«إنْ متنا، متنا»: سكان راخين في ميانمار يُدفعون إلى حافة الهاوية

٢٠٢٥٠٨٠٨ ٠٨٣٤٠٨

«إن استمرّ حجبُ الإمدادات الغذائية، فقد تواجه جماعات الراخين والمسلمين الروهينجا مجاعةً خلال الأشهر المقبلة».

يعاني مسلمو الروهينجا في ولاية راخين بميانمار، منذ عقود، من سلسلة طويلة من الانتهاكات، تشمل تقييد حركتهم، واعتقالهم تعسفًا، وإجبارهم على الأعمال القسرية، وعمليات القتل خارج إطار القانون، وحرمانهم من الجنسية، وها هم اليوم يُحرمون أيضًا من الغذاء.

وليس الأمر مقتصرًا على المجلس العسكري الحاكم؛ فقد اتهمت منظمة “هيومن رايتس ووتش” – في بيان صحفي حديث – جيش أراكان، وهو أبرز الفصائل المسلحة القومية العِرقية المناهضة للمجلس العسكري، بارتكاب انتهاكات وقمع مماثل بحق الروهينجا، وهي اتهامات تعود جذورها لسنوات مضت.

وأشارت المنظمة إلى أن حياة الروهينجا تحت سلطة جيش أراكان وجناحه السياسي، “اتحاد أراكان المتحد”، تتسم بالقسوة والتقييد، وتخضع لأنظمة وممارسات تمييزية. واستندت هذه النتائج إلى مقابلات مع اثني عشر لاجئًا من الروهينجا فرّوا إلى بنغلاديش قادمين من شمال راخين، وهي شهادات تتعارض مع تعهّد جيش أراكان المعلن بـ “حماية حقوق جميع المجتمعات على قدم المساواة في الإقليم”، بما في ذلك الروهينجا.

أما أولئك الذين نَجَوا من فظائع المجلس العسكري في الماضي، وتمكّنوا من الإفلات من بطش جيش أراكان، فما تزال حياتهم غايةً في الصعوبة.

1000018400

فاطمة خاتون، أرملة مسلمة من الروهينجا في عقدها الرابع، تقيم في بلدة كياوكتاو شمال شرقي راخين، وهي واحدة من ثلاث بلدات في الولاية ما تزال خاضعة لسيطرة الجيش.

تقول فاطمة، وهي جالسة على أرضية رطبة داخل كوخ مؤقت من الخيزران والمشمع، تتسرب الأمطار من سقفه: «لا أملك عملًا ثابتًا؛ إن وجدتُ فرصة عمل، أنتهزها، وإن لم أجد، أستعين بأقاربي. فإذا عجزوا عن المساعدة، أكتفي بالجوع».

توفي زوجها بسرطان قبل أربعة أعوام، تاركًا لها عبء تربية أربعة أطفال بمفردها. كانت تعمل في الحقول وتحمل البضائع، غير أن سبل الرزق انقطعت. وفي الأيام التي لا تجد فيها عملًا، تقتات الأسرة على كوبين من الأرز فقط.

وتضيف: «لم أرَ اللحم أو السمك منذ زمن بعيد، ولا قدرة لي على شرائهما. ألتقط أوراق الكسافا من على جانبي الطريق أو أبحث عن الخضار في الحقول».

ومؤخرًا، حين مرض أصغر أبنائها، لم تستطع تحمّل تكاليف العلاج. وتقول: «نعيش يومًا بيوم؛ إن متنا، متنا، وإن بقينا أحياءً، واصلنا العيش. لقد تصالحت مع الأمر».

وعلى خلاف مناطق أخرى في ميانمار التي تمزقها الحرب الأهلية، تعيش ولاية راخين، على الساحل الغربي للبلاد، في عزلة شبه تامة عن شبكات الإغاثة المحلية والدولية، إذ أدت القيود المفروضة منذ زمن طويل على الحركة، واستمرار الجيش في حجب المساعدات، وتشديد جيش أراكان قبضته على المنطقة، إلى جانب الاشتباكات المستمرة بينه وبين المجلس العسكري، إلى محاصرة عدد كبير من المدنيين – من الروهينجا والراخين على حد سواء – وهم يكابدون صعوبة الحصول على الغذاء أو الرعاية الطبية أو سبل العبور الآمن.

إن شبكات الدعم الشعبية التي شكّلت ركيزة المقاومة والبقاء في أماكن مثل ساجاينغ وكاريني، تكاد تكون أضعف بكثير هنا. ورغم أن انعدام الأمن الغذائي منتشر في أرجاء ميانمار، فإن راخين هي الإقليم الوحيد الذي حذّرت الأمم المتحدة من أن «مجاعة حادّة» باتت وشيكة فيه، مع وجود أكثر من مليوني إنسان مهددين بالموت جوعًا.

وقال أونغ كو كو، المدير التنفيذي المؤسس لمنظمة “موزاييك ميانمار” – المعنية بحل النزاعات وحقوق الأقليات، والتي تجري أبحاثًا في مختلف أنحاء البلاد – لصحيفتي “ذا نيو هيومانيترين” و”ويسترن نيوز” الميانمارية: «إذا استمر حجب الإمدادات الغذائية، فقد تواجه مجتمعات الراخين والمسلمين الروهينجا مجاعة خلال الأشهر القادمة».

وقد روى لاجئون من الروهينجا لـ”هيومن رايتس ووتش” أنهم «مُنعوا من العمل، أو الصيد، أو الزراعة، أو حتى التنقّل دون إذن مسبق»، وأنهم «واجهوا نقصًا حادًا في الغذاء، حتى بات معظمهم يقتات على التسوّل من بعضهم البعض»، وفق شهادة رجل في الثانية والستين، حُجبت هويته مع آخرين في هذه الرواية لأسباب أمنية.

كما قال شاب في التاسعة عشرة، أمضى خمسة أشهر مع جيش أراكان بعد أن جرى تجنيده قسرًا للعمل، إن الروهينجا كانوا يُدفعون غالبًا إلى خطوط القتال الأمامية كـ«دروع بشرية».

«إذا أبدى أحدهم مقاومة، تعرّض للضرب والسخرية»، قال. «سألناهم إن كان يمكن أن يعاملونا على قدم المساواة، فقالوا إنهم سيعاملوننا كما كان يعاملنا البورمان – ذوو الأغلبية العِرقية – وراحوا يصفوننا بـ(البنغالي كَلار)»، وهو لفظ مهين للمسلمين.

ورغم أن تركيز المنظمات الحقوقية والتقارير الإعلامية انصبّ على الانتهاكات الواقعة في البلدات الثلاث الشمالية المتاخمة لبنغلاديش، فإن القيود وحرمان الناس من حقوقهم الأساسية تمتد إلى سائر أرجاء الولاية، حيث بسط جيش أراكان سيطرته على 14 بلدة من أصل 17 منذ أن أطلق هجومه في 1445هـ (نوفمبر/تشرين الثاني 2023م).

وقال شاب من الروهينجا، يبلغ من العمر 24 عامًا، من بلدة مينبيا وسط راخين، لصحيفتي “ذا نيو هيومانيترين” و”ويسترن نيوز”: «الروهينجا في راخين لا يملكون حرية التنقّل أو الحصول على التعليم. أريد أن أدرس. أريد أن أذهب إلى المدرسة. أريد أن أتمكن من السفر إلى مناطق أخرى من البلاد».

العاصفة المثالية

قال أونغ كو كو: «اللاجئون والنازحون اليوم لا يكابدون فقط للحصول على الطعام والكساء والمأوى، بل يعانون أيضًا من انعدام الوصول إلى الدواء. وبالمقارنة مع اللاجئين على طول الحدود التايلاندية-الميانمارية، فإن المجتمعات في راخين هي الأشد تضررًا. وحتى الآن، لم نسمع عن وصول أي من وكالات الإغاثة الدولية إلى الجانب الخاص براخين».

وكان يشير بذلك إلى قيام المجلس العسكري بحجب المساعدات الإنسانية عن أجزاء من راخين منذ 1445هـ (نوفمبر/تشرين الثاني 2023م)، على نحو يوازي قيود الاحتلال الإسرائيلي على المساعدات إلى غزة، التي دفعت السكان الفلسطينيين إلى حافة المجاعة.

رغم أن ثلاث بلدات فقط ما تزال تحت سيطرة المجلس العسكري، فإن إحداها هي سيتوي، عاصمة الولاية وميناء راخين الرئيسي ومركزها الحيوي للنقل. كما أن ضعف البنية التحتية في راخين، والانقطاعات المتكررة في خدمات الإنترنت والاتصالات، تُعطل إيصال المساعدات، غير أن سيطرة المجلس العسكري على مدينة كانت في الماضي منفذًا أساسيًا للمساعدات الإنسانية تُعد سببًا جوهريًا في حرمان الناس من الوصول إلى أبسط أشكال العون.

وقالت منظمة “فورتيفاي رايتس” الحقوقية إن الحصار الذي يفرضه المجلس العسكري أدى مباشرةً إلى مقتل مدنيين، وحذّرت من أن هذه الأفعال «قد ترقى إلى جرائم حرب».

كما دفعت القيود المفروضة على المساعدات وتصاعد حدة الصراع منظمة “أطباء بلا حدود” إلى تعليق أنشطتها الطبية في شمال راخين إلى أجل غير مسمى في 1446هـ (يونيو/حزيران 2024م). ولم تُجب المنظمة على طلب التعليق.

أما اللجنة الدولية للصليب الأحمر، فأبلغت صحيفتي “ذا نيو هيومانيترين” و”ويسترن نيوز” بأنها ما تزال تُقدّم المساعدات «حيثما تسمح الظروف الأمنية»، لكنها لم تُفصح عن تلك المواقع.

حتى قبل بضعة أشهر، كان برنامج الأغذية العالمي يقدّم مساعدات بالغة الأهمية ويعمل بشكل محدود رغم الحصار. ثم في مارس/آذار، أعلنت الوكالة أن نقص التمويل يهدد المساعدات الغذائية لأكثر من مليون شخص في ميانمار، من بينهم نحو مئة ألف في وسط راخين «لن يكون لديهم أي وصول إلى الغذاء». وقالت مصادر محلية في راخين إن البرنامج أوقف منذ ذلك الحين مساعداته هناك، فيما لم ترد الوكالة الأممية على طلبات التعليق.

ورغم أن المجتمعات في مختلف أنحاء ميانمار قد تواجه ما يُعرف بـ«الأزمة المركبة»، فإن الأوضاع في راخين بالغة البؤس، إذ تتفاقم هشاشة السكان بسبب الانتهاكات التي يرتكبها كلٌّ من جيش أراكان والمجلس العسكري.

ثان هلا ماي، البالغة من العمر 36 عامًا، فرت من قريتها قرب سيتوي حين وقعت تحت سيطرة جيش أراكان، وبلغ القتال بين الطرفين عتبة بيتها. وهي تعيش منذ قرابة عام في مخيم للنازحين في بوناغيون بوسط راخين، وتقول إنها لم تتلقَّ أي دعم منتظم منذ سبعة أشهر.

وتضيف: «لا توجد أي منظمة تدعمنا بانتظام. بعض المجموعات قدمت لنا خمسين ألف كيات (حوالي خمسة عشر دولارًا) لكل شخص، دون أن تُفصح عن اسمها. وأحيانًا نحصل على أشياء بسيطة مثل الصابون ومعجون الأسنان».

كما أن راخين أصبحت عرضة بشكل متزايد لظواهر جوية قاسية، من بينها الأعاصير، مثل إعصار موكا عام 1444هـ (2023م). وقد شهدت الولاية بالفعل جولتين من الفيضانات خلال موسم الأمطار الحالي، ما أثّر على مخيم ثان هلا ماي. ومع ذلك، فهي عالقة هناك لأن جيش أراكان منعهم من العودة إلى منازلهم، بحجة تكرار الاشتباكات في المناطق القريبة.

«لم يتبقَّ لنا شيء»

قبل وقت طويل من الانقلاب العسكري في 1442هـ (فبراير/شباط 2021م)، الذي أطاح فيه قادة الجيش بالحكومة المنتخبة ديمقراطيًّا، كانت ولاية راخين واحدة من أفقر مناطق ميانمار وأكثرها ابتلاءً بالصراعات، ومسرحًا لدورات متكررة من العنف، وحملات القمع العسكري، والتوترات العميقة بين مكوّناتها المجتمعية.

في عام 1438هـ (2017م)، نفّذ جيش ميانمار ما سمّاه «عمليات تطهير» عقب هجمات شنّتها جماعة مسلحة من الروهينجا، ما أسفر عن مجازر جماعية، وانتهاكات جنسية، وتشريد أكثر من سبعمئة ألف من الروهينجا إلى بنغلاديش.

أونغ سان سو تشي، زعيمة البلاد آنذاك، رفضت أمام الأمم المتحدة اتهامات الإبادة الجماعية ووصفتها بأنها «ناقصة ومضللة»، لكن محققي المنظمة الأممية خلصوا لاحقًا إلى أن تلك الانتهاكات حملت «نيةً إباديّة». وفي 1446هـ (نوفمبر/تشرين الثاني 2024م)، طلبت المحكمة الجنائية الدولية إصدار مذكرة توقيف بحق مين أونغ هلينغ، قائد الانقلاب في ميانمار، بتهم ارتكاب جرائم ضد الإنسانية على خلفية اضطهاد الروهينجا.

من جهتها، دعت منظمة “فورتي فاي رايتس” مرارًا المحكمةَ إلى التحقيق كذلك مع جيش أراكان بسبب انتهاكاته وعمليات القتل الجماعي التي ارتكبها بحق المدنيين الروهينجا، فضلًا عن إعدامه خارج نطاق القانون لجنود من المجلس العسكري.

إلين بيرسون، مديرة قسم آسيا في منظمة “هيومن رايتس ووتش”، حثّت في بيان صحفي بتاريخ 28 يوليو/تموز جيش أراكان على «إنهاء ممارساته التمييزية والانتهاكية والامتثال للقانون الدولي». وفي الأثناء، عبّر مراقبون لميانمار وعاملون في المجال الإنساني عن مخاوفهم من العواقب البعيدة المدى على مجتمعات الروهينجا والراخين على حد سواء.

ورغم أن البوذيين من إثنية الراخين لا يتعرضون لمستوى الاضطهاد الذي يواجهه الروهينجا، فإنهم أيضًا عالقون في أتون المواجهات بين جيش أراكان والمجلس العسكري.

ومنذ عام 1444هـ (2023م)، اعتمد المجلس العسكري «بشكل متزايد على العنف عن بُعد، بما في ذلك… الغارات الجوية» التي غالبًا ما تطال المدنيين، بمن فيهم سكان راخين، بحسب بيانات مشروع تتبع مواقع وأحداث النزاع المسلح (ACLED).

نيو سين مينت، البالغة 55 عامًا ومن إحدى قرى كياوكتاو، فقدت منزلها في إعصار موكا في 1444هـ (مايو/أيار 2023م)، وهو الإعصار الذي أودى — بحسب المجلس العسكري — بحياة ما لا يقل عن 145 شخصًا، وألحق أضرارًا بأكثر من 180 ألف منزل.

قالت بأسى: «لا أزال عاجزة عن إعادة بناء منزلي، ولا عمل لدي». كانت فيما مضى تبيع الوجبات الخفيفة، غير أن تجارتها انهارت بعد العاصفة، واقتصر ما قدمته الحكومة من معونة على بعض الأغطية البلاستيكية وأدوات المطبخ.

أضافت: «حصلت على قدور وأطباق وقليل من الصحون».

بعد ستة أشهر من الإعصار، وأثناء استعدادها لبدء إعادة البناء، أُصيب زوجها في غارة جوية شنّها المجلس العسكري بينما كان يفرّ من اشتباكات بين جيش أراكان والقوات الحكومية. وقد التهم علاج إصابته جميع مدخراتهما.

«أنا محظوظة لأنه نجا»، قالت بصوت متهدّج، «لكننا لم نعد نملك شيئًا».

ذا نيو هيومنتاريان.

اشترك في نشرتنا البريدية للإطلاع على ملخص الأسبوع

Blank Form (#5)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

طالع أيضا