شهدت الساحة التكنولوجية خلال الأعوام القليلة الماضية سيطرة مطلقة لمصطلح “الذكاء الاصطناعي”، الذي وُصف بأنه القوة القادرة على تغيير شكل العالم جذرياً. وبينما تُضخ فيه مئات المليارات سنوياً، وتتجاوز التقييمات السوقية لشركات عملاقة كـ “إنفيديا” و”أوبن إيه آي” اقتصادات دول بأكملها، فإن هناك دائرة مغلقة ومريبة من الإنفاق تثير تساؤلات جدية: هل نحن أمام ثورة حقيقية، أم أكبر فقاعة اقتصادية في التاريخ؟
دورة التدوير المالي وتضخيم الأرقام
يشير المحللون إلى أن جزءاً كبيراً من النمو المعلن ما هو إلا نتاج لعملية “التدوير المالي”، حيث تتناقل الشركات الكبرى نفس الأموال فيما بينها لتضخيم الإيرادات والتقييمات بشكل وهمي.
فعلى سبيل المثال، تقوم شركة “إنفيديا” (صانعة الرقائق) بالاستثمار في “أوبن إيه آي”، التي بدورها تعلن عن شراء رقائق ضخمة من “إنفيديا”، ثم تدفع لشركات مراكز البيانات مثل “أوراكل”، والتي تستخدم الأموال في النهاية لشراء المزيد من رقائق “إنفيديا” لتوسيع بنيتها التحتية.
هذه الصفقات المُعلنة بمليارات الدولارات تبدو كاستثمارات هائلة على الورق، مما يدفع المستثمرين العاديين للتهافت على شراء الأسهم، بالرغم من أن الحركة الفعلية للأموال داخل هذه الدائرة المغلقة لا تعكس قيمة حقيقية أو ربحية مستدامة.
شركات تنفق أكثر مما تكسب
يُعد نموذج شركة “أوبن إيه آي” (واجهة هذه الثورة) مثالاً صارخاً على هذا الخلل. فرغم تقييمها الذي وصل إلى نصف تريليون دولار والنمو المذهل في الإيرادات، فإن الشركة تخسر مبالغ ضخمة. فمقابل كل دولار تكسبه الشركة، تزيد نفقات البحث والتطوير والتشغيل (التي تتجاوز الإيرادات بمليارات الدولارات)، مما يؤكد أن وضعها المالي الحالي غير مستدام على الإطلاق وتعتمد كلياً على جولات التمويل المتتالية للبقاء.
هذا الإنفاق غير المبرر يتبلور في منتجات مثل “سورا” (لإنشاء الفيديوهات)، والتي تكلف الشركة أموالاً طائلة لإنتاج كل فيديو دون خطة ربحية واضحة، حيث يتحول المنتج القوي إلى مجرد أداة لإثارة الضجة الإعلامية وجذب المزيد من الاستثمارات بناءً على “الوعد” المستقبلي.
الوعد الكاذب بالذكاء الاصطناعي العام (AGI)
ما يدفع المستثمرين لغض الطرف عن هذه الخسائر الفادحة هو الوعد بتحقيق الذكاء الاصطناعي العام (AGI)، وهو مستوى من الذكاء يفوق البشر قدرةً، ويُعتقد أنه سيحل جميع مشاكل البشرية ويُنشئ تريليونات الدولارات من الثروة.
لكن هذا الوعد يقف في تناقض حاد مع الواقع؛ إذ تشير استطلاعات رأي بين المتخصصين أن الأساليب الحالية من غير المحتمل أن تقودنا إلى هذا الهدف قريباً. وبالتالي، قد يكون هذا الوعد مجرد غطاء أو “قصة جميلة” تُحكى لتبرير استمرار تدفق الأموال الهائل.
التداعيات العالمية لانفجار الفقاعة
إن الخطر يكمن في أن هذا الإنفاق الضخم على الذكاء الاصطناعي هو ما يحمل النمو الاقتصادي في الولايات المتحدة على عاتقه. وإذا ما انفجرت هذه الفقاعة – وهو أمر شبه حتمي كما حدث مع فقاعة “دوت كوم” في التسعينيات – فإن الانهيار لن يقتصر على حدود أمريكا، بل سيتحول إلى ركود عالمي عنيف.
هذا الركود سيضرب شرايين الاقتصاد العالمي، خاصة في البلدان التي تعتمد على أسواق الطاقة والتحويلات الخارجية:
- انهيار أسعار النفط والطاقة: يؤدي الركود العالمي إلى انخفاض حاد في الطلب على الطاقة، مما يسبب انهياراً في أسعار النفط والغاز. وهذا سيشكل ضربة قاصمة لاقتصادات الدول العربية المنتجة للنفط، التي تعتمد ميزانياتها بشكل كبير على عوائد الطاقة.
- انخفاض التحويلات المالية الخارجية: يرتبط اقتصاد دول الخليج (التي تضم جزءاً كبيراً من العمالة العربية المهاجرة) بشكل وثيق بأسعار النفط. عند تضرر هذه الاقتصادات، تنخفض بالضرورة فرص العمل وتتراجع قدرة العمالة على إرسال التحويلات المالية إلى بلدانهم الأصلية، مما يقلل من مصادر العملة الصعبة لهذه الدول.
- هروب الاستثمارات من الأسواق غير الآمنة: وقت الأزمات والركود، تفرّ الأموال بشكل جماعي من أي سوق يُنظر إليه على أنه يحمل مخاطرة عالية. ستتجه الاستثمارات الأجنبية إلى الملاذات الاقتصادية الأكثر أماناً، مما يتسبب في خروج رؤوس الأموال من الأسواق الناشئة والمناطق غير المستقرة حول العالم.
فاتورة الطاقة البيئية
يضاف إلى ذلك فاتورة ثانوية تُدفع حالياً تتمثل في الاستهلاك الجنوني للطاقة. إذ تستهلك مراكز البيانات التي تشغل نماذج الذكاء الاصطناعي كميات هائلة من الكهرباء تتجاوز استهلاك دول كاملة، مما يرفع الطلب العالمي على الطاقة ويزيد من أسعار مصادرها، ويزيد من حدة المنافسة عليها عالمياً.
الخاتمة: من يدفع الثمن؟
الأمر المؤكد أن القائمين على بناء هذه الفقاعة يدركون أنها ستنفجر. لكنهم يراهنون على أنهم سيخرجون منها كسبانين؛ فالمدراء التنفيذيون والمؤسسون باعوا أسهمهم بالفعل وأصبحوا مليارديرات.
أما الخاسر الأكبر، فهو المستثمر الصغير، وعموم سكان العالم الذين سيدفعون الثمن في صورة ركود اقتصادي، وانخفاض في قيمة مدخراتهم، وصعوبة في فرص العمل، وارتفاع في تكلفة المعيشة. إنها معركة يُراهن فيها القليلون على الخروج بالثروة، ويدفع فيها العالم بأكمله الفاتورة.




اترك تعليقاً