العراق.. آخر حليفٍ لإيران في الشرق الأوسط

original

العراق، الغنيّ بالنفط والمفعم بحركة إعمارٍ متجددة، ما زال عاجزًا عن الانفلات من بين نفوذ الولايات المتحدة وإيران.

على مدى أكثر من ثلاث سنوات، نجح العراق في البقاء بعيدًا عن عناوين الأخبار. ففي حين عصفت الحروب والاضطرابات بمناطق أخرى من الشرق الأوسط، ظلّت بغداد بمنأى عن تلك الكوارث.

غير أنّ كثيرًا من العراقيين أعربوا لي عن خشيتهم من أن لا يدوم هذا الهدوء طويلًا. فقد تعرّضت إيران خلال العام الماضي لضرباتٍ موجعة من الولايات المتحدة وإسرائيل، وتفكّك ما يُعرف بـ«محور المقاومة» الذي كانت تتزعمه. ووجد العراق نفسه في موقعٍ حرج، بوصفه آخر حليفٍ كبيرٍ لإيران في المنطقة، وشريانًا اقتصاديًا حيويًا لنظامها الذي يعاني ضائقةً مالية خانقة. ولم يُبدِ الرئيس دونالد ترامب أيّ تعليقٍ بشأن هذه العلاقة، رغم استمراره في محاولاته لخنق الاقتصاد الإيراني عبر العقوبات.

واليوم تقترب الانتخابات ـ إذ سيقترع العراقيون في الحادي عشر من نوفمبر لاختيار برلمانٍ جديد ـ بينما يفاخر رئيس الوزراء الحالي محمد شياع السوداني بحالة الهدوء النسبي والرخاء الذي تعيشه البلاد. وقد اتخذ من رافعة البناء شعارًا لحملته الانتخابية، في إشارةٍ إلى طفرة الإعمار التي شهدتها السنوات الأخيرة. واستحدث خلال العام الماضي أكثر من مليون وظيفةٍ في القطاع العام، ما خفّف من أزمة البطالة، لكنه في المقابل زاد من احتمالات إفلاس الدولة.
ورغم أجواء التفاؤل هذه، لا تزال المخاوف قائمة من أن يتحوّل العراق مجددًا إلى ساحة صراعٍ بين الولايات المتحدة وإيران.

أشرف السوداني على مرحلةٍ شهدت ارتفاعًا هائلًا في أسعار النفط بفعل الحرب في أوكرانيا، إلى جانب تفشٍ غير مسبوقٍ للفساد. ومن العسير تحديد حجم الأموال التي نُهبت إلى جيوبٍ خاصة، غير أنّ عددًا من المسؤولين الحكوميين ورجال الأعمال أبلغوني أنّ المشكلة تفاقمت على نحوٍ خطير منذ عام 1443هـ (2022م)، حين كُشف عن سرقةٍ صادمةٍ لمبلغ 2.5 مليار دولار من عائدات الضرائب، عُرفت محليًا باسم «سرقة القرن»، وشكّلت ذروة الفساد في العراق. وقد انتهى الجزء الأكبر من هذه الأموال في خزائن الأوليغارشيين والميليشيات المدعومة من إيران، الذين يهيمنون على المشهد السياسي في البلاد.

قال لي أحد المسؤولين السابقين، مشترطًا عدم الكشف عن اسمه خشية الانتقام: «ليس من قبيل المصادفة أنّنا لم نشهد أيّ احتجاجاتٍ شعبوية؛ الجميع يحصل على نصيبه من المال. لكن هذا الوضع لا يمكن أن يستمر. فبمجرد أن تهبط أسعار النفط إلى مستوى معيّن، لن تتمكن الحكومة من دفع الرواتب، وعندها ستندلع الاحتجاجات الدامية.»

وهذا ما حدث فعلًا في أكتوبر عام 1440هـ (2019م)، حين اندلعت مظاهراتٌ ضد الفساد والبطالة في أنحاء العراق، لتتحوّل إلى مواجهاتٍ عنيفةٍ في الشوارع أسفرت عن مئات القتلى. تلت ذلك سنتان من الاضطراب السياسي، إذ حاول رئيس الوزراء آنذاك مصطفى الكاظمي عبثًا كبح جماح الميليشيات الشيعية المدعومة من إيران، والمعروفة باسم «الحشد الشعبي».

ظهرت تلك الميليشيات لأول مرة عام 1435هـ (2014م) لمساندة الجيش العراقي في مواجهة تمرد تنظيم «داعش». وعلى خلاف الكاظمي، احتضن السوداني هذه المجموعات ودعمها ماليًا ومعنويًا. فقد أغدق عليها العقود الحكومية بوتيرةٍ محمومة، وأسس كيانًا مملوكًا للدولة يُدعى «شركة المهندس العامة»، وُصفت بأنها النسخة العراقية من «الحرس الثوري الإيراني». وفي وقتٍ سابقٍ من هذا الشهر، فرضت وزارة الخزانة الأميركية عقوباتٍ على «المهندس»، ووصفتها بأنها واجهةٌ لجماعاتٍ إرهابية. ولا تزال تلك الميليشيات وحلفاؤها يستفيدون من ما يُعرف بـ«مزاد الدولار» الذي تنظّمه الحكومة العراقية يوميًا، وهو آليةٌ طال استخدامها للفساد واسع النطاق.

قدّم السوداني نفسه باعتباره رجلَ براغماتيةٍ وواقعية، إذ إنّ العراق يتقاسم حدودًا يسهل اختراقها تمتد 994 ميلًا مع إيران، ما يفرض على رئيس الوزراء موازنة مصالح هذا الجار القويّ مع مصالح شريكٍ أشد قوةً في واشنطن. ويرى بعض المراقبين أنّ له فضلًا في محاولاته لتطويع الميليشيات الشيعية واحتوائها. تقول ماريا فانتابييه، مديرة برنامج الشرق الأوسط في «المعهد الإيطالي للشؤون الدولية» في روما: «هؤلاء لا يزالون مقاتلين، لكنهم اليوم يرتدون البزّات الرسمية وأصبحوا جزءًا من مؤسسات الدولة. هناك من يرى أنّ هذا أفضل من بقائهم خارجها يطلقون الصواريخ على القواعد الأميركية.»

ومع ذلك، تجاوز السوداني في منح العقود الحكومية الكثير من الإجراءات والضمانات المتعارف عليها. وربما ساعده ذلك على تشييد مزيدٍ من الجسور والطرق مقارنةً ببعض أسلافه، غير أنّ التنازلات التي قدّمها لتلك الميليشيات تثير تساؤلاتٍ مقلقة.

ففي وقتٍ سابقٍ من هذا العام، وقّعت وزارة الاتصالات العراقية عقودًا مباشرةً، دون منافسةٍ أو مناقصة، مع «الحشد الشعبي» و«شركة المهندس العامة»، تتعلق بصيانة شبكة الألياف الضوئية في العراق وبناء شبكةٍ بديلةٍ جديدة. وهذه العقود، التي لم يُكشف عنها من قبل، منحت الميليشيات ما طالما سعت إليه: السيطرة على شبكة البيانات الوطنية في البلاد. وقد أكد عددٌ من المسؤولين العراقيين والعاملين في قطاع الاتصالات أنّ خطورة هذه العقود لا تكمن فقط في ما تتيحه من فرصٍ للإثراء غير المشروع، بل في ما تحمله من تهديدٍ أمنيٍّ بالغ؛ إذ إنّ الميليشيات، أو رعاتها في طهران، قد يتمكنون بمرور الوقت، بفضل هذه السيطرة، من مراقبة أيّ شخصٍ داخل العراق.

في سياقٍ مشابه، حاول السوداني مؤخرًا تمرير عقد حصري لتقنية الجيل الخامس لشبكات الهواتف المحمولة لمجموعةٍ أخرى ترتبط بـ«الحشد الشعبي». وقد أعاق أحد قضاة المحكمة العليا تنفيذ العقد، مشيرًا إلى أنّه يثير تساؤلاتٍ تتعلق بالأمن القومي، غير أنّه قد لا يتمكن من إيقافه إلى أجلٍ غير مسمّى.

ويقول من يدافع عن السوداني إنه يعمل ضمن حدود نظام تقاسم السلطة الطائفية الذي أُقيم بعد عام 2003 والمعروف باسم «المحاصصة»، والذي وُضع لحماية التعددية، لكنه تحوّل إلى آلةٍ للمنح والمحسوبية. ويشير بعضهم إلى أنّ السوداني، الشيعي المنتمي لحزبٍ صغير، يسعى لبناء ائتلافٍ متعدّد الطوائف قد يحقق نتائج جيدة في الانتخابات. ومع ذلك، وحتى إذا حصل على كتلةٍ كبيرة من الأصوات، فسيظل على الأرجح أسيرًا سياسيًا للفصيل الشيعي المهيمن المعروف باسم «إطار التنسيق»، المدعوم من إيران وذو الروابط القوية مع الميليشيات، الأمر الذي يقلّص هامش التغيير السياسي الحقيقي.

وقد قبل الرؤساء الأميركيون السابقون على مضض حدود النظام السياسي العراقي، مطالبين القادة العراقيين بالابتعاد عن طهران، ولكنهم تجنّبوا اتخاذ إجراءات من شأنها إعادة البلاد إلى صراعٍ مفتوح. وقد يتّخذ ترامب، المعروف بعدم صبره على التسويات الدبلوماسية، نهجًا مختلفًا.

ومنذ عودته إلى الرئاسة في يناير، لم يُبدِ ترامب اهتمامًا كبيرًا بالعراق. غير أنّ القرار الأخير لوزارة الخزانة الأميركية بفرض عقوبات على «شركة المهندس العامة» واثنين من الأوليغارشيين العراقيين البارزين أثار همساتٍ متوترة بين النخبة الفاسدة في بغداد.

وقال لي أحد المسؤولين السابقين: «هؤلاء خائفون. طالما لم تتوصل الولايات المتحدة إلى اتفاق مع إيران، ستستمر حملة الضغط الأقصى، وقد يعني ذلك استهدافهم داخل العراق.»

The Atlantic

اشترك في نشرتنا البريدية للإطلاع على ملخص الأسبوع

Blank Form (#5)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

طالع أيضا