الذكاء الاصطناعي في الفصل الدراسي: إضاءات تقنية.. وظلال أخلاقية

OIP

المقدمة: التربية قبل التعليم… والأخلاق قبل العلم

لطالما سبقت التربيةُ التعليم، ولطالما كانت الأخلاق لها السبق على العلم، فكان المعلم هو المربي والقدوة الحسنه، ومعلم الأخلاق قبل كونه صاحب معلومة أو فهم، وإن كل ما في حياتنا من جماليات كالعلم والعمل وحتى العبادة، إلا إنهم أعدادٌ من الأصفار لا تسبق بقيمة أو تحمل معنى دون الواحد، والواحد الوحيد هو الأخلاق.

وفي هذا العصر المنفتح الجديد الذي يتسع على مصرعيه لتغيير وتعريف وتجديد كل مضامين حياتنا، يأتي الذكاء الاصطناعي حاملاً شعله التغيير، ورايه التحويل من هيئة لأخرى، ليطرح أسئلة ضمنية جودية في معنى التعليم وربطه بالتربية. وبلا شك فإن أي منظومة تعليمية تتجرد من ثوب الأخلاق هي منظومة هشة ضعيفة مؤقته، لا زرع باقٍ فيها ولا حصاد، وإنها لمجرد أن يظهر أبناؤها عراه حفاه من أخلاقهم ستنهار رأساً على عقب.

ولهذا تُطرح أسئلةٌ في شأن أن يحل الذكاء الاصطناعي محل المعلم، وما الكيفية التي يُقاس بها تواصل الذكاء الاصطناعي بالطلاب، وكيف يستطيع الذكاء الاصطناعي أن يعوض الجزء البشري المفقود ولمسة الإنسان الحانية من المعلم للطلاب، وهل تظهر للذكاء الاصطناعي قوه كقوة الادراك والوعي ليفرق المواقف بينه وبين الطلاب، فينظر أي المواقف يظل معلماً وأي المواقف الإنسانية يصبح الأب الموجه في وقت يحتاج فيه الطلاب لموقف أبوه وليس تعليمي بحت.


توضيح: الذكاء الاصطناعي في الفصل الدراسي… بين الإبهار والعجز

image 12

لا شك أن الذكاء الاصطناعي بقوته الهائلة على العمل المستمر دون كلل أو ملل، وقدرته على التتبع والتحليل، ومتابعه التسلسل التراكمي للمعلومات، قد لمس ولو جانباً واحداً من حياتنا، أو طال طرفاً من أطراف مشاغلنا، ولهذا فلا شك أيضاً بأنه قد طّور ونظّم وأعاد صياغه جوانب التعليم سواء في التلقي والمذاكرة أو في الاختبارات وتصحيحها، وإنه كريمٌ جداً في أدواته على حدين: الطلاب والمعلم، وكل حد يتطرق بأدواته لكل جوانبه.

فنجد أدوات الشرح والتلخيص والمراجعة والسمعيات والتدريب على الاختبارات، ونجد أدوات الحديث والمناقشة والتحليل، ووضع الرسومات والأشكال الإبداعية لتثبيت المعلومة. وإننا لنجد على الطرف الآخر الأيادي المئة للأدوات: كل أداة كاليد العاملة في خدمة المعلم، منها في وضع العروض التقديمية والأمثلة والشرح والاختبارات، ومنها أدوات التصحيح وكتابة الخطابات وهلم جرا.

لكن كل هذا لا يضاهي شيئاً في جانب التربية وتنشئة الطلاب على الأخلاق الكريمة. هنا، وفي هذا الصرح الواسع، يفقد الذكاء الاصطناعي اتزانه كلياً بمجموعه الأصفار والآحاد التي لديه على القيام بهذا الدور.


حتى لا تنخدع… نهج الذكاء الاصطناعي: الوهم الخادع

ربما لاحظنا في الآونة الأخيرة إصدارات وإعلانات وشراكات لخلق أدوات الذكاء الاصطناعي ذات الأجيال الحديثة، وإنك بضغطه زر واحدة تقوم بأتمتة أعمالك. وعلى الجانب الاخر، تبرز الشركات في إنشاء المساعدين الافتراضيين ذوي بنيه تحتيه على مفاهيم حديثه لهذا المجال، ليفتح فروعا جديدا في العلم. لكن ولمره واحده، نستطيع النظر في عمق الموضوع وطرح سؤالًا مثل: بعد كل هذا، هل يمتلك الذكاء الاصطناعي إدراكًا؟

في الحقيقة، إن التطور الماثل أمامنا هو تطور في اتباع أوامر المبرمجين، وكيفية صياغة حلول مشاكل من قِبل الذكاء الاصطناعي.

لكن هذا لا يدل بالمرة على كونه كوّن وعيًا يعي به الأمور، أو إدراكًا يخلق به قريحةً يدلف منها لفهم الانسان، إذا كان الإنسان لا يفهم نفسه أصلاً، فالوعي الإنساني هو نتاج تراكمي من خبرات وإدراك ومعرفة وأخطاء وصواب ومشاعر وإدراك وتصحيح مسارات على طول حياته، وكل هذا لا يستطيع الذكاء الاصطناعي القيام به بمجموعة القواعد والخوارزميات.

فالنفس البشرية أكبر من كونها تُصاغ في بضع دردشات مع نماذج تخطئ كثيراً، حتى نماذج السببية التي بُنيت على التحليل النقدي والتفكير والعصف الذهني، فإنها في نهاية الأمر أُضيف لها مزيداً من الإبداع البشري في زي خطوات إضافية لحل المشاكل.

الأخلاق… الحصن الذي لا يُقهر ولا يُبرمج

من هذا الجانب نعبر إلى أن مكانة المعلم وإن جار عليها الذكاء الاصطناعي تعليميًّا، فإن الجانب الأخلاقي التربوي لا يُمس بل ولا يمكن المساس به بأي حال من الأحوال، فالمعلم بمتابعته للطلاب يعرف ظروفهم وأحوالهم ومستوى إدراكهم، وإلى أي مدى وصلت آفاقهم الفكرية، وهذا يأتي بعد متابعة من المعلم قد تستمر لسنوات، بجانب أنه يراعي الجانب النفسي للطلاب في أمور مثل التقييم أو التهذيب والتأنيب، ويراعي المجهود الأسري الذي يُنفق لتعليم الأطفال. فالمعلم في بادئ الأمر ونهايته إنسان وأبٌ له أولاده الطلاب يتمنى أن يجد معلماً ينظر له ولمجهوده المُنفَق في تعليم أولاده. فكيف يتم الخلط بين المعلم وهو هو وبين نظامًا أو مجموعةً من الخوارزميات؟

كلامي هذا ليس بوحيٍ، ويؤخذ منه ويُرد إليه، ولكن إلى الوقت الذي تُنسج فيه حروف المقال هذا، نحن بعيدون جداً حد البعد على أن يظفر الذكاء الاصطناعي بجانب التربية الإنسانية في عملية التربية والتعليم.


الذكاء الاصطناعي والأخلاق… معادلةٌ مستحيلة

لو افترضنا – جدلًا – أن الذكاء الاصطناعي استطاع غرس قيمة “الصدق” في طفلٍ عبر دروسٍ رقمية، فهل سيُدرك هذا الطفل أن الصدق ليس مجرد كلمةٍ تُقال، بل تضحيةٌ قد تكلفه خسارة منفعةٍ ما؟

الأخلاق لا تُختزل في معلوماتٍ تُحفظ، بل في مواقف حية يتفاعل معها الطالب عبر قدوةٍ بشرية. حين يرى الطفل معلمه يرفض الغش رغم ضغط الزملاء، أو يُصر على العدل رغم المحاباة، فهذا هو الدرس الأخلاقي الحقيقي.


أما الذكاء الاصطناعي، فحتى لو أنشأ مليون مثالٍ نظري عن الصدق، فلن يُجسِّد القيمةَ بدمٍ ولحم.

 المعلم… ذلك الكائن الذي لا تُعيده الخوارزميات

التعليم الجيد قد يُنتجه الذكاء الاصطناعي، لكن التربية العظيمة تصنعها القلوب الحانية، تخيل معي:

  • طالبًا فقيرًا يُعاني من تشتت أسري، فيلجأ إلى معلمته باكيًا لأن ذكاءً اصطناعيًّا لن يلاحظ دموعه الخفية.
  • طفلًا موهوبًا في الرسم لكنه خجول، فيكتشفه معلمه بالمصادفة ويُشجعه، بينما تظلُّ برامج AI عاجزةً عن رؤية ما وراء الدرجات.

هذه اللحظات الإنسانية – التي تُشكِّل فارقًا في مصير الأفراد – هي ما يجعلك تُدرك: أن الأخلاق لا تُبرمج.

ماذا لو حاولنا؟ محاكاة الأخلاق رقميًّا

قد يقول البعض: “لماذا لا نُدخل قيم الأخلاق في خوارزميات الذكاء الاصطناعي؟”. الإجابة ببساطة: لأن الأخلاق سياقية، تختلف باختلاف الثقافات والظروف والأشخاص. فما هو مقبولٌ في مجتمعٍ قد يكون منكرًا في آخر. الذكاء الاصطناعي – مهما بلغت دقته – سيظلُّ أداةً تحكمها تحيزات مبرمجيها، بينما المعلم البشري قادرٌ على التكيُّف مع تنوع القيم واحترام الفروق الفردية، لأنه – ببساطة – إنسانٌ يفهم الإنسان.

الخاتمة: الإنسان يبقى الأصل… والآلة خادمه

الذكاء الاصطناعي قد يُغيِّر شكل التعليم، لكنه لن يصل إلى عمق التربية. فشتان بين من يُلقنك المعلومات، ومن يُعلمك كيف تُحافظ على إنسانيتك. وكما قال الشاعر أحمد شوقي:

قُم للمعلِّمِ وَفِّهِ التبجيلا
كادَ المعلِّمُ أن يكونَ رسولا


فليكن الذكاء الاصطناعي خادمًا للمعلم، لا ندًّا له؛ فالأخلاق – في النهاية – صنعةٌ إلهية، لا تُقلِّدها الأصفار والآحاد.

المصادر

Human Teachers vs AI Teachers – Which is best? – PeacheyPublications.com

ENAI Recommendations on the ethical use of Artificial Intelligence in Education | International Journal for Educational Integrity | Full Text

Ethical principles for artificial intelligence in education | Education and Information Technologies

Ethical AI for Teaching and Learning | Center for Teaching Innovation

اشترك في نشرتنا البريدية للإطلاع على ملخص الأسبوع

Blank Form (#5)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

طالع أيضا