شهد الصومال خلال العقدين الماضيين وصاية دولية واسعة، ومظلة أمريكية مباشرة في محاربة تنظيم حركة الشباب، غير أن المشهد الحالي يعكس حالة من التراجع والتدهور الأمني والسياسي، في ظل الانسحاب التدريجي للمظلات الدولية والأجنبية. ويتجلى ذلك في إغلاق مكتب الأمم المتحدة في الصومال، وتقليص الوجود الأمريكي في الجنوب، ولا سيما في قاعدة بلدوغلي.
ويأتي هذا التحول في وقت تتزايد فيه المخاوف الدولية من احتمال سيطرة حركة الشباب على البلاد، على غرار ما حدث في أفغانستان، أو تكرار نماذج مشابهة لما جرى في سوريا. وهنا تبرز جملة من التساؤلات الجوهرية: لماذا يحدث هذا الانسحاب في هذه اللحظة تحديدًا؟ وما دلالاته في السياق الإقليمي والدولي الراهن؟ وما تأثيراته المحتملة على مستقبل الصومال؟ وهل ستنسحب الولايات المتحدة الأمريكية انسحابًا كليًا أم جزئيًا؟
في الواقع، فإن الانسحاب الأمريكي من الصومال ليس وليد اللحظة؛ إذ سبق أن قامت الولايات المتحدة بسحب جزء من قواتها خلال الولاية السابقة للرئيس دونالد ترامب، قبل أن تعيد انتشارها جزئيًا في عهد الرئيس جو بايدن. غير أن الثابت في السياسة الأمريكية هو إدراكها للأهمية الاستراتيجية البالغة للصومال، وهو ما دفعها إلى إنفاق مليارات الدولارات في محاربة حركة الشباب وتنظيم الدولة الإسلامية. ومع ذلك، فإن واشنطن لم تعد ترى نتائج ملموسة تتناسب مع حجم هذا الإنفاق، ولا تلمس جاهزية حقيقية لدى المجتمع الصومالي لتكرار نماذج التعبئة الشعبية، كما حدث في العراق مع الحشد الشعبي.
كما أن الولايات المتحدة لا تبدو عازمة على خوض حرب استنزاف طويلة الأمد ضد حركة الشباب، خاصة في ظل خبرتها الطويلة وتاريخها المعقد مع الجماعات الجهادية. ومن هذا المنطلق، يمكن القول إن واشنطن وصلت إلى حالة من الإحباط إزاء الواقع الصومالي، وترى أن تكرار سيناريو أفغانستان أو سوريا في الصومال بات احتمالًا واقعيًا.
ولهذا السبب، لا ترغب في هدر المزيد من الموارد دون أفق واضح للنجاح، وفي الوقت نفسه لا تريد الانسحاب الكامل الذي قد يفتح الباب أمام قوى دولية منافسة، كروسيا والصين، لملء الفراغ.
ولتفادي هذين الاحتمالين، يبدو أن الولايات المتحدة تتبع مسلكين متوازيين في سياستها تجاه الصومال:
- أولًا: تقليص وجودها العسكري المباشر في الجنوب، وحصر عملياتها ضد حركة الشباب في المجال الجوي، من خلال الاعتماد على الطائرات المسيّرة والضربات الجوية المحددة.
- ثانيًا: تكثيف حضورها السياسي والأمني في الأقاليم الانفصالية أو ذات النزعات الانفصالية، وتعزيز دور هذه الكيانات، مع تقليص مركزية العلاقة مع الحكومة الفيدرالية، وتقديم الدعم اللازم لبقائها، بحيث تشكل ورقة ضغط محتملة على حركة الشباب في حال تكرار سيناريو أفغانستان. ويشبه هذا النهج إلى حد كبير ما تطبقه الولايات المتحدة في سوريا، حيث تحتفظ بقوات سوريا الديمقراطية (قسد) كورقة ضغط في مواجهة السلطة المركزية.
وعليه، فإن الصومال اليوم يقف أمام مرحلة بالغة الصعوبة، في ظل الانتقال القسري نحو الاعتماد على الذات، دون جاهزية مؤسسية أو توافق وطني شامل، وفي سياق إقليمي ودولي شديد التعقيد، ما يجعل مستقبل الجمهورية الثالثة مفتوحًا على احتمالات متعددة، أبرزها سيناريو تفكك وانهيار جديد.




اترك تعليقاً