أُعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عن إبرام اتفاق “المرحلة الأولى” لهدنة غزة، التي تشمل وقف إطلاق النار من الطرفين وتبادل الأسرى وسحباً جزئياً لقوات الاحتلال الإسرائيلي.
الاتفاق أعلن عبر قنوات دولية ووساطات مصرية وقطرية وتركية، ولقاءات قادها مسؤولون أميركيون في المنطقة.
رحبت جميع الأطراف بالاتفاق الأولي، ومن بينهم تركيا التي تلعب دور وسيط في الاتصالات مع حماس، وأعلنت ترحيبها بالمبادرة ونيّتها متابعة تنفيذها؛ كما ذُكر أن أنقرة ستشارك في آليات رقابية ومهام إنسانية مشتركة والتي تتضمن مهمات فرق البحث عن جثث الأسرى اليهود داخل القطاع، لضمان تسليمهم كما ينص اتفاق تبادل الأسرى. حيث سيتم تسليم 2000 أسير فلسطيني في سجون الاحتلال مقابل تسليم 20 أسير يهودي.
ومع أن الرئيس التركي طيب رجب أردوغان، قد أعلن عن قوات تركية سترسل لقطاع غزة لضمان إتمام المرحلة الأولى من الاتفاق. إلا أن الجانب الإسرائيلي لم يعلن عن موقفه من هذا الإعلان بعد.
تحديات أمام نجاح الهدنة؟
أول تحدي أمام الهدنة، الالتزام الميداني بانسحاب قوات الاحتلال الفعلي، ووقف إطلاق النار المتزامن، وضبط نقاط التفتيش والمراقبة، فأي خرق مبكّر سيهدد انهيار الهدنة. وللاحتلال سجل مخزّ في إفشال الهدنة بسبب خروقاته العدوانية. وفي الواقع لقد أثبت مرارا أنه غير مهتم لسلامة أسراه، ولذلك حتى قبيل إتمام صفقة التبادل، غدر اليهود لن يكون غريبا.
وأي خروقات، ستعمّق من معاناة السكان، وتعود الأزمة إلى مراحل تصعيد لاحقة، وهذا السيناريو سبق أن حصل في تجارب سابقة.
التحدي الثاني، يكمن في وجود آليات التحقّق من استمرار الهدنة، من يراقب ويحقق في الخروقات؟ هل الوسطاء المصريين والقطريين والأتراك والدوليين عموما، يملكون آلية مستقلة، لضبط الهدنة؟ بفرض مراقبة ونقاط تفتيش وتوثيق سجلات إطلاق نار، والتحقق من تسليم قوائم أسرى، وتوثيق كل ما اتفق عليه في الهدنة. أم سينفلت لجام قوات الاحتلال من جديد ويكذبون في روايتهم كعادتهم ويعيثون في الأرض فسادا؟ خاصة بعد استلام أسراهم، والسؤال الأخطر في هذه الحال: من يضمن التزامهم بشروط الهدنة بعد استلام آخر أسير ينتظرونه؟
التحدي الثالث: ما مدى مصداقية إدخال المساعدات وفتح بوابة المعبر، هل سيتدخل اليهود كعادتهم في منع وصول كامل للمساعدات؟ أو هل سيحتجون بسرقتها ويحرم الناس أرزاقهم؟ ملف المساعدات لا يزال مؤرقا، والناس في حاجة لا تقبل المماطلة. وما مدى مصداقية الأرقام المعلنة عن عدد الشاحنات وما سيدخل القطاع؟ وهل سيلبي حقا احتياجات سكان القطاع المنكوبين؟
التحدي الرابع: إلى متى سيستغرق الوقت لتحقيق كل ذلك والشتاء على الأبواب، هل سيتمكنون من تحسين الظروف المعيشية لأهالي القطاع مبكرا وسريعا، فكل إطالة للمرحلة، يعني أن الأهالي سيضطرون للعيش تحت الخيم الهشة في فصل الشتاء، وإدخال المساكن المؤقتة وتسوية الأحياء بأفضل مما هو الحال عليه الآن أولوية قصوى ويستغرق وقتا، وهذه أرواح تتعذب في ظروف حصار طال أمده، خاصة مع تداعيات المجاعة والأمراض والظروف الصحية المتدهورة. ما يحتاج لتوفير المستشفيات الميدانية والعلاجات العاجلة فورا بدون أدنى تأخير.
إذا اتفاق الهدنة لا يزال حقيقة مهددا بكل تفاصيله، بنكث اليهود وغدرهم قبيل تسليم أسرى اليهود وبشكل أخطر بعد تسليمهم، ومع ذلك في هذه المرة هناك مؤشرات قد تجعل من إتمام الاتفق الأولي ممكنا، ولعل أبرزها: دخول قوات دولية للقطاع تحت اسم قوات سلام.
حيث ستتولى هذه القوات متابعة مرحلة تسليم الأسرى وانسحاب الجيش الإسرائيلي ومراقبة وقف إطلاق النار في هذه المرحلة الأولية.
وقد أعلنت تركيا عن مشاركتها في هذه القوات، لكن مما يجب التنبيه إليه أن الطرف الإسرائيلي لم يظهر موافقة بعد على خبر دخول قوات تركية وبقي الإعلان من جانب الأتراك. وغالبا سيواجه قرار دخول قوات تركية داخل غزة عقبات قانونية وسياسية وجغرافية:
فلابد أن يسبقه موافقة الاحتلال، وموافقة حماس وموافقة مصر وبالطبع أمريكا.
والمتوقع أن قبول دخول قوات سلام لن يتجاوز الخدمات الإنسانية، فلن يسمح لها بأي عمل عسكري، ليتخلص دورها في بحث جثث الأسرى اليهود وإيصال المساعدات، بغطاء دبلوماسي من الوسطاء وبموافقة الاحتلال.
احتمالات نجاح المرحلة الأولى من الاتفاق مرتفعة حاليا من حيث أن اليهود من مصلحتهم تحرير أسراهم أمام الضغط الداخلي الكبير لعائلات الأسرى ومناصريهم ولم يعد هناك قبول لتصرفات حكومة ناتنياهو المستفزة وغير المسؤولة في نظرهم.
كما أن ترامب يضغط بطريقته أيضا لانتزاع لقب صانع السلام بتحرير أسرى اليهود. وحديثه عن زيارة له مرتقبة للمنطقة يعني زيارته لفلسطين المحتلة وتقديم بعض ما يعزز علاقته مع اليهود، حيث ينتظر منه يوم الأحد أن يخطب أمام الكنيست ليحتفل بما يسميه نجاحا وما هو في الحقيقة إلا النجاح في انتشال النتن ياهو من مستنقع التخبط في غزة الذي أوجب له سخط شعوب العالم وهز صورة الاحتلال بشكل لم يسبق له مثيل والتي يسعى الغرب لتمليعها الآن واستدراك خسائرهم فيها.
إذا سارت الأمور كما يجب سيكون هناك: تثبيت الهدنة، وعملية إنسانية متواصلة، والبدأ في إعادة إعمار القطاع تدريجيا.
لكن العقبة الكبيرة ستكون عند البدأ في المرحلة الثانية للاتفاق، والحديث عن نزع سلاح حماس، والذي كانت فيه الأخيرة واضحة أنها لن تسلمه، بل ستجمده أو تسلمه لحكومة فلسطينية.
في هذه المرحلة فإن ضغوط اليمين على الحكومة الإسرائيلية لرفض أي انسحابات أو للتشدد في الشروط قد يُعرقِل الاتفاقية ويدخل مسارا مسدودا من جديد.
وأما فصائل المقاومة فلن تسلم سلاحها لعدوها، ولن تقبل بأن يحكم توني بلير القطاع، وهذه نقطة تصادم لا مفر منها.
سيستخدم الاحتلال نقطة نزع سلاح حماس كذريعة لاستمرار الحرب، وهنا تبقى كل الاحتمالات تدور في مدى جدية ترامب الحقيقية في إيقاف الحرب، ومدى إمكانية إنشاء حكومة مقبولة للاحتلال والغرب وحماس، لتستلم زمام القطاع.
لا تكفي هدنة عسكرية مؤقتة في هذه الحال بل يلزم وجود جدول تفاوضي للملفات الأساسية وفي مقدمتها إدارة المعابر، الحكم المحلي، إعادة الإعمار، والضمانات الأمنية. ووجود دور إقليمي منسق لإعطاء الضمانات وتخفيف الضغوط على سكان القطاع. الاتفاق الأخير يَمنَح فرصة حقيقية لكنه فرصة هشّة.
إذا جرى تفعيل آليات تحقق موثوقة وتقديم مساعدات فورية وربط الهدنة بإطار سياسي واضح، فهناك احتمال حقيقي لتهدئة مطوّلة ولبداية إعادة إنعاش إنساني لقطاعٍ تمزّقه الحرب. أما إذا اكتفت الأطراف بضمان نجاح عملية تبادل الأسرى دون الحديث الجاد عن حل الملفات العالقة، ونية حقيقية في حلها، فستبقى الهدنة قابلة للانهيار بسرعة، وسينقلب المشهد إلى مزيد من العدوان والتصعيد. والذي لن يكون خبرا سعيدا للإدارة الأمريكية وخططها المكيدة.
اترك تعليقاً