في غرف ضيقة بمستشفى ناصر جنوب غزة لا يسمع المرء صراخًا، بل أنينًا خافتًا لأطفال لم تبقَ في أجسادهم قوةٌ للصراخ، بين أذرع أمهاتٍ تكسو وجوههنّ طبقات من الذهول واليأس، يرقد أطفال كأنهم خرجوا للتو من أرحام المجاعة، لا من بطون أمهاتهم.
طفل في شهره السابع يبدو كأنه في أسبوعه الأول، لا دهون، لا عضلات، لا مقاومة، مجرد بقايا إنسان صغير تتلاشى في صمت.
هكذا كتب الجراح البريطاني المتطوّع “نيك مينارد” في شهادته الصاعقة من قلب جحيم غزة، حيث لم تعد الحرب مجرد قنابل، بل أصبحت مجاعةً مدروسة ينفذها الاحتلال المجرم، لم يعد الموت من خلال الرصاص والقنابل فقط، بل سياسة تدرّجية تُنفَّذ عبر المنع، والتجويع، والتطويق، ومنع الشحنات الغذائية والطبية، وتدمير مرافق الإغاثة أمام أعين العالم.
يقول مينارد: “أنا طبيب، لا ناشط سياسي، لكن ما أراه هنا ليس مجرد كارثة إنسانية، بل فعلٌ متعمَّد لقتل الحياة، لا يمكن أن يُفسَّر سوى كجريمة يجري تنفيذها عبر الجوع”.
منذ شهور، تُقتل العائلات وهي تحاول الوصول إلى شاحنات الطحين، ويُضرب الأطفال بالقنابل وهم يطاردون الطعام، حتى حين يأتي الحليب، لا يصل إلى أفواه من يحتاجونه، إذ يُصادر أو يُقصف أو يُحتجز على المعابر.
بينما تموت غزة بهدوء، تغلق الحكومات الغربية عيونها، وتردد، ببرود قاتل، أن لإسرائيل “حق الدفاع عن النفس”. لكن من يدافع عن الأطفال الذين تذبل أعضاؤهم؟ من يحمي الرضّع من سياسة التجويع؟ من يتحدث باسم الجسد الذي لم يتلقَ غذاء منذ أيام، أو الأم التي لا تملك قطرة ماء لتخلط بها الحليب؟
الجوع ليس ضررًا جانبيًا. إنه السلاح .. ومن يستخدم التجويع ضد المدنيين، فهو لا يحارب مقاتلين، بل يعلن حربًا على الحياة ذاتها.
إن السكوت عن هذه الجريمة، مشاركة فيها، وإن كل من يرى ثم يتجاهل، هو شاهد زور في محكمة التاريخ.
نقلا عن الباحث حسن قطامش.
اترك تعليقاً