاجعة جديدة بعيدًا عن أنظار العالم. فالروهينجا، الذين طالما عانوا الاضطهاد، وجدوا أنفسهم عالقين وسط نيران الحرب الأهلية الدائرة، وهم اليوم يتعرضون لتجويع متعمّد.
قطعت “junta” (جونتا)، وهي كلمة تعني: مجموعة من العسكريين أو الضباط الذين يسيطرون على حكم دولة بعد انقلاب عسكري، وتشير هنا إلى الحكم العسكري أو المجلس العسكري الحاكم، الإمدادات الغذائية عن الروهينجا في مخيمات مزرية، بينما يحاول البعض منهم الفرار بالقوارب نحو بنغلاديش.
تفيد تقارير حديثة من داخل البلاد المغلقة إلى حد كبير – منها ما صدر عن منظمة الروهينجا البورمية في المملكة المتحدة – بأن المجلس العسكري الحاكم فرض حصارًا شاملاً، قطع من خلاله جميع الإمدادات الحيوية عن 145 ألفًا من الروهينجا المحتجزين في مخيمات مكتظة وبائسة. وقد توفي، وفقًا للتقارير، ما لا يقل عن 25 بالغًا من الروهينجا جوعًا هذا العام، إضافة إلى سبعة آخرين قضوا نتيجة الحرمان من الرعاية الطبية. أما الأطفال، فيعانون من سوء التغذية.
يُجبر رجال الروهينجا على الالتحاق القسري بالجيش الميانماري، فيما ينضم آخرون طوعًا مقابل وعود بإطعام أسرهم بدلًا من دفع الرواتب. أما النساء، وقد ترمّلت كثيرات منهن، فيتنقلن بين المخيمات طلبًا للطعام.
ويعكس هذا اليأس السائد داخل ميانمار حجم الكارثة في مخيمات اللاجئين المكتظة على الجانب البنغلاديشي من الحدود، حيث يعيش قرابة مليون من الروهينجا ممن فرّوا من موجات العنف العرقي السابقة في ميانمار، في حالة من البؤس الشديد. وتتحمل بنغلاديش – وهي دولة فقيرة بحد ذاتها – عبئًا هائلًا باستضافتها أكبر مخيم للاجئين في العالم في كوكس بازار. وترغب الحكومة البنغلاديشية في إعادة الروهينجا إلى وطنهم، رافضة منحهم اللجوء أو السماح لهم بالعمل أو الدراسة أو تشييد مساكن دائمة تأويهم.
تدهورت الأوضاع في المخيمات منذ تقليص الحصص الغذائية اليومية، نتيجة مباشرة لنقص التمويل العالمي للمساعدات، بما في ذلك من الولايات المتحدة. وقد دفع اليأس باللاجئين إلى الفرار من الظروف المزرية في بنغلاديش، عبر خوض رحلات بحرية محفوفة بالمخاطر على متن قوارب مكتظة، في محاولة للوصول إلى دول ذات أغلبية مسلمة كماليزيا وإندونيسيا. وقد لقي المئات حتفهم غرقًا. ومع فرار الجياع من بنغلاديش، لا يزال الفارّون من ميانمار، المعروفة أيضًا باسم بورما، يتوافدون. وقد دخل نحو 150 ألفًا من الروهينجا إلى بنغلاديش في الأشهر الأخيرة، يحملون دلائل واضحة على سوء التغذية.
وقد فاقمت التخفيضات الجذرية التي أجرتها إدارة ترامب في المساعدات الخارجية هذه الأزمة. وفي ظل تقليص التمويل بشكل كبير، اضطرت منظمات الإغاثة إلى تقليص الحصص الغذائية اليومية إلى النصف، وتوقفت العيادات عن تقديم العلاج باستثناء الحالات الطارئة، كما جرى تقليص برامج حماية الأطفال، والصحة النفسية، و”مكافحة العنف القائم على النوع الاجتماعي”.
هذا الانسحاب الأميركي يخلّف فراغًا أخلاقيًا واستراتيجيًا، سارعت الصين إلى ملئه. فبكين تعطي الأولوية للاستقرار على امتداد حدودها التي تزيد على ألف وثلاثمئة ميل مع ميانمار، وتسعى إلى حماية مصالحها الاقتصادية الواسعة في البلاد، بما في ذلك ممر الصين-ميانمار الاقتصادي، وهو مشروع بنية تحتية واسع النطاق يضم سككًا حديدية فائقة السرعة، وميناءً، وأنابيب لنقل النفط والغاز تربط إقليم يوننان، المحاط باليابسة، بالمحيط الهندي.
وتُبقي بكين على علاقات شكلية مع كل من المجلس العسكري وبعض الجماعات العرقية المسلحة التي تسيطر على مناطق حدودية، لكنها في الوقت ذاته وفّرت حماية للمجلس العسكري من عقوبات دولية أشد، وتعاملت مع قائد المجلس، الجنرال مين أونغ هلاينغ، بوصفه رئيس دولة موضع ترحيب. وقد التقى الرئيس الصيني شي جين بينغ ومين أونغ هلاينغ مؤخرًا في موسكو، كما زار كبير الدبلوماسيين الصينيين ميانمار.
تكبَّدت الطغمة العسكرية في ميانمار خسائر فادحة منذ انطلاق الهجوم الذي شنّته الجماعات المتمردة في 1445هـ (أكتوبر/تشرين الأول 2023م)، والذي أسفر عن اجتياحها للعديد من المواقع العسكرية واستيلائها على معظم المناطق الحدودية في البلاد. غير أن المجلس العسكري تمكّن، عبر استخدام الطائرات المسيّرة لتنفيذ ضربات جوية دقيقة، وتجنيد القسري لتعويض النقص في صفوف جيشه، من استعادة بعض المدن. وقد أسهمت هذه النجاحات الميدانية الأخيرة، إلى جانب تحركات زعيم المجلس العسكري على الساحة الدولية، واستمرار شلل رابطة دول جنوب شرق آسيا (آسيان)، في تعزيز الانطباع بأن النظام العسكري يستعيد قبضته وهيبته.
يتحدث المجلس العسكري حاليًا عن نيّته تنظيم انتخابات هذا العام أو في يناير/كانون الثاني المقبل، وقد دعمت الصين هذه المبادرة وحثّت دول الجوار على مساندتها أيضًا. لكنّ أيّ عملية انتخابية في ظل هذه الظروف لن تكون سوى محض تمثيلية. فقد حُظرت الأحزاب السياسية، بما فيها “الرابطة الوطنية من أجل الديمقراطية” التي فازت بأغلبية كاسحة في انتخابات عام 1441هـ (2020م)، ولا يزال قادة سياسيون بارزون، من بينهم الحائزة على جائزة نوبل أونغ سان سو تشي، رهن الاعتقال. كما يعيش ملايين الأشخاص في حالة نزوح داخلي أو منفى خارجي، فيما لا تسيطر الطغمة العسكرية سوى على نحو ثلث البلاد، بما في ذلك العاصمة نايبيداو وأكبر مدنها، يانغون.
ينبغي لإدارة ترامب أن تدرك جسامة الأزمة في ميانمار. ويجب استئناف التمويل المخصّص للعمليات الإنسانية في كل من ميانمار وبنغلاديش. كما لا بد من توسيع حملة الضغط وفرض عقوبات دقيقة على النظام، لتشمل عائداته من النفط والغاز، ومؤسساته المالية التي لم تطلها العقوبات بعد، والمورّدين الدوليين لوقود الطائرات الذين يُبقون سلاحه الجوي فاعلًا. وعلى الولايات المتحدة أن تغتنم فرصة انعقاد المؤتمر رفيع المستوى للأمم المتحدة حول أزمة الروهينجا في سبتمبر/أيلول، للضغط من أجل إيجاد حل دائم للنازحين، يضمن عودتهم الطوعية والآمنة إلى ديارهم مع حصولهم الكامل على حقوق المواطنة.
إن مبدأ “أميركا أولًا” لا ينبغي أن يُترجم إلى إهمال أميركي. فلا يصح للولايات المتحدة أن تغض الطرف عن معاناة الروهينجا.
واشنطون بوست.
اترك تعليقاً