قبل سنتينٍ من هذا اليوم — السابع من أكتوبر عام ثلاثة وعشرين — لم يكن يومًا عاديًا. استيقظ العالم بدهشة لم تكن كأي دهشة؛ حدثٌ أمني غير مجرى الشرق الأوسط إلى الأبد.
لكي يتضح المشهد أكثر: مقاومة محاصرة في بقعة صغيرة اسمها غزة، لا تملك معطيات مادية تُذكر إلا عزيمة الرجال. كيف استطاعت أن تكشف عن هشاشَة أعتى كيان في الشرق الأوسط، وأن تُسقط هيبة جيشٍ قيل إنه «لا يقهر»؟ كيف نفّذت أعقد وأنجح عملية أمنية في التاريخ المعاصر؟ كيف أعمت عيون الشرق والغرب؟
كي تفهم أكثر، عزيزي القارئ، أُصوّر لك وجهَ الشرق الأوسط في السادس من ذلك الشهر. المقاومة الفلسطينية في غزة، المحاصرة بصمت وهدوء، اتخذت القرار وخطّطت للتنفيذ في بيئة معقّدة وظروف غير مسبوقة.
المدينة مكشوفة من الأعلى ومغلقة من الجوانب؛ لها مداخل محدودة، وكلّها في قبضة العدو، إلا معبر واحد يُدعى رفح، يدار من جانب جهة تعتبرها المقاومة أضعف وأحقر من خصمها. الكاميرات مُثبّتة على السياج الحدودي، والرّشّاش الآلي مزوّد بما يكفي من الرصاص ليقتل كل من يقترب من السياج دون الحاجة لتدخل بشري.
الكيان الغاصب ينام مطمئنًا، لا يتوقع الضربة لحضور عيونٍ كثيرة داخل العدو والصديق. هو يخطّط لضربة استباقية تشلّ قدرات المقاومة على إثر ما حصل في عملية «سيف القدس»، والقطعان الاستيطانية تسرق الأرض من أهلها في الضفة، وتخطّط إسرائيل لهدم المسجد الأقصى وبناء «الهيكل» المزعوم.
تتواجد مليشيات إيران على مقربة من حدود فلسطين المحتلة، بدءًا من سوريا مرورًا بالعراق ووصولًا إلى لبنان، وهي مدججة بترسانة عسكرية ضخمة وببنية تحتية تتيح لها البقاء في أي سيناريو محتمل مع إسرائيل.
غير أنّ هذه المليشيات لم تُنشأ أساسًا لصدّ العدوان الإسرائيلي، بل لقمع أهل السُّنة في تلك البلدان.
وفي المقابل، تتسابق الأنظمة العربية إلى تطبيع العلاقات مع الكيان الصهيوني، بينما الشعوب العربية في سباتٍ عميقٍ أنهكتها الحروب والصراعات والانقسامات والذلّة والقهر.
وفي خضمّ هذه الظروف الميدانية والسياسية، قررت قيادة المقاومة الفلسطينية تنفيذ عملية السابع من أكتوبر.
لماذا السابع من أكتوبر؟
سؤالٌ يتساءله البعض، لكنه في الحقيقة ليس مطروحا في التفكير المنطقي؛ فالمقاومة، رغم محدودية إمكانياتها، لم تعد قادرة على تحمّل العنجهية الصهيونية في أرضها واستباحة مقدساتها، وكان لا بدّ من اتخاذ القرار للأسباب التالية:
أولًا: قضية الأسرى الفلسطينيين
ما يزال مئات من قادة وأعضاء المقاومة وآلاف من أبناء الشعب الفلسطيني مكبّلين في سجون الاحتلال، يُستباح حرمهم ويُنتقص من كرامتهم.
ولأنّ فكاك الأسرى لم يعد ممكنًا عبر المفاوضات الصفرية التي لا تُثمر شيئًا، فقد كان لا بدّ من التحرك ميدانيًا، خصوصًا وأنّ الكيان الصهيوني يولي اهتمامًا بالغًا بأسرى جيشه ومواطنيه، مما يجعل ملف التبادل أكثر قابلية للتفاوض بعد أي عملية نوعية.
ثانيًا: حصار غزة لأكثر من عقدٍ ونصف
القطاع يعيش تحت حصارٍ خانقٍ من جميع الجهات، ومصادر الحياة بيد العدو الصهيوني الذي يفتح ويغلق المعابر كيفما شاء ومتى شاء وبالقدر الذي يريد.
أما حكومة السيسي، فقد أغرقت ما استطاعت من الأنفاق التي كانت تُستخدم لتهريب الأسلحة وبعض الاحتياجات، ولم يبقَ إلا القليل، إن بقي في الأساس شيء يُذكر.
ثالثًا: التصعيد في القدس والضفة الغربية
شهدت الأيام التي سبقت الحرب اعتداءات متكررة على المصلين من قِبل قطعان المستوطنين، وفرضت سلطات الاحتلال قيودًا على المصلين والمعتكفين في المسجد الأقصى.
كما تصاعدت وتيرة الاستيطان في الضفة الغربية، وتكاثرت هجمات المستوطنين الهمجية، ما أنهك الشعب الفلسطيني وأذكى نار الغضب في نفوس أبنائه.
رابعًا: الجمود السياسي في القضية الفلسطينية
لم يعد هناك أي أفق سياسي للقضية الفلسطينية، وتمّ عمليًا تصفية ما يسمى بـ”حلّ الدولتين”، وكادت القضية أن تُنسى تمامًا، خصوصًا بعد “صفقة القرن”.
وفي الوقت نفسه، تسابق حكّام العرب إلى التطبيع مع الكيان المجرم؛ فمنهم من طبّع بالفعل، ومنهم من يسعى إليه سعيًا حثيثًا.
أمام هذا المشهد المخزي، لم يكن أمام المقاومة إلا أن تقف بوجه هذا المشروع الخسيس.
لم يكن أمام المقاومة الفلسطينية بُدٌّ من خوض مغامرةٍ محسوبةٍ من جهة، وغير محسوبةٍ من جهة أخرى، في مواجهة واقعٍ عربيٍّ متخاذل وعدوٍّ متغطرس، دفاعًا عن الأرض والكرامة والإنسان.
ما تداعيات السابع من أكتوبر ؟
لا شك أن عملية السابع من أكتوبر غيرت مجرى التاريخ عموما وحولت مسار الشرق الأوسط بالأخص.ومن نتائج هذه العملية الباسلة:
- تسريع انهيار نظام الأسد في سوريا:
يمكن القول إن عملية السابع من أكتوبر كانت عاملًا مسرّعًا لانهيار نظام بشار الأسد، وإن لم تكن السبب المباشر. الحرب الإسرائيلية على غزة والاشتباكات على الجبهة اللبنانية استنزفت حلفاء الأسد الرئيسيين، إيران وميليشيا حزب الله، وأجبرتهما على تحويل تركيزهما ومواردهما بعيدًا عن سوريا. هذا الفراغ الاستراتيجي مكّن فصائل المعارضة السورية من إعادة تنظيم صفوفها وشن هجوم خاطف أدى في النهاية إلى الإطاحة بالنظام. إذن، فالتغيير الجذري في سوريا هو إحدى النتائج غير المباشرة ولكن بالغة الأهمية للحرب التي بدأت في السابع من أكتوبر.
- تجميد مسار التطبيع العربي مع إسرائيل:
شكلت العملية ضربة قاصمة لمسار التطبيع الذي كان يتسارع بين إسرائيل وعدد من الدول العربية، وعلى رأسها المملكة العربية السعودية. المشاهد المروعة للحرب على غزة خلقت ضغطًا شعبيًا هائلًا على الحكومات العربية، وجعلت من المستحيل سياسيًا المضي قدمًا في أي اتفاقيات جديدة مع إسرائيل. بل إن الدول التي طبعت سابقًا وجدت نفسها في موقف حرج، واضطرت لرفع لهجتها الدبلوماسية ضد الممارسات الإسرائيلية.
- إعادة تشكيل قواعد الاشتباك مع إيران و”محور المقاومة“:
أدت العملية إلى تفعيل ما يُعرف بـ”محور المقاومة” الذي تقوده إيران، حيث انخرطت أذرعها في المنطقة (حزب الله في لبنان، أنصار الله “الحوثيون” في اليمن، والفصائل في العراق) في مواجهات بدرجات متفاوتة مع إسرائيل وحلفائها. هذا الوضع أدى لأول مرة إلى مواجهة عسكرية مباشرة بين إيران وإسرائيل.
- فرض حصار بحري جزئي على إسرائيل في البحر الأحمر:
مثّلت هجمات جماعة أنصار الله (الحوثيين) في اليمن على السفن المرتبطة بإسرائيل أو المتجهة إلى موانئها تطورًا استراتيجيًا نوعيًا. لقد نجحوا في فرض حصار بحري جزئي، مما أثر بشكل ملموس على الاقتصاد الإسرائيلي وأجبر خطوط الملاحة العالمية على تغيير مساراتها. هذا الأمر استدعى تدخلًا عسكريًا أمريكيًا وبريطانيًا (عملية “حارس الازدهار”) لمحاولة تأمين الملاحة، لكن الهجمات استمرت، مما أثبت ظهور لاعب جديد قادر على التأثير في أحد أهم الممرات المائية في العالم.
ما ذا استفادت المقاومة وماذا خسرت؟ وماذا خسر الكيان؟ هل كانت العملية مغامرة غير محسوبة أم عملية مدروسة؟سنبحثه في مقال لاحق إن شاء الله.
اترك تعليقاً