غزّةُ… رمضانٌ مختلفٌ ومفعمٌ بالألمِ هذا العام

1d031176 ca4f 44fa a98d c488571c66a6

وسط أنقاض المباني المهدّمة، اجتمع شبّان فلسطينيون لتناول السحور في مخيّم خان يونس جنوب قطاع غزة، الذي نالت منه آلة الدمار الصهيونية. ورغم الخراب، بذلوا جهدهم لتزيين الأزقّة بالحُليّ التقليدية استقبالًا لشهر رمضان المبارك. وبالنسبة لمليار وستمئة مليون مسلم حول العالم، يمثّل هذا الشهر زمنًا تتجلّى فيه الروحانية بصفائها، وفرصةً للارتقاء بالنفس، حيث يمسك الصائمون عن الطعام والشراب من الفجر حتى الغروب، في انتظار لحظة الإفطار مع غياب الشمس.

مساء الجمعة، وبمجرّد أن أعلن المفتي العام للقدس بدء رمضان، احتشد المصلّون الفلسطينيون لأداء صلاة التراويح، تلك النفحات الإيمانية الليلية، في مسجد العمري الكبير، أقدم مساجد غزة، الذي طالته يد العدوان “الإسرائيلي” في 1445ه (يناير 2024م).

وفي رفح، بين أنقاض الجنوب الغزّي، نُظّم إفطارٌ جماعيٌ ضمّ عشرات الآلاف من الفلسطينيين، العائلات التي أضحى مسكنها أثرًا بعد عين، جميعهم التفّوا حول مائدة امتدّت عشرات الأمتار، أعدّتها مبادرة كويتية تضامنية. لم يكن هذا الإفطار مجرّد وجبة تُكسر بها حدة الجوع، بل كان لحظةً من التلاحم وسط الدمار، تجسيدًا للصمود والتشبّث بالأرض، مشهدًا من الروحانية المتجذّرة والتقاليد الراسخة رغم كلّ شيء.

رمضان هذا العام في فلسطين ليس كرمضانات السنوات الماضية. الحرب بظلالها الثقيلة تطغى على لحظاتٍ طالما كانت من أكثر أوقات غزة بهجةً، وحتى إن بدت الأسواق أكثر وفرةً، فإن القدرة على اقتناء الطعام باتت تحديًا يثقل كاهل كثيرين.

في جباليا والخليل، يكافح الفلسطينيون جاهدين لإحياء شعائر رمضان، غير أن الاحتلال الصهيوني يفرض مزيدًا من القيود والمعاناة. إذ تعمد قواته إلى إغلاق الطرق بالحواجز العسكرية، فتعيق حركة المصلّين، وتمنع الرجال دون الخامسة والعشرين من دخول المسجد الأقصى، وسط إجراءات مشددة تُحكم الخناق على الأهالي.

تقول امرأة نازحة من مخيم طولكرم، وهي في مركز الإيواء تحاول كبح دموعها: “في مثل هذا الوقت من العام، كان الشبان يزيّنون المخيم”، “للمرة الأولى، تبدو الشوارع والأزقة خاوية، بلا زينة، بلا مسحّراتي يوقظ الصائمين في جوف الليل، بلا أناشيد رمضانية… المخيم موحش كأنه مهجور.”

ومع ذلك، يحاول بعض المتطوعين أن يضيئوا العتمة ولو للأطفال، حيث يقول أحدهم: “وزّعنا فوانيس جميلة على أطفال جباليا وحي الزيتون بمدينة غزة، ورأينا الابتسامة تشعّ على وجوه الأطفال في شمال القطاع. لفوانيس رمضان مكانة خاصة في قلوبنا وتقاليدنا، فهي ليست مجرّد زينة، بل رمزٌ للأمل والهداية، وإنارة للروح في زمن التأمل والتجدد.” فهذه الفوانيس، في زمنٍ اشتدّ فيه البلاء، تسعى لأن تكون شعاعًا من نور، وسبيلاً لمواجهة ثقل المعاناة التي لا يبدو أن لها نهاية، مع ما خلفته ولا تزال تخلفه من تضحيات تفوق الوصف.

المرحلة الأولى من وقف إطلاق النار بين الاحتلال وحركة حماس استمرت شهرًا ونصف، وكان من المقرر أن تبدأ المرحلة الثانية يوم السبت، أول أيام الصيام من الفجر إلى الغروب. لكن رئيس وزراء الاحتلال، بنيامين نتنياهو، أعلن رسميًا تجميد الانتقال إلى المرحلة الثانية، متذرعًا بأن حماس لم تلتزم بالاتفاقات المبرمة، فضلًا عن المسرحيات التي رافقت إطلاق سراح الأسرى، وفق زعمه. عقوبة جماعية للمدنيين الأبرياء، وحكم جديد بالتجويع على غزة: لن يُسمح بوصول المساعدات وتوزيع المواد الغذائية، وستُغلق جميع المعابر. ورغم ادعاء نتنياهو بأن كيانه التزم بالاتفاق ولم ينتهكه، فإن آلة الدمار تواصل بلا هوادة تخريب الضفة الغربية، في مشهدٍ يكشف عن سياسة الاحتلال التي لا تعرف عهدًا ولا تقرّ بحقٍ.

في اليومِ الثاني من رمضان، يعودُ شبحُ الجوعِ الذي لا يعرفُ نهاية. أين ذهبت “الهدنةُ الإنسانية” و”وقفُ إطلاقِ النار”؟ غارةٌ صهيونيةٌ جديدةٌ تحصدُ أرواحَ أربعةِ شهداء -كما نحسبهم- في خان يونس. الجزيرةُ تؤكّد وقوعَ قتلى وجرحى جرّاء القصفِ الذي استهدفَ مدينة بيت حانون شمالَ قطاعِ غزة.

يواصلُ الفلسطينيونَ معركةَ البقاء وسطَ الحرمان، كثيرونَ بلا مأوى، يفترشونَ الخيامَ الهشّة في شتاءٍ ما زالَ قارسًا، بلا ماء، بلا كهرباء، بين أنقاضٍ وغبار، يكافحونَ لأجلِ أبسطِ مقوّماتِ الحياة، بينما يشيحُ العالمُ بنظرهِ عنهم، كأنّ الموتَ في غزةَ محضُ خبرٍ عابرٍ أو صورةٌ عابثةٌ في فضاءِ الإنترنت، تُنشرُ بوقاحةِ من يسعى لتحويلِ الأرضِ المنكوبةِ إلى ملهى للأثرياءِ دونَ وازعٍ من ضمير.

رمضان مباركٌ لمن يُذكّروننا كلَّ يومٍ بمعنى التمسكِ بالكرامةِ والإيمانِ والأمل.

Focus on Africa

اشترك في نشرتنا البريدية للإطلاع على ملخص الأسبوع

Blank Form (#5)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

طالع أيضا