دخل أبو مسعود على حذيفة رضي الله عنهما فقال: «اعهد إليّ». فقال له حذيفة: «ألم يأتك اليقين؟» قال: بلى وعزة ربي،قال: «فاعلم أن الضلالة حقّ الضلالة أن تعرف ما كنت تُنكر، وأن تُنكر ما كنت تعرف، وإياك والتلون فإن دين الله واحد». [الإبانة الكبرى 1/189]
تعيش الساحة الشامية اليوم حالة ارتباك فكري وتبدّل في المواقف لم تشهد لها مثيلًا منذ اندلاع الثورة، إذ أصابها ما يشبه الصدمة جراء التحولات الحادة في الرؤى والأحكام والسياسات. ولعلّ أشد ما ولّد الإحباط والاضطراب هو الانعطاف الكبير الذي عرفته بعض الحركات الجهادية حين انتقلت من طور الدعوة والمواجهة إلى طور إدارة الدولة والسلطة، فتحوّل معها منهج التأصيل الشرعي الذي كان يؤسّس للموقف والفتوى إلى منهجٍ جديد يبرّر النقيض باسم “الواقعية السياسية” ومقتضيات المرحلة.
لقد انطلقت الحركة الجهادية في سوريا بخطاب شرعي واضح المعالم، قامت عليه سياسات عقدية واستراتيجية قتالية صارمة، كانت البراءة من التحالف الدولي فيها أصلًا عقديًا لا يقبل المساومة حتى في أحلك الظروف، ثم ما لبثت أن غدت اليوم أكثر براغماتية، حتى بلغت حدّ التقاطع المصلحي الذي يجيز التفاهم أو الالتحاق بالتحالف ذاته الذي كانت تُصنِّفه بالأمس عدوًّا محاربًا.
حين قرأتُ خبر انضمام سوريا إلى التحالف الدولي لمحاربة تنظيم الدولة، وبالعودة إلى الأدبيات الشرعية والسياسية للجماعة الحاكمة اليوم، وضعت احتمالين لتأصيل شرعي يمكن أن يستند إليه القوم – بغض النظر عن مصداقيته- إلا أنه كان سيكون مخرجا لهم فيه نظر.
الاحتمال الأول: أن يُعلنوا تكفير تنظيم الدولة، ويستخدموا ضده السلاح نفسه الذي يشهره في وجه خصومه ومنافسيه، وهو تهمة “العمالة المخرجة من الملة”.
أما الاحتمال الثاني: فهو الاستناد إلى بعض الفتاوى الضعيفة في باب “تكفير الخوارج”، لتبرير القتال ضد التنظيم تحت مظلة تحالف كافر.
لكن ما لم أكن أتوقعه هو أن تُبرَّر خطوة الانضمام للتحالف الدولي بفقه “المصلحة”، لا سيما من جماعة قامت أصلًا على أدبيات السلفية الجهادية، وجعلت من رفض التحالف مع الغرب أحد ثوابتها العقدية، ثم قاتلت تحت هذا الشعار حتى وصلت إلى قصر الرئاسة في دمشق!
لقد بدا الموقف صادمًا حتى في حسّ العامة، لأن الفطرة قبل النص تدرك أن هذا الانضمام مناقضٌ للشريعة، مهما حاول البعض تغليفه بالتأويل أو ليِّ أعناق النصوص لتطويعه لواقعٍ جديد.
ولذلك، فإن ما يقلقني حقًا ليس هذا الموقف العابر في ذاته، بل المنهجية التي تقف خلفه. منهجية تُعيد تشكيل البنية الفكرية للجماعة برمّتها، وتحولها من تنظيم جهادي بمنطلقات عقدية إلى كيان سياسي يسير وفق حسابات المصلحة الدولية.
وهذا أخطر ما في الأمر، لأن القيادة التي تبرّر هذا الانضمام المستهجن اليوم بهذا المنطق، قد تصبح نموذجًا يُحتذى به في العالم الإسلامي، ويُقدَّم كـ “قصة نجاح” لجماعة جهادية وصلت إلى الحكم.
وما أخشاه أن تتحول هذه البراغماتية شيئًا فشيئًا إلى دين جديد ومنهج منحرف، يُورّث للأجيال القادمة ويُشاد به على أنه حكمة سياسية وبراعة قيادية، بينما هو في جوهره انحرافٌ عن مقتضى لا إله إلا الله وعن منهج النبي صلى الله عليه وسلم.
من التكفير إلى التكيّف
في بدايات الأزمة السورية، تبنّى أحمد الشرع المعروف بكنية أبي محمد الجولاني – ومن خلفه هيئة تحرير الشام في مختلف مراحلها – خطابًا جهاديًا سلفيًا صارمًا، يرى في التحالف الدولي ضد “تنظيم الدولة” حربًا شاملة على الإسلام، بغض النظر عن الخلافات مع التنظيم نفسه. وقد عُدّت المشاركة في هذا التحالف، بأي صورة من الصور، ردةً عن الدين وخروجًا عن مقتضى الولاء والبراء.
آنذاك، وحتى بعد فك الارتباط بتنظيم القاعدة والتحول إلى مرحلة هيئة تحرير الشام وما رافقها من جدل ومناقشات، كان يُنظر إلى الجولاني بوصفه حارس المشروع الإسلامي الذي يرفض أي وصاية خارجية، ويرى أن التحالف مع الغرب – ولو بصورة غير مباشرة – موالاة للكفار لا تقبل التأويل. وهذا ما تتفق عليه النفوس السوية، فالتحالف الدولي لا يحارب التنظيم لوحده بل يحارب الإسلام والمسلمين كافة، ويعمل وفق استراتيجية حرب عقدية شاملة، في كل الميادين والساحات وبشتى الأشكال والوسائل.
لكن مع تعقّد المشهدين العسكري والسياسي في سوريا، ومع سيطرة هيئة تحرير الشام على إدلب وتزايد تدخل القوى الإقليمية، بدأ الجولاني ينتقل بشكل صريح أكثر من منطق العقيدة إلى منطق البقاء. وظهرت ملامح هذا التحوّل في خطابه الإعلامي وفي سياسات الهيئة التي اتجهت نحو إدارة محلية واقعية، وفتحت قنوات تواصل غير مباشرة مع قوى دولية وإقليمية، بهدف تثبيت سلطتها وتعزيز شرعيتها في إدلب.
وقد رصدت تقارير غربية عديدة هذا التحول، مشيرة إلى محاولات الجولاني تقديم نفسه كفاعل سياسي يمكن قبوله دوليًا، بل إن بعضها ذهب إلى القول إن هيئة تحرير الشام تسعى لتسويق نفسها بديلًا محتملاً عن نظام الأسد في حكم سوريا. غير أن الخلفية الجهادية السلفية للجولاني والهيئة ظلت تثير الريبة والتردد لدى المراقبين، مانعةً من الثقة الكاملة في صدقية هذه التحولات، التي بدت لكثيرين أقرب إلى براغماتية اضطرارية منها إلى مراجعة فكرية حقيقية.
البراغماتية كأداة بقاء
كانت انتصارات هيئة تحرير الشام والفصائل الشامية على ميليشيات الأسد وتحالفه الدولي، نقطة تحول كبيرة في سوريا، فإسقاط نظام الأسد المجرم، كان حلما كبيرا تحقق، ونهاية للمآسي الدامية التي تكبد منها السوريون آلاما لا تزال حاضرة في ذاكرتهم إلى اليوم.
لكن بعد هذه الانعطافة الكبرى في سوريا، والاحتفاء بإنجازات الجماعات الجهادية، برز التحوّل المنهجي لها بوضوح أكثر عند التعامل مع “الواقع الدولي”، وهو الواقع الذي دفع القادة الجدد في الساحة السورية إلى إعادة تعريف مفهومي “العدو” و”التحالف” وفق منطق المصلحة لا منطلق المبدأ. فاختلفت التعريفات تماما عن حقبة ما قبل سقوط الأسد.
يمكن فهم ما فعله الجولاني منذ ظهوره إلى اليوم، في إطار واحد فقط، إنها “البراغماتية الجهادية”، وهي نزعة تجعل “المشروع الإسلامي” قابلًا للتكيّف مع المتغيرات السياسية تحت شعارات من قبيل “درء المفاسد وجلب المصالح” أو “فقه الموازنات”.
غير أن هذه البراغماتية، حين تفقد ضوابطها الشرعية، تنقلب من وسيلة تكتيكية إلى انحراف عقدي خطير، تتحول معه المرونة إلى تنازل في الأصول لا في الوسائل، فيذوب الفارق بين المشروع الإسلامي والمشاريع السياسية والفكرية المخالفة والمعادية، التي كان يعارضها.
فحين يصبح التعامل مع التحالف الدولي مقبولًا بعد أن كان يُوصَف بأنه كفر بواح، تدخل المرجعية الشرعية نفسها في حالة ارتباك عميق، ويتسع الشرخ بين الخطاب والممارسة. وما يهمّ في هذا السياق ليس الحكم على الأشخاص أو تبرير التحول كما تنشغل الأغلبية، بل التداعيات الفكرية والسياسية والعسكرية، التي تُنتجها هذه البراغماتية، على المسلمين والمجاهدين أولًا، وعلى مستقبل المشروع الإسلامي في المنطقة بأسرها.
فالقضية لا تكمن في اتخاذ قرار متناقض أو موقف صادم فحسب، بل في المنهجية البراغماتية ذاتها التي تُعيد تشكيل الوعي والعقيدة والسياسة بشكل مضطرب وبمعزل عن مقتضيات “لا إله إلا الله محمد رسول الله”، تلك الكلمة التي كانت الركيزة الأولى لثورة الشام يوم خرجت مسلمةً أمرها لله، لا تساوم على دينها ولا تبيع مبادئها تحت ضغط الواقع.
البراغماتية تجلب المصالح وتوجب الخسائر
كشفت تجربة أحمد الشرع (أبي محمد الجولاني) عن تحول جذري في طبيعة الحركات الجهادية؛ إذ انتقلت من حركة عقائدية صلبة إلى كيان سياسي يبحث عن شرعية واقعية تضمن له البقاء.
قد يوفّر هذا التحول نجاةً ميدانية مؤقتة، لكنه يفقد الجماعة صدقيتها الشرعية والرمزية أمام جمهورها، ويمهّد لانقسامات داخلية بين التيار العقائدي المتمسك بالمبدأ والتيار البراغماتي الساعي للمصلحة.
فلم يعد “التمكين” اليوم يقوم على أساس عقدي يحشد المؤمنين والمجاهدين الصادقين والمواطنين المخلصين، بل على أساس مصلحي نفعي يجذب الطامعين والمتلوّنين أكثر مما يجذب أصحاب العقيدة والمبدأ والهدف النبيل.
كما أن هذا النمط من التكيّف يرسّخ في ذهن القوى الدولية فكرة إمكانية ترويض الجماعات الجهادية وتحويلها من خصمٍ عقدي إلى شريكٍ أمني يمكن توظيفه في مشاريع إقليمية تخدم مصالح الغرب، لا المبادئ التي رفعتها تلك الجماعات يومًا. وبهذا يتحقق نصر استراتيجي للمعسكر المعادي، ليس على الأرض فقط، بل على الفكر والهوية والولاء، حين يتحول العدو القديم إلى حليفٍ يقاتل في الاتجاه الذي تحدده واشنطن.
وهنا تكمن الخطورة: فبهذا المنطق يصبح موقف المسلمين التاريخي في رفض معسكر الكفر ومحاربته مجرّد سذاجةٍ في نظر البراغماتيين، وكأن الدماء التي سُفكت والعقائد التي صينت كان يمكن تجاوزها بـ“تفاهم سياسي” مع عدوٍ محارب!
غير أن الأزمة أعمق من ذلك لا تزال؛ فهي تمسّ جوهر الصراع الإسلامي وتفضح زيف الادعاءات الفكرية. إذ يبرز تساؤل مشروع:
كيف يُستنكر على “حماس” دخولها في المحور الإيراني المحارب لأجل المصلحة، بينما يُبرّر الدخول في محور التحالف الأمريكي المحارب بحجة هذه المصلحة؟
وكيف يُفهم الصراع أصلًا إن كان التحالف الدولي المحارب للإسلام يُقدَّم اليوم كضرورة سياسية؟
وما قيمة العقيدة والأساس الذي يقوم عليه الصراع، إذا هُدم هذا الأساس أو تحول إلى النقيض تماما باسم “فقه المصلحة”؟
أهي مصلحة الحفاظ على “سوريا الديمقراطية” بدعم أجنبي، ولو على حساب هوية الأمة ومبادئها وتاريخ التضحيات في سبيل الله تعالى؟
هل هو صراع لأجل نصر الإسلام في معركة مع تحالف كافر، أم صراع لأجل إقامة سلطان بلا هوية واضحة، ولا عقيدة صريحة ولا انتماء أصيل، يخضع لإملاءات الهيمنة؟
إذا ما قيمة كل الخطب والشعارات التي رفعت لتحرير سوريا قبل اللحظة؟ وما قيمة وصايا الاستشهاديين؟ وخطب ما قبل المعركة؟
إنها براغماتية تُعيد إنتاج كل ما كانت هذه الجماعات تنتقده في الأنظمة الوظيفية التي طالما وصفتها بالعمالة والتبعية، ثم ما إن جلست في مقاعد الرئاسة، انتهجت نهج من كانت تذمهم سابقا، وغدت البراغماتية نفسها صنمًا جديدًا يُعبد من دون الله، وتُقدَّم قرابين الولاء على مذبحها باسم “نصرة الدين”.
البراغماتية هي فتنة هذا الزمان؛ لا قواعد لها ولا ثوابت، تدور مع المصلحة حيث دارت، حتى تُفرغ الدعوة والجهاد من جوهرهما، وتحوّل الدين إلى أداة تبريرٍ للواقع بدل أن يكون ميزانًا يُقوَّم به الواقع. فالبراغماتية ليست الكياسة والفراسة كما يدعي حماتها ودعاتها، بل هي انحراف يطرأ على “لا إله إلا الله” وتوظيف يستهين بمقتضيات التوحيد وحقيقة الصراع الذي تعيشه الأمة.
بلغة المصلحة!
هل ستعني المناقشات الشرعية شيئا لصناع قرار سوريا اليوم، بعد قرار الانضمام للتحالف الدولي المحارب الذي يشرعنه اليوم مشايخ ودعاة وشرعيون كانوا بالأمس القريب يكفرون من ينضم إليه.
ولماذا نحتاج لنسخ نصوصهم التي أعلنوا بها البراءة من التحالف الدولي في أحلك الظروف والحيثيات، حتى في قلب حربهم مع تنظيم الدولة؟ ثم ما جدوى أي حكم وفتوى إن أضحى ميزان الفصل يستند بشكل كامل على أين تكون مصلحة الحكومة السورية؟
ما قيمة أي حكم شرعي أو إنكار أو اعتراض، فكل محرم يجوز لأجل المصلحة! لقد أصبحت هذه المصلحة مفهوما فضفاضا جدا، يتسع لكل مخالفة وانحراف وتبديل ومثلبة!
لذلك لنتحدث من باب المصالح التي يتذرعون بها، ويبررون بها مخالفاتهم الشرعية، فهل حقا في الانضمام لحلف أمريكا المحارب مصلحة لسوريا؟
إن توسيع هذا الباب ليشمل قتال المسلمين تحت راية كافرة – نعرف جيدا درجة حقدها على الإسلام وسجلها الدامي في سفك دماء المسلمين في كل العالم الإسلامي، لا تفرّق بين مؤمن وفاجر – ليس مجرد مخالفة شرعية؛ بل حماقة إستراتيجية تُبدّد البوصلة الشرعية وتُخلّط بين الإنجاز والفشل.
فالانضمام إلى “راية صليبية” بحجة تأمين سوريا لا يعني حماية الوطن بقدر ما يعني تفويضًا لاحتلالٍ مستتر وسيطرةٍ أجنبيةٍ على القرار والسيادة، وتمكينًا للتحالف الكافر من مفاصل البلاد.
وما يُقدَّم باسم “المصلحة” في هذا السياق ليس إلا ذوبانًا للعقيدة في منطق السياسة، واستبدالًا لحاكمية الشريعة بحسابات الميدان والمرحلة. والتحالف الدولي ليس ساذجا ولا أحمقا، فهم يعرفون جيدا ما يمليه الانضمام لحلفهم، ويعرفون أكثر أن المنتمي إليهم لا بد أن يكون مخلصا لهم وعليه أن يقدم قرابين الإخلاص والضمانات التي تورطه، على امتداد محور الزمن.
هؤلاء ليسوا هواة سياسة يمكن مراوغتهم كما يراوغ لاعب كرة السلة! بل نظام هيمنة واحتلال متجذر ومتكامل، يحمل غاية وجودية وعقيدة صهيوصليبية في عمقه يموت لأجلها.
استراتيجية سوريا في نهاية المطاف لم تفعل إلا استنساخ واقع الدول في المنطقة، في سبيل تحصيل استقرار مرتهن بقبول الأمريكي! وإن كان سيجلب بعض النتائج والمصالح المرحلية فإنه سيجلب الكثير من الخسائر والتداعيات المثخنة على بعد مسافة من الزمن.
هل هناك حلول؟
نعم هناك دائما حلول في مثل واقع سوريا، كما كانت الثورة حلا في حقبة هي الأشد ظلاما في تاريخها الحديث. يمكن للحكومة السورية أن تفرض حضورها الفاعل وتؤمّن استقرار البلاد دون الانضمام لحلف دولي محارب يخضع البلاد لشروط مجحفة تمس بسيادتها، وهويتها، وطموحاتها المستقبلية، ودون أن تضطر إلى تحريف النصوص الشرعية أو التنازل عن مبادئ عقدية وأخلاقية، دفعت دماء الشهداء والمجاهدين مقابلها.
دون أن تشوّه الصورة التي عرفها بها أهل سوريا وإظهار الذوبان في معكسر الكافرين المحاربين. الذي لا يبرره أي حديث مصلحة!
تمتلك سوريا ورقة ضغط استراتيجية لا يستهان بها تجاه الولايات المتحدة، وموقعًا جغرافيًا وسياسيًا يؤهلها لكسب تأييد الأمة كلها إن أحسنت استثمار هذه المقوّمات بحكمة وبعيدا عن الاستسلام للمصالح الخارجية.
أما الاستجابة المتهورة غير المدروسة للضغوط الأمريكية، والتي بدأت تسلط الضوء على الانجرار الكارثي لشروط صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، فستقود بالضرورة إلى حكم محلي يخضع لهيمنة خارجية. ولمجرد نموذج آخر من مستعمرات غربية تحت حكم الهيمنة المذلّ، ومن وقع في فخّ الاعتماد المالي والسياسي والعسكري الخارجي فلن ينفعه بعد ذلك ألف فتوى ولا تبرير ولا الاحتجاج بالمصلحة، فالطريق إلى الاستقلال الحقيقي لا يمر عبر التفريط بالسيادة والقرار.
تحذير من تبعية الدين للمصالح
إن أكثر ما أحذر منه بشدة، التبعية العمياء لما تقوله الرموز، ورهن الدين لشخص أو جماعة أو دولة. فالبراغماتية المتوغلة في زمننا هذا داء يعتري أصول الدين ويطمس الإخلاص لله تعالى. وتقود الأتباع نحو مخالفة الشريعة ومحاربة الإسلام في صف أعدائه ومزيد من التمكين لهؤلاء الأعداء على رقاب المسلمين، كل ذلك باعتقاد أنها وسيلة الضعيف والمحتال للتخلص من سطوة الكافرين.
إن البراغماتية اليوم، تحوّل دعواتٍ كانت تُفدى بالدماء إلى أدوات تُستغل لمشاريع تمكين سلطاتٍ وملوكٍ تقاتل من أجل الملك أكثر مما تقاتل من أجل «لا إله إلا الله».
من يخلص دينه لمشايخ أو قادة أو أحزاب لا يدين لله وحده، بل يجعل من دينه ذريعة لمشاريع مضطربة قابلة للتبدّل. لذلك، لا تكون نُصرة الحق بالتصفيق الأعمى أو التبعية الساذجة، بل بميزان الشرع العظيم.
كم سيكون عظيمًا أن نرى أمةً تنكر المنكر بلا رهبةٍ ولا مهادنة حتى لو صدر عن أحب الناس إليها، بدل أن تخذل الحقّ بالترقيع والتبرير الذي جلب ويلات أضعفت هيبة الشريعة وعظمتها وحجّمتها في حدود مصلحة الجماعة والفرد. وصوّرت الإسلام العظيم صغيرا جدا في قوالب مشاريع بشرية قاصرة لا تزال توثق حقيقة (وما قدروا الله حق قدره)!.
نصيحة للمسلمين
أيها المسلم التواق، إياك ثم إياك أن تُخلص دينك لشخص أو جماعة وتنسلخ عن قيمة الشريعة لتُقيم على هوى بشر. فالشريعة فوق الجميع، فوق المشايخ والجماعات والدول. وما وثقته تجارب الجماعات، على امتداد محور الزمن يؤكد أن الحي لا تؤمن عليه فتنة وأن الملك بالفعل عقيم وأن حب الرياسة يجلب المصاب الجلل في مشاريع الإسلام، فلا تجعل دينك عرضة للشبهات والفتن، واجعل الشريعة مقياسك الأوحد، لا النصرة العمياء، ولا التسليم المطلق الأهوج!
فمن أطاع الله فهو المؤيد من الله لا يضره تصفيقك ولا خذلانك له، ومن عصاه فلن ينفعه كل فرق التطبيل البشرية.
قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ – أَوْ كَلِمَةً نَحْوَهَا – اشْتَرُوا أَنْفُسَكُمْ، لاَ أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ لاَ أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، يَا عَبَّاسُ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ لاَ أُغْنِي عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، وَيَا صَفِيَّةُ عَمَّةَ رَسُولِ اللَّهِ لاَ أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، وَيَا فَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَلِينِي مَا شِئْتِ مِنْ مَالِي لاَ أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا ) رواه البخاري ومسلم,
فكيف يُعقَل أن يجعل المرء دينه رهينًا بجماعات تُصيب وتخطئ، وبأفرادٍ بشرٍ لا يُؤمَن عليهم فتنة، فيُخلِص لهم دينه، ويزكّي سرائرهم، ويحامي عنهم محاماة الجاهلية، حتى عند ظهور المنكر وتجاوز حدود الله تعالى؟!
بل الأعجب أن يفعل ذلك وهو لا يعرفهم إلا من خلال الدعايات التي ينشرون عن أنفسهم ويروج لها أنصارهم بتكتيم متعمد لأي مثلبة أو منكر على طريقة الإعلام الديمقراطي، ولا يحيطون علما بأكثر مما تعرضه صور الشاشات الصغيرة لا حقائق الميدان الواقعية لمن يعايش ويعاين بعينه ونفسه!
فأي غفلةٍ هذه؟! وهم والله لا يُغنون عنه من الله شيئًا.
نعوذ بالله من خذلان النفوس، ومن أن تُعْمِي العصبية القلوب عن الحق.
وبعد هذا، لا ينبغي تشويه الشريعة في مشاريع تمكينٍ تؤسس على تبدّل المواقف والفتاوى. ولا سياسات البراغماتية المصلحية التي توظف الدين لأجل مصالح الجماعات وتتنصل من الدين أمام مصالح الجماعات، فالثبات على العقيدة لا يُقاس بدندنات الخطاب بقدر ما يقاس بمدى تمسّك أصحابه بالثوابت حين تتأزم المواقف وتصطدم الحقائق وتُمتحن القلوب والأعمال.
سؤال البراغماتية المحوري
التحول من التكفير إلى التكيّف ليس مجرد تقلب تكتيكي؛ بل نموذج لمأزق أعمق تعيشه الحركة الجهادية في عصر الدولة الحديثة والتدخل الدولي. بين صلابة النصّ وضغوط الواقع، يطرح السؤال الملحّ نفسه: هل يُحفظ صفاء المبدأ ووضوحه من دون أن يؤدي إلى انتحار سياسي؟ أم أن كل براغماتية ستنتهي عاجلًا أم آجلًا إلى تفريغ الفكرة من روحها؟
الإجابة على هذا السؤال ستحدد مصير الحركات والجماعات التي تتأرجح اليوم بين النص والمصلحة، بين ما يجب أن يكون وما يمكن أن يكون. ومن إجابة صادقة ومنصفة، تنبثق خياراتٌ تحفظ الدين والكرامة والقرار السيادي.
ومخطئ جدا من يعتقد أن هناك جماعة منزّهة عن هذا الخطر؟ بل حتى أكثر الجماعات تباهيا بصدعها بالشريعة ومناداة باستحقاقية الاستقامة والصلاح، واتهاما لغيرها بالانتكاس والردة، قد وقعت في شباك البراغماتية الجهادية ووظفت لأجل مصالحها، لي أعناق النصوص والتكفير السياسي ووسائل احتيال وتدليس للتخلص من المنافس واستباحة دمه، وليس مقام تفصيل لهذه الحالة الدامية، لكن المآلات خير مجيب وخير شاهد عن كيف أن الفتن تتربص بالجميع والمغرور من ظن أنه المحصّن في دار امتحان عظيم! فلا ينجو منها إلا من تولاه الله بلطفه ورحمته! نسأل الله سلامة المنهج والخواتيم.
وهنا استحضر هيبة المنهج النبوي العظيم، في التفريق بين البار والفاجر، في كل حالة ومكان، وهو منهج عادل منصف، يستل النور من الظلمات ويحفظ حقوق المؤمنين الصادقين مهما تعقدت المشاهد واشتبكت الأوصاف وتعطلت الأسباب في واقع شديد التأزيم والخطورة. ولا يفقه ذلك إلا التقي حقا.
البراغماتية الجهادية هي الأخطر!
قال حذيفة بن اليمان رضى الله عنه: «معروفكم اليوم منكر زمانٍ قد مضى، وإنَّ منكركم اليوم معروف زمانٍ قد أتي، وإنَّكم لا تزالون بخيرٍ ما عرفتم الحقَّ، وكان العالم فيكم غير مستخفٍّ به».
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لا تزال طائفة من أمتي على الدين ظاهرين، لعدوهم قاهرين، لا يضرهم من خالفهم إلا ما أصابهم من لأواء، حتى يأتيهم أمر الله. وهم كذلك”.
هذا الظهور للحق، كان معلما بارزا في أدبيات الجماعات الجهادية. وعليه يستندون ويرسمون استراتيجياتهم للتمكين.
ولن أحتاج هنا إلى إعادة سرد التصريحات الواضحة كالنهار لأحمد الشرع وهيئة تحرير الشام، ولا لأقوال مشايخهم وشرعييهم التي كانت تستند إلى تأصيلٍ شرعي معتبر، فهذه الأقوال حاضرة كحجة دامغة على كل مبدِّل يبرر اليوم الانضمام لتحالف الأمريكان المعادي للإسلام والمسلمين.
لكنني أقول للمشاهدين: أي قرار يتخذونه لا يعني تقبله والانجرار خلفه بدون عقل، فالإسلام ليس في شخص رجل ولا جماعة ولا دولة، بل هو أعظم من كل ذلك وفوق كل ذلك.
ومن كان قادرًا على إسقاط نظامٍ ظلّ جاثمًا على صدر السوريين أكثر من نصف قرن، فبقدرته أيضًا أن يحمي وطنه ويقمع أي قوة تعتدي عليه؛ ولا يحتاج بالضرورة إلى التحاقٍ بحلف دولي يستبيح دماء المسلمين في كل مكان، وكان بالأمس القريب يطارد قياداته كمجرمين، ليؤمن أمن بلاده.
وبعيدا عن جدلية هل ما حصل خيانة أم تبديل اضطراري؟ الواقع أن ما حصل هو كشف الستار عن البراغماتية الجهادية التي في نظري هي أخطر من الخيانة والتبديل الاضطراري، فكلاهما يسهل التعامل معه وتصنيفه، لكن الأكثر خطرا هو المنهج البراغماتي الجهادي وهو حقيقة أخطر من براغماتية أحزاب الإسلام السياسي؛ ذلك أن البراغماتية الجهادية تتبدّل تبدّلاً جذريًا وتقلب المبادئ رأسًا على عقب بحجة الشريعة والمصلحة، وما كان بالأمس يُفدى وترخص له النفوس والمهج يصبح اليوم هامشيا، ولا يستحق كل هذا الاستنفار! وهذه فتنة عظيمة، وليست كحال الإسلام السياسي الذي ينطلق منذ البداية بحدود مشروعه وقدرته وطموحاته، ويعمل ضمن منظومة معلومة من التنازلات والاتفاقات.
البراغماتية الجهادية فتنة عظيمة للمسلمين، وانحراف خطير عن “لا إله إلا الله”، تحولت معها العقيدة لنص مرن يخدم المصالح والمشاريع، لا أساس صلب تخدمه هذه المشاريع.
البراغماتية دين جديد
في الوقت الذي ينشغل فيه الكثيرون باللحظة الراهنة، دعونا نسلط الضوء على خطورة المنهج البراغماتي الجهادي على الإسلام والمسلمين ليتضح لنا أبعاد المصاب الذي نتحدث عنه:
- تفريغ العقيدة من محتواها: فالبراغماتية التي تتجاوز الضوابط الشرعية والحدود التي تفرضها الشريعة، تحول المصطلحات العقدية إلى أدوات تفاوض: فيصبح «الجهاد» و«الولاء والبراء» مصطلحات قابلة للترخيص حسب المصلحة الآنية. والنتيجة تآكل جوهر العقيدة وفقدان المعيار الثابت الذي يميّز بين الحق والباطل. لقد تحولت العقيدة بفعل البراغماتية لمفهوم فضفاض جدا يسهل انتهاكه لأجل مصالح متغيرة تتغير بحسب القادة والسياسات والاصطفافات، فلا قيمة لعقيدة إسلامية تحكم كل ذلك!فحين تحكمنا المصلحة فلا قيمة لعقيدة ولا خلق، ونتحول لنظام غاب ورأسمالية، يُفرغ العقيدة من جوهرها ويُحولها لمجرد ديكور أو وسيلة تخدم غريزة حب البقاء.
- فقدان المصداقية والشرعية: عندما تتبدّل مواقف الفاعلين الجهاديين جذريًا، يفقدون ثقة جمهورهم وشرعيتهم الرمزية التي كانت سبب نجاحهم ابتداء وسبب ذياع صيتهم وقبول دعوتهم وتصديق رسالتهم. والمؤمنون الصادقون لا يتبدلون في قضايا الثوابت ومسائل الولاء والبراء، فأي تغيير يطرأ على هذه الثوابت يكسر الثقة والمصداقية، وتنتشر معه الانشقاقات والاستقطابات الداخلية، ما يضعف الفاعلية الاجتماعية والسياسية والعسكرية.
- الانقسام والتمزق الداخلي: التحوّل البراغماتي يولّد انقسامات بين تيارات تتحرك وفق مبادئها ومعتقداتها وتيارات براغماتيين يتبدلون وفق مؤشر المصلحة، ينتج عن ذلك صراعات داخلية تشتت الجهد وتسهّل تفكك الحركات أو استيعابها من قِبل قوى خارجية.
- التوظيف والترويض من قوى خارجية: ترى القوى الدولية في البراغماتية فرصة لتطويع الجماعة الإسلامية وتحويلها إلى شريك أمني أو لاعب وظيفي يخدم مخططات إقليمية، وهذا يُبعد الجماعة عن أهدافها الأصلية ويجعلها أداةً لمصالح أجنبية. ولا يجعل قيمة لشيء اسمه صراع، فقد تحول محور الصراع من أساس عقدي إلى أساس ملك وتمكين تحارب فيه العقيدة وهذا بحد ذاته هزيمة للجماعة الإسلامية ونصر كبير للتحالف الدولي المحارب، وهو أحب للتحالف من تحقيق هزيمة عسكرية ساحقة! لأنه يضمن قتل الروح المعنوية التي تعيد إخراج التمردات عليه، ويأمن لترويضها والتحكم فيها.
- إضعاف الهوية والانتماء وهدم مبادئ الاصطفاف: عندما تُبنى التحالفات على مصالح ظرفية مع قوى معادية للعقيدة أو الأمة، تُفقد الأمة عناصر تماسكها الديني والثقافي. وتتلاشى القدرة على الإصرار على السيادة والقرار المستقل. وهذا يمهد لمرحلة هي الأخطر، مرحلة الديانة الإبراهيمية ومشروع التطبيع الأكبر، الذي تعمل عليه القوى الدولية لإخضاع المنطقة لدولة “إسرائيل” الكبرى. وفي الواقع المبررات نفسها التي اتخذت لتبرير الانضمام للتحالف الدولي تمهد لقبول التطبيع مع اليهود، فلا يوجد أي فرق بين الحالتين، ستحصل سوريا على مصالح مقابل الانضمام لمعسكر المطبعين كما تحصل على مصالح مقابل الانضمام لمعسكر التحالف الدولي. وبعد هذا لا داعي لإنكار التطبيع فالمبدأ واحد، والمنهجية واحدة. ونحن أمام تمهيد لمرحلة التطبيع الأكبر، ولن يكون صادما أبدا توقيع سوريا معاهدة تطبيع مع يهود بعد اليوم بحجة المصلحة. تماما كما فعلت الدول المطبعة وتماما كما فعلت سوريا في الانضمام للتحالف الدولي.
- شرعنة ممارسات متناقضة أخلاقيًا: يُشرّع تبرير تحالفات أو ممارسات تتعارض مع مبادئ الشريعة باسم المصلحة سلوكًا غير أخلاقي ويستحل بفضل هذه السياسات التضليل، والكذب والخيانة والغدر وتداس قيم الأمانة والمروءة والصدق، ما يهدر قيمة الجهاد والتضحية ويشوه الغايات ويهدم منظومة الأخلاق التي تتصل اتصالا مباشرا بالمنظومة العقدية، وهذا الهدم لا يُجبر! بل يدمر كل عوامل القوة في المجتمع.
- التهديد الاستراتيجي طويل الأمد: قد تحقق البراغماتية بعض الربح الميداني المؤقت لكنه ربح مرحلي يترتب عليه خسارة استراتيجية دائمة: فالبراغمانية هنا تتسبب في فقدان أرضية اجتماعية، وتسليم البلاد لاحتلال سياسي غير ظاهر، وتوطيد حبال التبعية الاقتصادية والثقافية. وما يشاد به على أنه إنجاز! يتحوّل إلى هزيمة فكرية واستراتيجية في المستقبل.
- إفراغ الحركات والجماعات والتنظيمات والدعوات من معيارية الأحكام الشرعية: إذا صار ميزان الأحكام هو “ميزان المصالح” فقط، فهذا يعني أن تندثر قواعد الاجتهاد والضوابط الفقهية مع الوقت، ويصبح كلُّ مَنْ يملك قوة سياسية أو مصلحية قادراً على إصدار فتاوى تبرِّر ما يريد.
- إضعاف البناء المؤسساتي الأمين: البراغماتية تعرقل بناء مؤسسات قضائية وتعليمية مستقلة ذات مصداقية شرعية، لأن القرارات تتخذ وفق الصالح السياسي لا وفق الضوابط الشرعية والمقاصدية. وهذه نقطة ضعف في البناء يصعب جبرها. لأن خسائرها مثخنة ولا تظهر إلا بعد فترة من الزمن.
- القدوة المضطربة في عين الجيل الصاعد: فجيل الشباب الذين ينتمون إلى أو يُعجبون بجماعات، وعودها بالثبات تحولت إلى براغماتية، يفقدون قدوة المبدأ، وينشأ جيلٌ لا يرى قيمة في الثبات على الحق إذا كلف ذلك خسائر مصلحية. ويتحول إخلاصه للمصالح لا للمبادئ!
البراءة من دين البراغماتية من صميم إخلاص الدين لله تعالى
نشأت البراغماتية في الولايات المتحدة في أواخر القرن التاسع عشر، وكان من أبرز منظّريها تشارلز ساندرز بيرس وويليام جيمس وجون ديوي. وقد أرادوا من خلالها تجاوز الجدل النظري العقيم في الفلسفة، والتركيز على الفائدة العملية للفكر في حياة الإنسان والمجتمع.
البراغماتية التي أسسها الفلاسفة الغربيون، تحررت من الضوابط الشرعية والأخلاقية وفرّطت في الأصول، وتحولت اليوم إلى أيديولوجيا بديلة تبرر كل تنازل وانحراف ومخالفة باسم المصلحة.
وأول ما تفعله في حياة المسلمين هو معارضة مقاصد الشريعة، بل وأكثر من ذلك تقديم وسيلة حرب جديدة على الشريعة، كما فعلت العلمانية والديمقراطية والاشتراكية والرأسمالية وغيرها من دعوات معادية.
البراغماتية أيها الناس، مذهب فكري وفلسفي يرى أن قيمة الفكرة أو المبدأ تُقاس بمدى نفعه العملي ونتائجه الواقعية، لا بصحّته أو سلامته، أي أن البراغماتي لا يسأل “هل هذا صحيح؟” بل يسأل “هل هذا ينفع؟”، تماما كما يبرر الشرعيون المتصدرون المخالفات التي كانوا ينكرونها بالأمس، دون أن يجدوا حرجا في مناقضة مواقفهم وفتاويهم الصريحة السابقة.
وهكذا، تُعلي البراغماتية من شأن النتائج والمآلات على المبادئ والثوابت. بل تعليها على كلمة الله تعالى والعياذ بالله! فهي ترى أن الحقيقة متغيّرة بتغيّر الواقع، وليست مطلقة. ومن ثمّ، يصبح النجاح العملي أو السياسي أو النفعي هو معيار الصواب. وليس غاية إعلاء كلمة الله هي تمام الصواب!
البراغماتية التي بها يتمسكون وعنها يدافعون، تعني العمل بما يحقق المصلحة الواقعية ولو خالفت الشريعة والمبدأ الأخلاقي أو الموقف السابق الذي اعتُنق يوما بفخر وتضحية، أي أنها منهجية تعمل على تقديم “ما يمكن فعله” على “ما يجب فعله”.
من منظور شرعي، البراغماتية ليست كلها مرفوضة، فالإسلام يقرّ بالمصلحة المعتبرة والموازنة بين المفاسد والمصالح، وهذا أمر معلوم في السياسة الشرعية، لكن الخطر يبدأ عندما تُتّخذ المصلحة مبدأً مطلقًا، فتُغيّر العقائد والولاءات والثوابت بدعوى الواقعية.
وهنا نحن أمام براغماتية هي محض انحراف عقدي وسلوكي لأنها تجعل المصلحة حَكمًا على الشريعة، لا محكومةً بها.
فاحذر أيها المسلم أن تنحرف عن “لا إله إلا الله” وتسقط في شباك البراغماتية المنحرفة عن منهج النبوة الخالص، فلن تغني عنك كل المصالح التي يدعون، من الله شيئا!
وهم يحملون حجتهم أمام الله تعالى غدا ويجادلون بها عن أنفسهم ولست محامي الدفاع عنهم يومها حتى تنبري للدفاع عن انضمامهم للتحالف الدولي المحارب اليوم، مهما بلغت ثقتك ومحبتك للقوم! إنما يكفيك أن تصدق مع الله في الثبات على الاستقامة بصبر وتوكل وتعظيم لحق دينه وإعلاء لكلمته جل جلاله. فقل خيرا أو اصمت. وصية نبينا صلى الله عليه وسلم.
ولا تعتقد أن الصراع يقف عند هذه المرحلة، بل المراحل المقبلة أشرس وأشد قوة ومصادمة، مع مشروع اليهود المسعور الذي لا يزال يتمدد بلا خشية من أحد وبدعم حثيث ورعاية فائقة من التحالف الدولي المحارب المجرم، ما يتطلب استعلاء بالإيمان وتمسكا بالعقيدة ووضوح منهج وموقف ومعسكر، لا يقبل المساومة ولا التزلف! ومن يحفظ حدود الله تعالى ينصره الله عز وجل وإن خذلته كل الجموع والقوى، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
اللهم إنا نبرأ إليك من منهج البراغماتية، بكل مخرجاتها المخالفة للإسلام وشريعة رب العالمين. اللهم إنا نبرأ إليك من كل تبديل لدينك وشريعتك، وكل ما يفرق المسلمين عن منهج نبيهم صلى الله عليه وسلم.
هذا ما سعيت إلى إيصاله أمانةً ونصحًا لله وللمسلمين، وأسأل الله أن يجعل فيه النفع والبيان والشفاء، فهو وحده الموفق والهادي إلى سواء السبيل.
﴿وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾.





اترك تعليقاً