الذين يحملون تهمة “المثالية” تجاه خصومهم ممن يمارس النقد السياسي المنطلق من قيم الشريعة وأحكامها يعانون في الواقع من هذه المثالية إلّا من رحم ربّك.
لذلك تجد فكرة خطيرة تنتشر بين هؤلاء كالنار في الهشيم، مفادها أنّ مَن في السلطة “يعرف ماذا يفعل”، وأنّنا “نثق به”، ولنترك الأمر لأهله من أولي الأمر، وبما أنّه نجح في كذا فبالتأكيد سينجح في كذا.. وأمثال هذه العبارات.
مشكلة هذه الطريقة في التفكير – فضلا عن مخالفتها لأوامر شرعية – أنّها تفترض المثالية في شخص الحاكم، وأنّه إذا كان فاضلًا نبيلًا حاذًقا فلن يضيّع رعيّته. ولو راجعوا كيف كانت الأمة تعامل أحسن حكّامها من الخلفاء الراشدين المبشّرين بالجنّة لأدركوا مقدار الخطأ والمثالية التي يعيشونها!
والواقع أنّ الإسلام في أكثر لحظات تطبيقه البشري مثاليةً بعد عهد النبوة، وهي لحظة الشيخين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، كان واضحًا جدّا في واقعيّته، تلك الواقعية التي تخبرنا بأنّه حتى لو كان الحاكم فاضلًا قويّا تقيًّا، حتى لو كان “الصدّيق” أو {ثانيَ اثنين إذ هما في الغار}، حتى لو وُضع الحقّ على لسانه كما جاء في الحديث عن عمر، حتى لو كان إذا لقيه الشيطان يسلك فجّا سلك فجّا غيره كما جاء في عمر أيضًا.. حتى لو كان الحاكم بهذه الصفات فهو في حاجة إلى “جماعة” من الأمة تتابع تدبيره السياسي وتحاسبه وتقوّمه.
ولذلك قال أبو بكر في خطبة توليته “فإنْ أحسنتُ فأعينوني، وإنْ أسأتُ فقوّموني”. وذلك في أشدّ لحظات الأمة حرجًا وخطرًا بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلّم وقُبيل حروب الردّة.
وفي رواية أنّ عمر قال يوما في مجلس وحوله المهاجرون والأنصار: “أرأيتُم لو ترخّصتُ في بعض الأمر، ما كنتم فاعلين؟ فسكتوا، فعاد مرتين، أو ثلاثا، قال بشير بن سعد: لو فعلتَ قوّمناك تقويم القدح. قال عمر: أنتم إذًا أنتم”.
كان هذا أمرًا مفروغًا منه لاستمرار “الرُّشد”، وهو أمر واقعي بعيد عن مثاليات الذين يحلمون بفاتحٍ تقوم على كاهله عزة الأمة ونهضتها. والعجيب أنّهم يجمعون مع هذه الأحلام الدعوة إلى السكوت وترك الحاكم يفعل ما يشاء بلا محاسبة وتقويم بسبب الظرف الذي هو فيه، بل يفعلون شيئا أسوأ: وهو الذمّ والتقريع العلني لمن يقوم بهذا الواجب الشرعيّ!
ومن خصائص أبي بكر وعمر – كما يشير الشيخ عبد المجيد الشاذلي رحمه الله – أنّهما لم تكن لهما شيعة كما حدث بعد ذلك، فقد كان أبو بكر فردًا في الأمة وكذلك عمر الذي رفض إدخال أقاربه (ابنه عبد الله وابن عمّه سعيد) في توليةٍ أو إمارة، وبهذا كانت الجماعة السياسية التي تمارس الترشيد والشورى والرقابة والحسبة على الحاكم قوية تحقّق السياسة الراشدة التي ستظلّ على مرّ الدهور مصباحًا ينير للمسلمين الطريق حتى يفيئوا إليه ويقتدوا به على قدر ما يستطيعون كما أمرهم نبيّهم صلّى الله عليه وسلّم حين قال: “اقتدوا باللّذين من بعدي أبي بكرٍ وعمر”.
كتبه الباحث والكاتب شريف محمد جابر.




اترك تعليقاً