قراءة سياسية واستراتيجية على ضوء مضامين كلماته
بالنظر لتصريحات الموفد الأمريكي إلى لبنان وسوريا، توم باراك، نلخص فحوى الرسالة الأمريكية كما يلي:
أولًا: الاعتراف الصريح بفشل المشروع الغربي في الشرق الأوسط
افتتح توم باراك حديثه باعتراف نادر في الخطاب الأمريكي الرسمي:
“كل ما فعله الغرب في المنطقة منذ سقوط الدولة العثمانية كان خاطئًا.”
هذا التصريح يحمل إدانة كاملة للحقبة الاستعمارية الغربية التي أعادت رسم خريطة الشرق الأوسط وفق اتفاقيات سايكس بيكو، وما تبعها من مشاريع تقسيم وتمزيق للهوية الإسلامية والعربية.
اعترافه بأن “وضع أعلام على قبائل وجعلها دولًا لم ينجح” يؤكد أن الغرب أوجد كيانات مصطنعة بلا مقومات حقيقية للدولة الحديثة، تعتمد على الولاء الخارجي أكثر من الانتماء الوطني.
الولايات المتحدة تحاول اليوم تجاوز هذا الإرث التاريخي عبر “إعادة هندسة الشرق الأوسط” على أساس جديد، تقوده “إسرائيل” بوصفها القوة المهيمنة، مع تحييد القوى الإسلامية والمقاومة.
ثانيًا: إسرائيل كالمحور المركزي في الرؤية الأمريكية الجديدة
صرّح باراك بوضوح: “إسرائيل أصبحت القوة المهيمنة في لعبة الشطرنج في الشرق الأوسط، والاتفاقيات الإبراهيمية هي الطريق الذي ينبغي للجميع الانضمام إليه.”
هذا يُعبّر عن تحول استراتيجي في رؤية واشنطن: من محاولة إدارة المنطقة إلى تمكين “إسرائيل” لقيادتها فعليًا، سياسيًا واقتصاديًا وأمنيًا.
تصريحه حول “عدم حدوث حرب بين تركيا وإسرائيل أبدًا” و”الاصطفاف الممتد من البحر الأسود إلى المتوسط” يشير إلى محور إقليمي جديد يضم تركيا و”إسرائيل” وبعض الدول العربية المطبّعة، في مواجهة محور المشروع الإيراني ظاهرا، والمعادين للمشروع الأمريكي ضمنيا.
واشنطن تسعى لتشكيل “شرق أوسط جديد” قائم على التطبيع الشامل والهيمنة الإسرائيلية الاقتصادية والعسكرية، في ظل انسحاب أمريكي نسبي من التدخل المباشر.
ثالثًا: لبنان وسوريا في عين العاصفة
اعتبر باراك أن: “لبنان دولة فاشلة يتحكم فيها حزب إرهابي.”
“دمشق ستصل إلى تل أبيب أولًا وستظهر الطريق للبنان.”
تتضح من خلال هذه التصريحات، استراتيجية الضغط على لبنان عبر البوابة السورية. فهو يربط استقرار لبنان بمدى تجاوبه مع التطبيع مع “إسرائيل”، ويشير إلى أن النظام السوري الجديد يسير “نحو طريق التطبيع”.
والرسالة للبنان واضحة: “إما أن تنضموا لمسار التطبيع، أو تبقوا خارج اللعبة وتتحملوا نتائج العزلة.”
التصريحات تكشف عن خطة أمريكية لإعادة تأهيل النظام السوري سياسيًا مقابل إشراكه في منظومة إقليمية تقودها “إسرائيل”، وهو ما يُفسّر الحديث عن “زخم جديد” و”الهدنة في غزة” كجزء من مخطط دمج إقليمي تدريجي.
رابعًا: التحول من التدخل العسكري إلى النفوذ الاقتصادي
قال باراك: “ترامب لن يضع المال والجنود الأمريكيين في حروب القبائل في الشرق الأوسط.”
“لدينا 9 تريليونات دولار من رأس المال القابل للاستثمار في المنطقة.”
هذه العبارات تعبّر عن تغيير جوهري في العقيدة الأمريكية:
لم تعد واشنطن ترى الشرق الأوسط كساحة تدخل عسكري مباشر، بل كمجال لاستثمار نفوذها عبر رأس المال، والطاقة، والتكنولوجيا (مثل ستارلينك)، مع جعل الأمن بيد “إسرائيل” وحلفائها الإقليميين.
الولايات المتحدة تتحول من “الشرطي العالمي” إلى المدير المالي للمصالح، مع تمكين وكلائها الإقليميين من إدارة الصراعات بما يخدم أهدافها الاقتصادية.
خامسًا: بين سايكس بيكو واتفاقيات أبراهام
اعترف باراك بأن: “سايكس بيكو كانت رسم حدود حول قبائل وتجمعات بشرية ولم تكن النية خلق دول.”
ثم أضاف أن اتفاقيات أبراهام هي الطريق الجديد نحو شرق أوسط مختلف.
هذا يعني أن أمريكا تسعى إلى تجاوز النموذج القومي القديم (دولة – حدود – سيادة) نحو نموذج شبكي اقتصادي – أمني تقوده “إسرائيل” بالتعاون مع الأنظمة العربية المطبّعة، حيث تُستبدل “الحدود السياسية” بـ “الحدود التجارية والتكنولوجية”.
نحن أمام مشروع “سايكس بيكو 2.0” لكن بثوب جديد يقوم على الهيمنة الاقتصادية والتطبيع الإقليمي بدل الاحتلال العسكري المباشر.
سادسًا: البعد الأيديولوجي والرمزي
عندما قال باراك: “اللبنانيون يتحدثون ويتحدثون بدون نتائج.”
“أنتم تعيشون في عهد الديناصورات وليس في عصر ستارلينك.”
يعبّر عن نظرة استعلائية غربية تعتبر أن المجتمعات العربية عالقة في الماضي، بينما الحل هو في “التحديث عبر الاندماج في المنظومة الأمريكية – الإسرائيلية”.
كما أن حديثه عن “الخيوط العمودية والأفقية” في البحرين هو تشبيه ضمني لتفوق النماذج الملكية المستقرة على الجمهوريات الممزقة، مما يعكس الإعجاب الأمريكي بالنموذج الخليجي المستقر نسبيًا تحت المظلة الأمريكية.
تصريحات توم باراك تمثل خارطة طريق جديدة للسياسة الأمريكية في الشرق الأوسط تقوم على:
- تثبيت الهيمنة الإسرائيلية كقائد إقليمي.
- تصفية بؤر المقاومة (حزب الله – إيران – الفصائل الفلسطينية) وكل قوى جهادية معادية.
- تطبيع تدريجي مع سوريا ولبنان عبر قنوات اقتصادية وأمنية.
- استبدال التدخل العسكري الأمريكي بالتحكم المالي والتكنولوجي.
- تأطير المنطقة في مشروع “شرق أوسط أبراهيمي” اقتصادي – أمني مشترك.
الخطاب الأمريكي الجديد لم يعد يخفي نواياه: يريد شرقًا أوسطًا بلا مقاومة بلا جهاد، بلا سيادة حقيقية، تقوده “إسرائيل” تحت مظلة “السلام والازدهار”، بينما تُختزل الدول العربية في كيانات تابعة تدور في الفلك الأمريكي.
وما لم تُقابل هذه الرؤية بمشروع وعيٍ حضاري وإسلامي مضاد، فإن المنطقة ماضية نحو تطبيع شامل يُعيد إنتاج سايكس بيكو بثوبٍ جديد.




اترك تعليقاً