دواء من قلب الداء: نفس التكنولوجيا التي اُستخدمت في إباداتهم … الذكاء الاصطناعي بين أداة للإبادة ووسيلة لحفظ التاريخ

بين الجريمة والذاكرة: الذكاء الاصطناعي في مواجهة إبادات العصر

بينما تُهدم مآذن الحق عشرات المرات، وبينما تعلو كلمة “حق” تخفت أصوات الضحايا… في عالم يمتاز بازدواجية المعايير، وتتسع الفجوة بين رواية الحق المحلية والرواية السياسية العالمية، تُزهق أرواح الأبرياء خارج نطاق المبارزة. في هذا العصر ذي الانحطاط القيمي والأخلاقي غير المسبوق تاريخيًا، لا يتم التفريق بين الأدوات وخيرها أو شرها؛ فما يهم هو التنفيذ فقط، أيا كانت النتائج، وأيا كان الطرف الذي تدفع الأحداثُ على حسابه.

الذكاء الاصطناعي – التكنولوجيا الفعَّالة على كافة الأصعدة – يسير على نفس النهج. السكين الذي صُنع للنفع يتحول إلى أداة قتل وجريمة، وبينما يُستخدم الذكاء الاصطناعي للخدمة العامة والتوليد وزيادة الإنتاجية والتحقق والاستدلال على الكوارث المستقبلية، إذ هو برمته كارثة شنعاء تستقطب الاستثمارات والمناقصات ليُوجَّه في المقابل ليكون آلةً للقتل المُمنهج على مرأى العالم ومسمعه.

لكن بينما الأمر أيضاً كذلك، يشرق ضوء من زاوية مختلفة؛ ليخلق من هذا الداء الفتاك دواءاً لحفظ من تم إباداتهم وتدمير ماضيهم وتشويه مستقبلهم؛ ليحفظ للأجيال المستقبلية أرشيفاً يحمل بين طياته فسطاطين للحق والباطل، وليتضح جميع النوايا لكافة جوانب الرواية، المحلية منها والعالمية، وليبصر أولو الألباب حقيقة ما نحن عليه، وما يوجّه إلينا، ويُشّن ضدنا.

الأويغور: حين تُصبح التكنولوجيا سجّانًا وشاهدًا

6783b01d4c59b70bb86c68c6 1

أ. الوجه القاتم: الذكاء الاصطناعي أداة قمع ممنهج

المراقبة العرقية: طورت الصين نظام “منصة العمليات المشتركة” الذي يجمع بين بصمات الوجوه والحمض النووي لتمييز الأويغور عرقيًّا. الكاميرات الذكية في شينجيانغ ترصد تحركاتهم حتى داخل المنازل، وفقًا لتقرير BBC 2023.

سجون البيانات: في “معسكرات التعليم”، يُجبر المعتقلون على ارتداء أجهزة ذكية ترصد موجاتهم الدماغية؛ لتقييم “ولائهم” بناءً على تحليل نبرة الصوت وتعبيرات الوجه، كما كشف تحقيق  The Intercept.

ب. الوجه المضيء: التكنولوجيا تُنقذ الذاكرة من الإبادة

الأقمار الصناعية تكشف ما تُخفيه الصين: حللت منظمة ASPİRE صور الأقمار الصناعية باستخدام خوارزميات YOLOv7 وهي واحدة من أهم التقنيات المستخدمه في مجال رؤية الحاسب الذي هو أحد فروع الذكاء الاصطناعي، لتوثيق اختفاء 85% من المساجد الأويغورية بين 2015-2023.

الشهادات التي لا تُحذف: أنشأ نشطاء منصة “أصوات شينجيانغ” المشفرة بـ Blockchain، حيث يُحمّل الناجون تسجيلاتهم الصوتية، ويحولها الذكاء التوليدي إلى رسوم متحركة تحاكي قصصهم دون الكشف عن هوياتهم.

الروهينغا: التكنولوجيا بين تأجيج الكراهية وتخليد الرواية

image 11

أ. التضليل الخوارزمي: فيسبوك شريك في الجريمة

خطاب الكراهية المُعزَّز آليًّا: شركة ميتا في وثائق مسربة عام 1443هـ (2022م) أن خوارزمياتها رفعت منشورات تصف الروهينغا بـ “الحشرات” إلى صدارة النتائج، مما ساهم في تطبيع العنف قبل عمليات التطهير العرقي.

Deepfake لتزوير التاريخ: أنتج الجيش الميانماري مقاطع فيديو مزيفة بواسطة ذكاء اصطناعي تُظهر الروهينغا “يهاجمون القرى”، ونشرها عبر حسابات وهمية لتبرير الإبادة، وفقًا لتقرير نيويورك تايمز.

ب. التكنولوجيا تُعيد كتابة الرواية

التوثيق من تحت الأنقاض: جمع النشطاء 12,000 مقطع فيديو من هواتف الناجين، وحللوها عبر منصة “أدلة رقمية” تعمل بالذكاء الاصطناعي، لربط جرائم محددة بوجوه الجنود، مما ساهم في إدانة ميانمار أمام محكمة العدل الدولية.

الترويج الثقافي عبر المنصات الرقمية: أظهر شباب الروهينغا ميلًا لاستخدام منصات مثل يوتيوب لتعزيز ثقافتهم ونشر قصصهم، مما يساهم في الحفاظ على هويتهم ونقلها إلى الأجيال القادمة.

رواية القصص من خلال التصوير الفوتوغرافي والشعر: برز أربعة مصورين موهوبين من الروهينغا في مخيم كوتوبالونغ للاجئين، حيث يروون قصص مجتمعهم من خلال الصور والشعر، مما يساعد في تسليط الضوء على معاناتهم وآمالهم.

غزة: الذكاء الاصطناعي … بين دقة الصواريخ ودقة التوثيق

أ. آلة الحرب الإسرائيلية: الذكاء الاصطناعي القاتل

نظام “لافندر”: طوّر جيش الاحتلال الإسرائيلي نظام ذكاء اصطناعي يُدعى “لافندر” لتحديد الأفراد المنتمين إلى حركتي حماس والجهاد الإسلامي، وتصنيفهم كأهداف عسكرية. منذ ربيع الثاني 1445 وحتى شوال 1445هـ (أكتوبر 2023 وحتى أبريل 2024م)، أصدر النظام قائمة تضم 37,000 هدف بشري، مما أدى إلى استهداف منازلهم دون إشراف بشري يُذكر.

مشروع “نيمبوس”: هو عقد بقيمة 1.2 مليار دولار بين الحكومة الإسرائيلية وشركتي جوجل وأمازون، يهدف إلى توفير خدمات سحابية إلكترونية للجيش والحكومة في إسرائيل. يسمح المشروع بمزيد من المراقبة وجمع البيانات بشكل غير قانوني عن الفلسطينيين، ويسهم في توسيع المستوطنات الإسرائيلية غير القانونية على الأراضي الفلسطينية.

نظام “جوسبل”: يُعتبر “جوسبل” نظام ذكاء اصطناعي آخر يعمل بالتوازي مع “لافندر”، حيث يقوم بتحليل كميات كبيرة من البيانات لتحديد أهداف عسكرية محتملة. استُخدم هذا النظام لأول مرة في حرب 1442هـ (2021م) على غزة، وأنتج 200 هدف عسكري ثابت ومتحرك خلال تلك الفترة.

 ب. التوثيق الرقمي: المقاومة بلغة البايتات

الكاميرات وحفظ الحقيقة: خلال الحرب الأخيرة التي توقفت في شهر يناير، كانت المقاومة الفلسطينية توثق الأحداث باستخدام كاميراتها الخاصة وتخزين المواد على مواقعها الإلكترونية وتطبيقها الخاص، بعد مواجهة عرقلة في نشر المحتوى عبر منصات مثل تليجرام.

 التحديات الأخلاقية: هل تُحاكم الخوارزميات؟

أ. إشكالية التحيز: الرواية الغربية تبتلع الروايات المحلية

البيانات المُستخدمة في تدريب نماذج التوثيق تأتي غالبًا من المصادر الغربية، فتُهمّش اللهجات المحلية (كالأويغورية) والتفاصيل الثقافية.

مثال: خوارزميات التعرف على الكلام فشلت في تحليل لهجات الروهينغا، فتحوَّلت شهاداتهم إلى “ضوضاء” في بعض التقارير الدولية.

ب. الأمن مقابل الشفافية

تواجه المنظمات تحديات في تحقيق التوازن بين الأمن والشفافية. استخدام التشفير غير المتماثل، الذي يعتمد على زوج من المفاتيح (عام وخاص)، يمكن أن يعزز الأمان من خلال ضمان سرية البيانات والمصادقة عليها. ومع ذلك، قد يؤدي ذلك إلى تعقيدات في إدارة المفاتيح وصعوبة في تحقيق الشفافية المطلوبة. لذا، يجب على المنظمات اختيار تقنيات التشفير المناسبة التي تلبي احتياجاتها الأمنية مع الحفاظ على مستوى مناسب من الشفافية.

ج. معضلة المحاكم: هل تقبل “أدلة الآلة”؟

في قضية الروهينغا (1444هـ) (2023م)، رفضت محكمة لاهاي بعض الأدلة المُنتَجة بالذكاء الاصطناعي لعدم فهم القضاة لآلية عمل الخوارزميات.

التوصيات: نحو ذكاء اصطناعي يُعيد كتابة العدالة

331971939d893fd33f991dd6e9540718

أ. مبادئ لا بد منها

البيانات أولًا: تدريب النماذج على بيانات محلية بلغات الضحايا، وإشراك الناجين في تصميم الأدوات.

الشفافية الجذرية: توثيق كل خطوة تقنية في تقارير التوثيق، كما تفعل منصة “العدسة الشفافة” التابعة لهيومن رايتس ووتش.

حماية الذاكرة الرقمية: تخزين الأدلة على منصات لامركزية مثل IPFS لمنع تزويرها أو حذفها.

ب. أدوات ثورية مقترحة

منصة “الحقيقة الخالدة”: نظام ذكاء اصطناعي مفتوح المصدر يحوِّل الشهادات إلى رموز رقمية (NFTs) تُخزَّن على بلوكتشين، مع إرفاق بيانات تعريفية تثبت صحتها.

المحكمة الافتراضية: منصة دولية تستخدم الواقع الافتراضي (VR) لإعادة تمثيل جرائم الإبادة بدقة، مما يسمح للقضاة والشهود بالتفاعل مع الأدلة كما لو كانوا في الموقع.

الخاتمة: التكنولوجيا ليست محايدة… إنها مرآةٌ لأخلاقنا

الذكاء الاصطناعي في هذه المعادلة ليس مجرد أصفار وآحاد … إنه اختبارٌ لإنسانية البشر. هل نستخدم تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي لتدوين رواية الضعيف أم لتمزيقها؟ بينما تُسقط الصواريخ الذكيةُ أطنانَ الموت على غزة، يكتب نشطاء غزيون – بأنوار هواتفهم – فصولًا جديدةً في تاريخ المقاومة … مقاومة النسيان.

هذه هي الرسالة التي يحملها الذكاء الاصطناعي: يمكن أن تكون أداة إبادة أو وسيلة إنقاذ… الخيار لنا.

المصادر

تقرير: الاحتجاز التعسفي للأويغور قد يشكل جرائم ضد الإنسانية – DW – 2022/9/1

إرشادات ومحاذير استخدام الذكاء الاصطناعي في صحافة البيانات | شبكة الصحفيين الدوليين

Myanmar: Facebook’s systems promoted violence against Rohingya; Meta owes reparations – new report – Amnesty International

Shall androids dream of genocides? How generative AI can change the future of memorialization of mass atrocities | Discover Artificial Intelligence

AI emotion-detection software tested on Uyghurs
بالصور والأقوال والأفعال، رواة القصص من اللاجئين الروهينغا ينسجون الأمل من اليأس | مفوضية اللاجئين


الذكاء الاصطناعي للتجسس على الفلسطينيين.. ما هو مشروع “نمبوس”؟ | عربي بوست

Genocide in Gaza: Enabled by AI, powered by Big Tech | TV Shows | Al Jazeera

الكشف عن خطط أمازون السرية في إسرائيل | تكنولوجيا | الجزيرة نت

إسرائيل تستخدم “الذئب الأحمر” للتمييز العنصري ضد الفلسطينيين – التليغراف – BBC News عربي

“برمجية” تُنهي الحياة! هكذا استخدمت إسرائيل الذكاء الاصطناعي لزيادة ضحاياها في غزة – مجلة الفراتس

ماذا تعرف عن «نيمبوس»؟.. أطلقته أمازون لدعم الاحتلال الإسرائيلي بمليار دولار – اقتصاد – الوطن

الهوية أم البقاء؟ حفظ الإرث الثقافي للروهينغا بالوسائل الرقمية – Forced Migration Review

اشترك في نشرتنا البريدية للإطلاع على ملخص الأسبوع

Blank Form (#5)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

طالع أيضا